التعليممقالات

سفن الامان بين الفلسفة والعرفان …

إنّ مِن نِعَم اللّه وأفضاله أن أودَع في الأنسانِ صفاةً فِطرية ودَوافع غَرائزية غَير شعورية تَدفعه للسّير باتجاه معرفة الله وتُحفّزه الى رحلةِ البّحث عن حقيقةِ الكمالات المُوصلة الى الكمال المطلق وإدراك عالم القُدس والسكينة والطمأنينة؛ فَتُطَهّر النّفس مِن الموانع والحواجز والوَساوس والشكوك وتَصِل الى مَرتبة اليقين المُطلق أو ما يطلق عليه “بحق اليقين”.
قالَ الإمام الصادق عيه السلام: (مَنْ استوى يوماه فَهو مغبون، ومَنْ كان آخر يومه شرّهما فهو ملعون، ومَنْ لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة1).
إنّ شَرَفَ الطّالب بِشَرف المّطلوب فَكُلّما كان المَطلوب أجَل وأقدَس كانَ السّير نَحوه أشرف الأعمال وأنّ العَناء مِن أجلِ الوصول الى حَقيقة كَماله هِيَ مِنَ التَوفيقات الربّانية والنِّعَم الألهية، لا يَنالها الّا الخَواص مِن عِباده٬ ولأنّ هذا والسّعي هو من أجل الوصول الى إدراك بَعضاً مِن نُعوته وصفاته، فهي اذن أشرف رحلة وأنّ الفيوضات المُدْرَكة وإنْ كانت مُتواضعة في أول الطّريق لكنها تَبقى بابٌ الی روضات الجنان وَقَبَسٌ يَناله السالك من مصدرِ النّور المُطلق.
عَن أميرِ المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: (أولُ الدين معرفته، وكمالُ معرفته التصديق به، وكمالُ التصديق به توحيدُه، وكمالُ توحيده الإخلاصُ له، وكمالُ الإخلاص له نفيُ الصفات عنه، لشهادة كلِّ صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة2).
وَعَن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لَو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عز وجل ما مدوا أعينهم إلى ما متع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها، وكانت دنياهم أقلَّ عندهم مما يطوونه بأرجلهم، ولنَعِمُوا بمعرفة الله عز وجل وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله. إن معرفة الله عز وجل أنْسٌ من كل وحشة، وصاحبٌ من كل وحدة، ونورٌ من كل ظلمة، وقوةُ من كل ضعف، وشفاءٌ من كل سقم. ثم قال عليه السلام: وقد كان قبلكم قوم يُقتلون ويحرقون وينشرون بالمناشير وتضيق عليهم الأرض برحبها، فما يردهم عما هم عليه شئ مما هم فيه، من غير تِرَةٍ وُتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى، بل ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، فاسألوا ربكم درجاتهم، واصبروا على نوائب دهركم، تدركوا سعيهم3).
إنّ هذه الرّحلة يَتَمَكّن مِن خلالها السّالك إدراك صُوَر العالم الأُخرَوي فَتَنعكس على الحياة الدنيا لِيَتعايش معها روحاً وَتَطبيقاً وتَشريعاً، فَهو يَتّخذ من الدنيا ممراً نحو الآخرة، ويرتشف ماء الحياة من نَبع العالم الأُخروي ما يَرتوي به لِعَطش الدّنيا، ويَعيش الدنيا ليس لكونها حقيقة الوجود، إنّما يَختَرقها للوصول نحو الكّمال المُطلق.
وفي وَصف هذا المعنى قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في وَصْف المُتّقين: (عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ4).
وَهنا يأتي السؤال: هَل أنّ لِمَحدوديّة العَقل القُدرة علی تَشخيص وَخَوض هذه المّهمة الصّعبة وإدراكها ببصيرة من أجل طَيِّ المَراتب الموصله الى الذّات المُقَدّسة؟
لَقَد جَعَلَت المّسالك الفَلسَفيّة العَقلَ محوراً ومُنطَلَقاً وطَريقاً نَحو إدراك حَقيقة الأمر والوجود، بَينما اتّخَذ العرفانُ الرّوحَ طريقاً للكّشف وَمَسلكاً لإدراك تلك الحقيقة، فَفَتح هذا التَباين البابَ على مصراعيه للصراع بَين هذين المَسلكين. ولأن الخطأ في اختيار مَسلكٍ مُحَدّد علی حِساب الآخر دُون الإتكال على الحُجّة والدّليل قَد تَتَرتّب عَليه نتائج وَخيمة، لهذا كَتب الكثير ونَظّر لهذين المَسلكين العديدُ مِنَ الفلاسفة والمُفَكّرين وَكُلٌ لَه دَليلُهُ وَحُجّتُه، فَمَطبّات الطّرق الخاطئة تَجعَل السّالك يَعيش في التَّيْهِ المُطلق بَدَل الوُصول الى فيوضاتِ الحَقّ المُطلَق.
