نص الشبهة:
ونقل عثمان الخميس أربع روايات من بعض المصادر الشيعية فحشا بها كتابه دون أن يعلق عليها، ولا ندري أين يمكن الإشكال فيها على الشيعة، ولكن نحن نعلق على بعض ما ورد في مضمونها مما نحتمل أنّه أورد هذه الروايات من أجله.
الجواب:
أما الرواية الأولى فنقلها من كتاب الكافي لثقة الإسلام العلامة الكليني قدّس سرّه، فقال: (عن محمد بن مسلم قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام وعنده أبو حنيفة، فقلت له: جعلت فداك، رأيت رؤيا عجيبة، فقال لي: يا ابن مسلم هاتها إنّ العالم بها جالسٌ، وأومأ بيده إلى أبي حنيفة، فقلت: رأيت كأني دخلت داري وإذا أهلي قد خرجت عليّ فكسرت جوزاً كثيراً، ونثرته عليّ، فتعجبت من هذه الرؤيا، فقال أبو حنيفة: أنت رجلٌ تخاصم لئاماً في مواريث أهلك، فبعد نصب شديد تنال حاجتك منها إن شاء الله، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أصبت والله يا أبا حنيفة!.
قال: ثم خرج أبو حنيفة من عنده، فقلت له: جعلت فداك إني كرهت تعبير هذا الناصب، فقال: يا ابن مسلم! لا يسوءك الله فما يواطئ تعبيرهم تعبيرنا ولا تعبيرنا تعبيرهم، وليس التعبير تعبيره كما عبّره، قال: فقلت له: جعلت فداك فقولك أصبت وتحلف عليه وهو مخطئ؟ قال: نعم حلفت أنه أصاب الخطأ) 1
أقول:
أولاً: هذه الرواية رواية ضعيفة، وقع في سندها أبو جعفر الصائغ وهو محمد بن الحسين (الحسن) بن سعيد الصائغ، قال عنه النجاشي في رجاله: (ضعيف جداً، وقيل إنه غال) 2
ثانياً: ومع غض النظر عن ضعف هذه الرواية فإنه لا علاقة لها بموضوع التقية، بل هي داخلة في باب المداراة، فإن الإمام الصادق عليه السلام أراد عدم إثارة حفيظة أبي حنيفة بتخطئته أمام الحضور في مجلسه عليه السلام.
ثالثاً: إن الإمام عليه السلام أراد من قوله: أصبت والله يا أبا حنيفة أنه أصاب الخطأ كما هو واضح من الرّواية، وهذا من باب التورية الجائزة شرعاً للخروج عن الكذب.
رابعاً: إن كان نقل عثمان الخميس لهذه الرواية الضعيفة سنداً لإثارة أتباع أبي حنيفة من أهل السنة ضد الشيعة الإمامية الإثني عشرية من خلال ما ورد فيها من وصف من قبل الراوي محمد بن مسلم لأبي حنيفة بالناصب، فإن ما في كتب الحنابلة وهم الفرقة التي ينتمي إليها عثمان الخميس من الطعن في أبي حنيفة الكثير وأعظم ومروي بطرق صحيحة، من ذلك ما ورد في كتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل قال:
(حدثني محمد بن هارون، حدثنا أبو صالح، قال: سمعت الفزاري يقول: كان الأوزاعي وسفيان يقولان: ما ولد في الإسلام على هذه الأمة أشأم من أبي حنيفة) 3
وقال: (وحدثني عبد الله بن معاذ العنبري، قال: سمعت أبي يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين) 4.
وقال: (حدثني منصور مرة أخرى، قال: سمعت مالكاً يقول في أبي حنيفة قولاً يخرجه من الدين، وقال: ما كاد أبو حنيفة إلاّ الدّين) 5
وقال: (حدثني محمد بن أبي عتاب الأعين، حدثنا منصور بن سلمة الخزاعي، قال: سمعت حماد بن سلمة يلعن أبا خنيفة، قال أبو سلمة: وكان شعبة يلعن أبا حنيفة) 6
وكتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل به العديد من الروايات التي يطعن فيها العديد من كبار علماء أهل السنة في أبي حنيفة، وما ذكرته مجرد أمثله ونماذج من ذلك.
