في أواخر القرن الخامس وبداية القرن السادس الهجري، حاول الشيخ أبو حامد الغزالي إحياء علوم الدين، في كتابه الذي اشتهر به كثيراً، وحمل هذا العنوان، وانتصر فيه إلى ما أسماه بعلم طريق الآخرة، بعد أن وجد أزمة أصابت علوم الدين، وأصابت علماء الدين في عصره، وقد شرح هذه الأزمة في كتابه (إحياء علوم الدين)، بطريقة تكشف عن شدة وقعها في نفسه، وحجم خطورتها في زمنه، ومؤكداً على علم طريق الآخرة بقوله (فأما علم طريق الآخرة، وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقهاً وحكمة وعلماً وضياء ونوراً وهداية ورشداً، فقد أصبح من بين الخلق مطوياً، وصار نسياً منسياً. ولما كان هذا ثلما في الدين ملماً وخطباً مدلهماً، رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مهماً، إحياء لعلوم الدين).
وفي القرن السابع الهجري، توقف نصير الدين الطوسي عند الحديث النبوي المشهور (طلب العلم فرضية على كل مسلم ومسلمة)، في بحثه عن ماهية العلم، وما هو المراد من العلم الذي طلبه فريضة، فأجاب على ذلك بقول بديع في كتابه: (آداب المتعلمين)، حيث قال: (المراد هنا علم الحال، أي المحتاج إليه في الحال الموصول إلى النفع في المآل، كما يقال أفضل العلم علم الحال، وأفضل العمل حفظ المآل).
وعلم الحال يشمل علوم الدين وعلوم الدنيا، وقد يكون في زمن من علوم الدين، وفي زمن آخر قد يكون من علوم الدنيا. ويتصف هذا الرأي بالحداثة لكونه مفتوحاً على كل الأزمنة، بما في ذلك زمننا وعصرنا الراهن؟ وما بعده أيضاً!
فما هو علم الحال بالنسبة إلى عصرنا نحن؟ هل هو في علوم الدين أم في علوم الدنيا؟
هناك من يرى أن علوم الدين أخذت مكانتها بما يكفي، وحان الوقت للعناية والاهتمام بعلوم الدنيا، أو بصيغة أخرى أن مشكلتنا أو نقصنا ليس في علوم الدين، وإنما في علوم الدنيا، ويذهب إلى هذا الرأي الدكتور حسن حنفي الذي دعا إلى الانتقال من علوم الدين إلى علوم الدنيا في سياق نهجه ودعوته إلى أنسنة الفكر الإسلامي، وفي هذا النطاق جاءت دعوته إلى التحول من العقيدة إلى الثورة وتأسيس ما أسماه علم الإنسان، والتحول من النص إلى الواقع في نطاق علم أصول الفقه، والتحول من الفناء إلى البقاء في نطاق علم التصوف، والتحول من النقل إلى العقل في نطاق إعادة بناء العلوم النقلية.
والذي أراه أن من دون التقدم في علوم الدنيا لا يمكن أن ننجز عمراناً وتمدناً وتقدماً، ومن جهة أخرى لا يمكن الفصل بين علوم الدين وعلوم الدنيا، فعلوم الدين هي علوم للدنيا، وعلوم الدنيا هي علوم للدين، والتقدم في علوم الدين يفترض أن يحدث تقدماً في مجال علوم الدنيا. وهذا ما حاول الدفاع عنه الشيخ محمد عبده في كتابه: (الإسلام دين العلم والمدنية)، حين اعتبر أن المسلمين (لما كانوا علماء في دينهم كانوا علماء الكون وأئمة العالم، ولما أصيبوا بمرض الجهل بدينهم انهزموا من الوجود)، وأن المسلمين في نظره (ما عادوا العلم ولا العلم عاداهم، إلا من يوم انحرافهم عن دينهم، وأخذهم في الصد عن علمه، فكلما بعد عنهم علم الدين بعد عنهم علم الدنيا، وحرموا ثمار العقل، وكانوا كلما توسعوا في العلوم الدينية، توسعوا في العلوم الكونية).
وهذا التلازم بين علوم الدين وعلوم الدنيا هو ما ينبغي البحث عنه، والتمسك به، لأن فيه صلاح ديننا ودنيانا1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الخميس / 17 يوليو 2008م، العدد 15300.