وفي هذا المَقال المُقْتَضَب نَعرض بأيجاز واختصار رُؤية كلّ مِن هذين المَنهجين لَيس مِن أجلِ إثبات أحَدهما أو نَفي آخر بل من أجلِ تَسليط الضّوء علی مُتَبنّيات هذين المَسْلكين، ثُمّ نَعَرّج علی الطّريقِ الأقوم والمَّنهَج الأسلم، مَنهَجَ سُفُن الأمان وَحَمَلة القُرآن، المُصطَفى واهل بيته الأطهار صَلواتُ اللّه وسلامه عليهم، سبلُ النجاة وأمناءَ الوحي والأدلّاء على الله، بهم فَتَح اللّه وَبهم يَختِم.
الفَلسفة كلمةٌ أصلها يُوناني وَتعني “محبُّ الحكمة”، وكانَ أرسطو أول من قدّمها كقاعدةٍ منطقيّةٍ اعتَمَدها كمنهجٍ لمعرفة وَفَهم غَوامض الوجود وإثباتها يكون باستخدام الأمور الحسيّة والعَقلية. فالفَلسَفة اذن هِي المَنهج المَعرفي في البّحث والإستدلال في أمورِ الكون والإنسان والخالق مُستنداً الى العَقل والفِكر والإرادة كقواعدَ وأسُس ومَناهج في هذا الإستدلال. وقد عرّف الفَلسَفة جُملة مِمّن اسّسَها ونَظّر لها، (فسقراط عرّف الفلسفة على أنها “البحث عن الحقائق بحثاً نظرياً، وخاصةً عن المبادئ الخلقية، من خير وعدل وفضيلة” بينما أشار أفلاطون الى أنّها “البحث عن حقائق الأشياء وعن الجمال والانسجام الذي يوجد في الأشياء والذي ليس الا الخير”، في حين أكّد أرسطو على أنّها “العلم بالمبادئ الأولى التي تفسر بها الأشياء حين يتدرج العقل عند مواجهته للأشياء من علة إلى علة حتى يصل إلى العلة الأولى التي هي علة العلل أو حقيقة الحقائق”5).
وَلعَلّ أرسطو هُو أول من أدرَج مَفهوم العقل (noûj) في حَقل الفكر الفَلسفي. وأعدّه من أساسيات المَنهج البَشري في المَعرفة والإدراك. وقد ألغى أرسطو مَفهوم النفس من خلال إعتماده على ثُنائية الصورة والمادة، فَقَد عَرّف النَّفس على أنّها (صورة للجسد)، وذَهَب أبعَدَ من ذلك حينما ألغى الفَرضيّة الأفلاطونية (روح وجسد) والغى استقلالهما، بمعنى أنه لم يؤمن باستقلال النّفس عن الجسد.
ثُمّ انتَقل هذا المَنهج الى البُلدانِ الاسلامية خُصوصاً في عهد بني العبّاس، وأسبابها لا تخفى على القاريء الكريم٬ حيث انهَمَكوا بترجمة تلكَ الأفكار والمناهج من اليونانيّة إلى العربيَّة، وفي ظل المآرب المَشبوهة فقد عَمَدت السُلْطة الى خلط الأوراق فتأثر بها الكثير من المسلمين وأخذ البعض منهم يُؤسّس لها مدارس ونَظَّر لها الكثير من المُفكرين واعتبروها مَنهَجاً يُعتَمد عليه من أجل الرُقي والتكامل البشري.