والرواية الثانية أوردها من كتاب الكافي فقال: (وقال الكليني أيضاً: عن أبي عمر الأعجمي قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا عمر إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء إلاّ في النبيذ والمسح على الخفين) 1
أقول: إن قول الإمام الصادق عليه السلام: إنّ تسعة أعشار الدين في التقية يشير إلى أن الموارد التي حرّمت فيها التقية قياساً إلى الموارد الجائزة منها لا تساوي شيئاً نسبة إليها، فأهل السنة أنفسهم قد جوّزوا استخدام التقية في الدّين بشكل واسع جدّاً في الكثير من الأمور الواقعة تحت دائرة الإكراه مما نصت عليه كتب الفقه لديهم، فهي عندهم تدخل في جميع أبواب الفقه من عبادات ومعاملات وعقود وإيقاعات بل جوّزوها في الأفعال العرفية التي لا تختص بالأحكام كما واضح من أبواب مداراة الناس في كتبهم الحديثية.
وعليه يكون قوله عليه السلام: إنّ تسعة أعشار الدين في التقية ناظراً إلى هذا المعنى أي كثرة ما يبتلي به المؤمن في دينه ولا مخرج من ذلك إلاّ بالتقية، خصوصاً إذا كان في وسط يسود فيه الظلم والطغيان، وتكثر فيه الفوضى وانعدام الأمان.
وقد روى ابن أبي شيبة ـ وهو من محدثي أهل السنة ـ عن الإمام محمد الباقر عليه السلام ما هو شبيه بهذا المعنى فقال: (حدثنا شريك، عن جابر، عن أبي جعفر قال: التقية أوسع ما بين السماء إلى الأرض) 7
أما قوله: ولا دين لمن لا تقية له ، فهو كقول النبي صلى الله عليه وآله: لا دين لمن لا أمانة له ، فالمراد لا دين كامل له، وليس المراد منه نفي الدين مطلقاً.
قال ابن عبد البر في التمهيد: (… وهذا عندنا محمول على الكمال في الفضل كما قال: لا دين لمن لا أمانة له وقال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن أي مستكمل الإيمان) 8
والرواية الثالثة نقلها من كتاب الكافي أيضاً فقال: (وقال الكليني أيضاً: عن معمر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر عليه السلام: التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له) 1
أقول: ليس في هذه الرواية مطعن على الشيعة أيضاً، فقوله عليه السلام: «التقية من ديني ودين آبائي» فيه دلالة على أنّ التقية تشريع من الله عزّ وجل ومن المبادئ والتشريعات التي أتى بها دين الإسلام، لا ضير على المسلم في ممارسته لها وقد استعملها الأئمة عليهم السلام عندما اضطروا إليها، ولم يخالفوا في ممارستهم لها دين الله، أما المقطع الثاني وهو قوله عليه السلام: «ولا إيمان لمن لا تقية له» فقد مرّ بيان معناه.
وأما الرّواية الرابعة فإنّه نقلها عن كتاب بصائر الدرجات للعلامة الصفار فقال: (قال محمد بن الحسن الصفار: عن مروان، عن جابر، عن أبي عبد الله قال: إن أمرنا سر في سر، وسر مستسر، وسر لا يفيد إلاّ سر، وسر على سر، وسر مقنع بسر) 1
أقول: لم يعلق عثمان الخميس على هذه الرواية بشيء ولا نعلم ما علاقتها بموضوع التقية، وأين يكمن الإشكال فيها على الشيعة..! 9
- 1. من القلب إلى القلب صفحة 83.
- 2. رجال النجاشي صفحة 237.
- 3. السنة لأحمد بن حنبل 1 / 188 رواية رقم: 252.
- 4. السنة 1 / 193 رواية رقم: 168.
- 5. السنة 1 / 199 رواية رقم: 293.
- 6. السنة 1 / 211 رواية رقم: 345.
- 7. مصنف ابن أبي شيبة 6 / 474 رواية رقم: 33048.
- 8. التمهيد 18 / 333.
- 9. هذا الموضوع رَدُّ على شبهة طرحها عثمان الخميس ضمن مجموعة من الشبهات الأخرى التي أثارها ضد مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، و قد قام سماحة الشيخ حسن عبد الله العجمي بالرد عليها، و هذا الرد هو أحد تلك الردود، هذا و قد نُشرت مجموع هذه الردود في الموقع الرسمي لسماحته.