إن فَلاسفة المُسلمين خصوصاً أولئك الذين تَكلّموا ونَظّروا لمفهوم العقل هُم كثيرون، وأن ذِكرَهم بالتفصيل قد يَضيق به المقال ولا يخدم البحث، لذا سَنَقتَصر على إيجاز الرُّموز منهم، ولَعلّ أهم مَن أهتَمّ وَشَرَح ونظّر لفكرة العَقل من المسلمين هو يعقوب بن أسحاق الكندي خُصوصا في كتابه (رسالة في العقل) والذي أشار الى ما سمّاه بالعقل البَياني والذي من خلاله ينقل ما يتعلق بالعقل الى عقلٍ آخر. والحقيقة هذا ما أشار اليه بطريقةٍ او أُخرى الاسكندر الأفروديسي في نظريةِ العُقول الثلاث. والفارابي يُعَد من عَمالقة مَن كَتَبوا فيما سَمّاه بالعقل الهيولاني والذي هُو الأستعداد لإدراك الحقائق أو لِقَبول المَعقولات. وقد أفاضَ ابن سينا في مَفهوم العَقل أكثر وتَكَلّم باسهابٍ مُؤكداً انّ المعرفةَ لها مَصدَرين أساسيين وَهُما الحَواس والعقل، وهذا ما ذهبَ اليه من قَبله أرسطو. ثم قَدَّمَ أبن باجة نَظريّته حَول العَقل على أساس أنّ الهيولاني لا توجدُ مُجرّدة عن صورة ما، والعكس فإن الصُّورة يُمكن لها أن تكون مُجَرّدة عن الهيولاني. لقد بدأ أبن باجة فكرة وَحدَة العقل ليُكمِلها بَعده ابن رشد، الذي نَظّر للعَقل عِبرَ ثلاثة مفاهيم اساسية: مَفهوم العَقل وأنواعه، مَفهوم وَحدة العقل، ومفهوم خلود الروح.
ونَحن هنا لَسنا بِصَدد التّفصيل في شَرح ومُناقشة جَميع الآراء من أجل تأييد البّعض أو نَقض الآخر، لكنّ لَنا الحق في الإشارة الى أنّ للعَقل حُدود وَقُدرات لا يستطيع تَجاوزها ولا يُمكن لَه إدراك كلّ المطالب، فالعَقل يُدرك عِبر مَجَسّات أو حَواس كالسَّمع والبَصر واللّمس والتَذَوق فيقوم بعملية تحليلها واستخلاص النتائج، وبالتالي فَهو يعتمد على مُعطياتٍ حسيّة في عَملية الإستقراء والإستنتاج، وهذه الحَواس لها وجود ومجال وحدود ونطاق، وهذه المَحدوديّة لا يُمكن لها ادراك أمور لا تُدرَك بالحَواس كالتَّوحيد والصفات الإلهية وما شابه ذلك. وفي هذه السياق يشير ابن خلدون الى العَقل بقوله: (أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والأخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طورة فإن ذلك في محال6).
أَضِف الى ذلك أنّ العَقل إنّما يُدرِكُ الأشياء مِن خلال أضدادِها وبما يُقابلها، فالنُّور لا يُدرك إلا عندما يَزول وَيَحلّ مَحَله الظلام، وكذا بالنسبة للخَير والشَّر والجَمال والقُبح والكَرم والبُّخل، الخ. وعَليه فأن وجودَ حَقيقةٍ واحدة دونَ وجود ضِدٍ لها، لا تكفي لحصول الإدراك العقلي. فَكيف للعقل أن يُدرك اللّه الذي هو نُورٌ مُطلق لا ظَلام فيه ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ … ﴾ 7، وهو عَدلٌ لا يَحيف. فالعقلُ مَحدود، وإنْ كانَت له القُدرة على إدراكِ بعضاً من صنائع الله عن طريق أضدادها، لكنه يَقف عاجزاً عن مَعرفة الكَمال المطلق والنور الأزلي. وهنا لابُدّ من التأكيد على أن العقل وإن كان عاجزاً عن إدراك الذّات المُقدسة فهذا لا يَعني الغاءُه بالمُطلق وَمَحوَه مِن رِحلة البَّحث عنِ الكَمال والتّكامل، فالعَقل شريكٌ لا يُمكن الإستغناءَ عنه كما سَنُبيّن ذلك لاحقاً.
والعِرفانُ هُوَ المَنهَج الآخر في السّير نحو المَعرفة وإدراك حَقيقة الكَمالات المُوصلة الى الكَمال المُطلق والى عالم القُدس والسَّكينة والطَمأنينة. هُوَ مَنهجٌ لا يَعتَمد في عُمْقِ مُفرداته على العَقل كأساس ومُنطَلق في السّير نَحو الفَّهم والأدراك، انّما يَعتَبر الإلهامَ والتَّلقي والمُكاشَفة هي الطّرق المُوصلة الى المعرفة والكمال. وأرتَكَز العُرفاء على حقيقةِ أنّ العَقل لايَكفي بَل قد يَكون عاجزاً عَن إدراك ما فَوقه، كما أشار الى ذلك الغَزالي بقوله: (ثم يترقى إلى طول آخر، فيخلق له العقل، فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات، وأموراً لا توجد في الأطوار التي قبله. ووراء العقل طور آخر تفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل، وأموراً أخر، العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز من إدراك المعقولات، وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز8).
والعرفانُ في اللّغة مُشتَقّ مِن عَرَفَ، ويُعْنى به المَعرفة. وَيُقال هذا عارِف اي يَعرف الأمور، والعارف بالله، هو مَن يتَحقق بمعرفته ذوقاً وكشفاً. والعِرفان هيَ المَعرفة الحاصلة عن طريق المُشاهدة القَلبية، دون وَساطة العَقل ولا التَجربة الحسّية، وتُسمّى أيضاً المعرفة اللّدنيّة كَونها تأتي مِن لَدُنِ اللّه، يَقول ابن عربي: “العارف من أشهده الرب عليه، فظهرت الأحوال على نفسه”.
وَقَدَّم بَعضُ أصحاب الاختصاص تعاريف مُشابهة لمنهج العرفان، من أهمها ما قاله القيصري:(هو العلم بالله سبحانه، من حيث أسماؤه وصفاته ومظاهره وأحوال المبدأ والمعاد والعلم بحقائق العالم وبكيفيّة رجوعها إلى حقيقة واحدة، هي الذات الأحدية ومعرفة طريق السلوك والمجاهدة, لتخليص النفس عن مضايق القيود الجزئية واتّصالها إلى مبدئها واتّصافها بنعت الإطلاق والكلّية9).
وَيَرى البَعض أمثال محمد عابد الجابري أن العِرفان مَنهَجٌ معرفي، ورؤية للوجود، لكنه يرى أنّه انتقل إلينا من ثقافة كانت سائدة قبل الاسلام حَيث تسمّى الغنوص Gnose، والكلمة يُونانية الأصل، ومعناها المَعرفة، وقَد انتقلت الى الثقافة الإسلامية. لكن مُفَكرين آخَرين أمثال الشهيد مرتضى المطهري(ره) يرى “إن العرفان من العلوم التي ولدت وترعرعت وتكاملت في مهد الثقافة الإسلامية”.
فالعِرفانُ اذن هو مَنهج المعرفة الحَقّة والأدراك الجَلي، بلا قُيُود أو حُجُب، وهو إزالة المَوانِع والحَواجز الدنيوية ورفع الغَشاوة والسّير نَحو إدراك الحقيقة والوصول الى مَراتب اليَقين الحق. وما لم تَتَجلّى لَدى الطالب حَقيقة الحقيقة ولو بأَجزاءها فإنه قَطعاً لَم يَطوي جميع المَراتب نَحو كمال العرفان، والإمام الخمينيّ قدس سره وَضّح هذا البيان بقوله:(إنّما حقيقة العرفان والشهود ونتيجة الرياضة والسلوك هي رفع الحجاب عن وجه الحقيقة ورؤية ذلّ العبوديّة وأصل الفقر والتدلّي في النفس وفي جميع الموجودات، ولعلّ في الدّعاء المنسوب إلى سيّد الكائنات صلى الله عليه وآله وسلم: “اللهمّ، أرني الأشياء كما هي!”، إشارة إلى هذا المقام، بمعنى أنّه صلى الله عليه وآله وسلم سأل الله سبحانه أن يُشهِده ذلّ العبوديّة المستلزم لشهود عزّ الربوبيّة10).
وَقَد قَسّم أهل الأختصاص العرفان الى قسمين: العرفان النظري، والعرفان العملي، على أنّ بَعضَ أهلِ العِرفان قد رَفَضوا هذا التَّقسيم. والعرفان النَّظري، هو العلم الذي يَهتَم بشؤون الخالق والكون والإنسان، فَيَتَعَمق في فَهمِ أسماء الله تعالى وصفاته وتجلّياته، وهو بذلك يقترب من المنهج الفَلسفي في دراسة الوجود، فالفيلسوف يَستعين بالعَقل والفهم فقط من أجل إثبات وإدراك الدّليل والبُرهان لأصل واجب الوجود، بينما العارف يُقَدّم رؤية كونية من خلال المُكاشفات والإستدلالات نحو معرفة أساسيات حقيقة الوجود، وهو الله جل جلاله والأنسان والوجود نفسه. أما العرفان العَملي فَهو علاقة الإنسان وواجباته مع نَفسهِ وَوجوده ومع خالقه، ويُسمّى ايضاً بعلم “السير والسلوك”، وهو يُبين المَراحل والمَراتب التي لا بُد أن يطويها السالك في سَيره إلى الله، ما هي المحطة الأولى وأين ستكون المحطة الأخيرة، وما هي المنازل والمَقامات التي يَمُر بها العارف أثناء سَيره للوصول إلى معرفة الله تعالى.
فعن أميرُ المؤمنينَ علي عليهِ السلام أنه قال: (وَأَنِرْ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إِلَيْكَ حَتَّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ القُلُوْبِ حُجُبَ النُّوْرِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ، وَتَصِيْرَ أَرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ11).
ولِنَظرية وحدة الوجود أهمية تَستَحق الوقوف عندها، وشرح حقيقةَ معناها وتَنقيح ما أصابَها من تَلفيق وتشويه. فَمَن يَدّعي أنّها تَعني إتّحادٌ بين وجود الإنسان ووجود الله عز وجل، فهذا خَطأ عَظيم وَفَرضٌ مَرفوض ولا يَدّعيه مُسلم عاقل. فالموجود الحقيقي هو الله جل جلاله، وما سوى اللّه إنما هي وجودات من صُنعِ الله٬ فهي امام َحقيقته وَهمية وخَيالية، فوجود الله عز وجل لا حُدود له، وأنّ عِلمَه وقُدرته وحَياته هيَ عَينُ ذاته، وأمّا باقي الموجودات وإن كان لها وجود لكن وجودها ضَعيف، مَحدود، أقرَبُ ان لا يَستَحق تَسميته وجودًا.
والتفسير الواقعي لمعنى وحدة الوجود هو فَناء هذا المحدود (اي الإنسان) في الواجب الغير مَحدود (وهو الله سبحانه وتعالى)، فَمراتب الإيمان تبدأ بالعلم واليَقضة والإيمان والتّوكل ثم التسليم ثم مرتَبة الرّضا وأخيرا مرتبة الفَناء وفيها يَصِل السّالك الى دَرجةِ الفَناء في الله، عندها لايَرى لنفسهِ وجودًا، فالعبادة الحقّة والسّير الحَثيث يَجُذب السّالك نَحو الوجود الحَقيقي، وهو أن لا يَرى إلا الله وجوداً حقاً، وباقي المَوجودات لا وجود لها، فلا يرى لنفسه وجوداً، وهذا ما أشار اليه أمير المؤمنين علي عليه السلام حينما قال: (ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه12)، ومَرتبة الفَناء هذه هِيَ التي تُسمّى بوحدة الوجود، أي أن السّالك قد أنصَهَر بالعبادة أثناء سَيره حتى أدرك أن لا لنفسه وجودًا. ويُستَدلّ على هذا المعنى بالدُّعَاء الوارد عن الِإمام الحُسين فِي يوم عرفة، (كيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ في وُجودِهِ مُفْتَقِرٌ إلَيْكَ؟! أيَكونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهورِ ما لَيْسَ لَكَ حَتَّي يَكونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى كانت الاثار هِي التِي تدل عليك، عميت عين لا تراك عليها رقيب وخسرت صفقة عبد لم تجعل من ودك نصيب13).
وَكَما أشَرنا سابقاً فأنه من الخطأ التَصوّر أنّ أهلَ العرفان قد ألغوا العَقل البرهاني والتفكير العَقلي بالمُطلق في جميع مراحل الكشف والسير الى الله، فالكثير من أكابر العِرفان يَعتبرونه النُّور الأول من أنوار السّير والسلوك بَل هو مُقدمةً وضرورةً لصحةِ المَسير. فالسّير والمُكاشفة لابد لها من مقدماتٍ مَعرفية، ولا يمكن للعارف ان يَخطو أول خطواته وهو خال من التعليم البَشري، والكَشف لا يَتم الا بتحصيله إعتماداً على العَقل والحواس. فالعقل البرهاني يعلو على كل الحواس الأدراكية وبيده زمام ‏القيادة.
وهنا لابد من التمييز بين العَقل وإدراكه وحصوله على العلم والذي يسميه البعض علماً حصولياً، أمثال العارف اية الله عبد الله الجوادي الآملي، وهو يأتي بالواسطة بين العالم والمعلوم، بينما العقل الذي يَدرِك نوعاً آخر من العلم أسماه علماً حضورياً فهو يَتَأتّى من دون وساطة بين العالم والمعلوم. لذلك فالعلم الحصولي خاضع للخطأ والبطلان أثناء سير العارف في استكشاف الحقيقة وذلك لوجود الواسطة بين العالم والمعلوم، غير أن هذه الواسطة تنتفي في حال ما يُسمى بالعِلم الشهودي، أي العلم بين الشاهد والمشهود، عندها ينتفي الخطأ والبطلان وتُثَبّت الحقيقة، بمعنى آخر أنّ الحقيقة في العلم الشهودي تُستَمد بناء على الإتقان ‏العَينى، والاتصال والإنصهار وليسَ مثالا منفصل مبني على وجود خارجي. وروى الصدوق مسندا عن أبي المعتمر مسلم بن أوس قال: حضرت مجلس علي عليه السلام في جامع الكوفة. فقام إليه رجل مصفر اللون – كأنه من متهودة اليمن – فقال: يا أمير المؤمنين، صف لنا خالقك وانعته لنا كأنا نراه وننظر إليه، فسبح علي عليه السلام ربه وعظمه عز وجل وقال:(… ولا تدركه الأبصار. ولا تحيط به الأفكار. ولا تقدره العقول. ولا تقع عليه الأوهام. فكلما قدره عقل أو عرف له مثل، فهو محدود14).
من هنا تَبدأ مَسيرةُ السالك نَحو المعرفة والإدراك الحقيقية، إنّها الهجرة العظمى والجهاد الأكبر من الحصول إلى الحضور، إنّها صراعٌ نَحو الكمال والتّكامل بين القَلب والعَقل، بَين شهود العيون وفهم الأذهان. إنّه لَيسَ صراعاً مَيدانياً مكانياً أمام العدو ليكون جهاداً أصغر، إنه جهاد العاشق نحو عالم الشهود، لذا فهو الجهاد الأكبر، لأنه ينطلق بالنفس مِن عتمةِ وضيقِ ومحدوديةِ العقل الى جَمال ومصداقية الشهود والتجلي اللامُتَناهي. لذا فالعَقل واجب لِفهم المَداخل والأوليات حصراً، أمّا السّعي لإدراك حقائق الربوبيّة فلابدّ لها من مُشاهدة ومُكاشفة ببصيرة القَلب لا بدليل العقل، فمعرفة اللّه لا تُدرك بالدّليل العَقلي، كالألوان فإنها لا تُدرَك باللّمس.
ولمّا كان العلم الشهودي معتمداً على صفاءِ وبصيرةِ ‏شهود النّفس وحضورها وكمالها واستعدادها للسّير نحو الجمال والكمال المُطلق فإن العناية الالهيّة، والفيوض الرَّحمانية لابُدّ منها قَبل وأثناء وبَعد المَسير، وبخلافه فقد يتراجع السّالك ويَرتَدّ عن مراتب الحضور الى الحصول لِما قَد يُداخِله من شَكٍ أو تَردد أو عُجُب. أن كمال الإدراك والوصول الى مراتب المعرفة الكشفية لابُدّ لها مِن فُيُوض الهيّة وهذه الفُيُوض بِدَورها لا تُدرَك الّا بوَسائط وابواب وهم المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله، ومن بَعدِه أئِمّة الهُدى، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ 15. فعن الحسن بن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن جابر قال: (سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إنما يعرف الله عز وجل ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منا أهل البيت ومن لا يعرف الله عز وجل و [ لا ] يعرف الإمام منا أهل البيت فإنما يعرف ويعبد غير الله هكذا والله ضلالا16).
فَمَعرفة الإمام دَليل السّالك وَمَنهجه وشِعارَه نَحو إدراك أعلى مَراتِبَ المَعرفة القَلبيّة الوِجدانيّة، مَعرِفَتَهُم طاعةٌ وكمال، والجهل بهم تيه وَحَيرة وَضَلال. قال الله تعالى: ﴿… أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ 17. وعن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: الأوصياء هم أبواب الله عز وجل التي يؤتى منها ولولاهم ما عرف الله عز وجل وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه18).
فالأوصياء هُم أبوابُ اللّه تعالى والأدلّاءَ على معرفَتِهِ وَبِهم يُتَقَرّبُ الى الله، فَمَن أرادَ اللّه فيأته من أبوابه. ولأن اللّه جل جلاله أعلى مِنْ أن يُدركُه كل طالب وينالَ حقيقةَ معرفته كل سالك، فَمقامه أجَل مِن أن يَنظُر إليه كل شاهد، وَلولا وسائطُ الفيض الإلهي لَمَا سارَ في دَرب مَعرفَة اللّه أحد وَلَما أدرَك فيوضاته عارف، وَلَبَقيت الناس تعيش حَيرة الضّلالة وتيه الجَهالة.
فَمَن أراد البَدأ بالمَسير والهِجرة نَحو الكَمال المُطلق والانتقال من الحصول إلى الحضور فلا بُد لهذا الدَّربَ من أدلّاء وأعوان في جهاده الأكبر، إنه جهاد العاشق نحو عالَم الشُهود. فالأوصياء هُمُ الأدلّاء وَهُم الأنوار التي تُنير عَتمَة الضّيق والمّحدودية لتَجذِبَه نَحو الجّمال الحقيقي والشهود والتجلي اللامتناهي.
فبعد أن يبدأ السالك بطَيّ المنازل والمَراتب والتي عادةً ما تَبدأ بمقام العِلم الذي هو أوّل المَقامات الانسانية والذي من خلاله يتم تَحصيل المجهودات العلمية ليصل السّالك من خلالها الى مقام الإنسانيّة والتي هي الطريق إلى مقام الإنسان الكامل. ولابد للسالك من مرتبة اليقظة والتوبة، فيرجع إلى الذات، حَيث يبدأ بالإنتقال من الغفلة الى التوبة ويبدأ المسير نحو الله تعالى. واليقظةُ نورٌ يُلقيه اللّه تَعالى على قَلبِ السالك فَيَصحوا مَن مِيتَة القُلوب، قال الله تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ 19، وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: (ويل لمن غلبت عليه الغفلة، فنسي الرحلة ولم يستعد20).
ونور اليقظة، نعمة ربّانية وجذبة إلهية، تُزيل ظُلمَة الجَّهل وتُنير القُلوب وتُثير الشَّوق نَحو مَنبَع النّور وهذه الجَّذبَة الإلهية لا يَنالها إلا مَن أناب الى الله وأستيقض مُنجَذباً نحو الجّمال المُطلق. والمعرفة هي سَبب اليّقظة، وبالمقابل فأن اليقظةَ هِيَ الطَّريق نَحو التَّكامل في المَعرفة.
وللسّالك مَقام أرفع يَطلق عليه أهلُ العرفان بمقامِ الإيمان وهوتَثبيت الحقائق العلمية في النَّفس الإنسانية ولتكون الجَوارج عاملة بمقتضاها. ثُمّ يبدأ مقام الطمأنينة وفيه يَثْبُتُ الإيمان بأكملِ دَرَجاته في القّلب لِيَصِل الى مَرحلةٍ يَطوي فيها العلم البُرهاني فَلا يَحتاج بعدها الى دَليل في رحلته التَّكامليّة، فَيقين السّالك في هذا المَقام قَد تَجاوز العلم الحصولي ليبدأ بتلقي العلم حضوريا. ثم يأتي مقام المشاهدة حيث يَعيش السّالك الحقائق الكَشفية بأعلى تَجلّياتها وأن حضورها يكون بدرجات أعلى من مشاهداته الحسيّة.
وَمَقام الرَّضا بعد ذلك يَتَجلّى للعارفِ حينما يَبلُغ الی اعلی مراتب التوبة والورع والإخلاص فتَرتَقي عندها نَفْسه من مرتبة النّفس المُطمئنة الى أعلى مراتبها وهي النّفس المّرضية، وَهو الرّضا بربوبية اللّه وبما قَضى وقَدّر ثم الرّضا برضا اللّه تعالى وهِيَ أعلى مَراتب الرضا. ثم يبدأ مقام التَّسليم ليعيش السالك كمال الطاعة والقبول والتّسليم لما يريده الحق تعالى، والتّسليم للحال التي تسيطر على السالك أثناء سَيره وسلوكه فيقبل بها وإن عَجَزت العقول عن إدراكها، وأنّ الحقيقة هي لله تعالى وحده. ثم المقام الأخير وهو مقام التّوحيد والذي يَصِل فيه العارِف الى مَرتبة إثبات وَحدانية واجِدِ الوجود. وللتوحيد مَراتب لا يَسَع المَقام لذكرها جميعا، ولكن لا بأس بالاشارة الى أنّ اعلى مراتبها لا ينالها الّا خواص الخواص وَهيَ الفَناء المُطلق في الذّات الإلهيّة والتي يَعجَز السّالك فيها عن الأفصاح بأي شيء. يقول الامام الحُسين عليه السلام في دعاء عرفة: (إلهى تَرَددي فى الآثار يُوجبُ بُعْدَ الْمَزار فَاجْمَعْني عَلَيْكَ بخدْمَةٍ تُوصلُني الَيْكَ كَيْفَ يُسْتَدَل عَلَيْكَ بما هُوَ فى وُجُوده مُفْتَقرٌ الَيْكَ أٓيٓكُونُ لغَيْركَ منَ الظهُور ما لَيْسَ لَكَ حَتى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهرَ لَكَ مَتى غبْتَ حَتى تَحْتاجَ إلى دَليلٍ يَدُل عَليْكَ وَمَتى بَعُدْتَ حَتى تَكُونَ الآثارُ هي التي تُوصلُ الَيْكَ عَميَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْه رَقيباً وَخَسرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ منْ حُبكَ نَصيبًا21). وَبذلك يَكونُ سَيّد العُرفاء وَمَولی العاشقين الامام الحُسين سَلامُ اللّه عليه قَد جَسّدَ العِرفان بِكُلّ مَقاماتِه وَمَراتبه وتجلياته، فأصبح سَلامُ اللّه عَليه مَنهَلاً للعارفين وطَريقاً للسّالكين.
والحمد لله رب العالمين.

  • 1. أمالي الصدوق ص396
  • 2. نهج البلاغة : 1 / 14 .
  • 3. الكافي : 8 / 247.
  • 4. رواه الكليني في الكافي ج ٢ ص ٢٢٦ باب المؤمن وعلاماته وصفاته مع اختلاف.
  • 5. الفلسفة اليونانية مقدمات ومذاهب ص13.
  • 6. المقدمة لابن خلدون ص 460.
  • 7. القران الكريم: سورة النور (24)، الآية: 35، الصفحة: 354.
  • 8. المنقذ من الضلال، أبو حامد الغزالي ص22.
  • 9. القيصري، شرف الدين محمود، رسائل القيصري، رسالة التوحيد والنبوة والولاية، ص 7، نقلاً عن: حسيني، السيد قوام الدين، العرفان الإسلامي، مركز الدراسات والتحقيقات الإسلامي، قم، ص 19.
  • 10. معراج السالكين، الامام الخميني، ص25.
  • 11. بحار الأنوار, ج 91، ص 98, باب 32: أدعية المناجاة, المناجاة الشعبانيّة.
  • 12. التبريزي الانصاري- اللمعة البيضاء- ص169.
  • 13. إقبال الأعمال، ص‏350.
  • 14. الكافي للشيخ الكليني ج1/ ص137.
  • 15. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 119، الصفحة: 206.
  • 16. الكافي للشيخ الكليني ج1 /ص 181.
  • 17. القران الكريم: سورة يونس (10)، الآية: 35، الصفحة: 213.
  • 18. الكافي للشيخ الكليني ج1 /ص 193.
  • 19. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 122، الصفحة: 143.
  • 20. غرر الحكم: 10088، 9410.
  • 21. إقبال الأعمال ، ص 348 – 349.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى