إن الاختلافات تحصل في أي مجتمع بشري، فأساسيات الإسلام هي: الإيمان بالله، وبنبوة رسول الله، وبالمعاد يوم القيامة، والأخذ بالكتاب والسنة، والاتجاه إلى القبلة، كما تقول الأحاديث: (من شهد أن لا إله إلا الله، واستقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم)، هذه هي المقاييس الأساسية للإسلام، أما الاختلافات الأخرى فهي ليست مما يخرج من الإسلام، فنحن الشيعة ـ مثلاً ـ، نعتقد بإمامة أهل البيت، أصلاً من أصول المذهب، من لم يقبلها لا يكون داخل المذهب، لكننا لا نعدها أصلاً من أصول الدين، بمعنى أن من لا يقبلها لا نعده خارج الدين، والرأي الفقهي المعمول به عند علماء الشيعة هو الحكم بإسلام كل من تشهّد الشهادتين، ومن نختلف معه في معتقد الإمامة، فهو خارج مذهبنا، لكنه ليس خارج الإسلام، بل هو ضمن الإسلام، ونحكم بإسلامه.
وأهل السنة؛ عندهم رأي حول (عدالة الصحابة)، ولهم الحق أن يعدوا هذا الرأي مقياساً للحكم بسنّية الإنسان، فمن لم يعتقد بعدالة الصحابة، وبالمكانة المميزة للخلفاء الراشدين حسب الترتيب، فهو ليس من أهل السنة ـ وإن كان في وسط السنة من له رأي آخر في عدالة الصحابة ـ من حقهم أن يقولوا ذلك، لكن أن يعدوا أن من لم يوافقهم في هذا الرأي فهو خارج الإسلام؛ هذا لا حق لهم فيه، ولا يقولون به، لأن هناك اختلافاً بين المسلمين في الأمر، فلا تستطيع أن تكفّر أحداً لأنه لم يوافق رأيك في الصحابة، هذا شرط إضافي، لم يرد في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله، أنه يشترط في إسلام الإنسان، وفي الحكم بإسلامه؛ أن يكون معتقداً بعدالة كل الصحابة، وأن يكون معتقداً بأفضلية الخلفاء الراشدين على الترتيب، الخليفة الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع، ليس هناك ما يدل على ذلك، فالصحابة أنفسهم ما كانوا يعتقدون بهذا الشيء في ذاتهم، وما كانوا يرون أن الاعتراف بقدسيتهم شرطاً من شروط الإسلام والإيمان، بدليل أنهم تقاتلوا وتلاعنوا فيما بينهم، وتسابوا وتشاتموا، ولو كانوا يعلمون أن سب واحد من الصحابة، أو لعن واحد منهم ـ مع أننا لسنا مع السب والشتم لكن نقول ذلك لمناقشة الموضوع ـ مخرج من الإسلام، لكفّر الصحابة بعضهم بعضاً، بينما نحن لا نجد مثل هذا الأمر، بل نجد ما يدل على عكسه، ففي مسند الإمام أحمد بن حنبل في الجزء الأول في مسند أبي بكر، حديث رقم 54 ـ وهو موجود في مصادر أخرى، وموثق من حيث إخراج الحديث عند عدد من العلماء ـ عن أبي برزه الأسلمي قَالَ: (أَغْلَظَ رَجُلٌ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (رضي الله عنه) قَالَ فَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ، قَالَ: فَانْتَهَرَهُ وَقَالَ: مَا هِيَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ)، فأبو بكر نفسه يقول إن من أغلظ عليه ـ أي أساء إليه ـ لا يصح أن ينال منه؛ لأن هذا خاص برسول الله، فكيف يأتي شخص اليوم، ويقول بأن من أساء وتعرض لأحد الخلفاء والصحابة يكون كافراً؟
وأكرر أن هذا لا يعني أننا ندافع أو نبرر الإساءة، فأنا أقول وأعلن دائماً أنه لا يصح الإساءة إلى أي رمز من رموز المسلمين، لأن ذلك يثير الفتنة ويضر بالتعايش، كل طائفة لها مقدساتها، ولها رموزها، وإذا أردنا أن تُحْتَرَمَ رموزنا ومقدساتنا فيجب أن نحترم رموز ومقدسات الآخرين، ما لنا من رأي يخصنا، وما لإخواننا السنة من رأي يخصهم، ولكن في تعاملنا يجب أن يكون هناك احترام متبادل.
إذن هذه الروايات تدل على أن الصحابة أنفسهم ما كانوا يرون هذا الرأي في بعضهم البعض، بل إن أم المؤمنين السيدة عائشة ـ كما ورد في المصادر التاريخية كالطبري وغيره ـ قالت كلاماً عنيفاً ضد الخليفة عثمان، حينما اختلفت معه وخالفته، ففي تاريخ الطبري ضمن الحادثة: فانصرفت إلى مكة وهي تقول: (قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبن بدمه)، فقال لها ابن أم كلاب: (ولم؟ فوالله إن أول من أمال حرفه لأنتِ، ولقد كنتِ تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر)، قالت: (إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأول)، فقال لها ابن أم كلاب:
فمنك البداء ومنك الغير *** ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام *** وقلت لنا إنه قد كفر
وهناك موارد كثيرة في التاريخ وفي النصوص تحكي أن الصحابة دخلوا حروباً مع بعضهم, فطلحة والزبير صحابيان تمردا على الإمامة الشرعية لأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وقاتلاه، ومعاوية خاض حرباً في صفين ضد أمير المؤمنين، وسنَّ سبّه على المنابر، لسنوات طويلة، فكيف يكون الموقف من الصحابة مقياساً للدخول في الدين؟ وكيف يكون الحكم على معاوية بناءً على ذلك؟
خطورة نهج التكفير
ولهذا فإن ما تحدث به أحد أئمة الحرم المكي (الشيخ عادل الكلباني) في مقابلة له مع قناة الـBBC بتاريخ 9/5/1430هـ، مخالف لهذا المنهج الإسلامي، الذي تؤكده الآية الشريفة: ﴿ … وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا … ﴾ 1، وإذا أُطْلِقَ العنان لمنهج التكفير ستعيش الأمة حالة من التمزق.
والمدرسة السلفية جربت هذا الأمر، والكلباني نفسه تحدث ضد الصوفية حين سئل: عن عدم وجود إمام للحرم من أهل الحجاز من غير الحنابلة، قال: (عند بعضهم نزعة صوفية، فربما هذا يكون سبباً من أسباب عدم التعيين، لأنه يشترط في إمام الحرم أن يكون سليم المعتقد والمنهج)، مع أن الصوفية شريحة كبيرة من العالم الإسلامي، وبهذه السهولة يتهم دين شريحة كبيرة من المسلمين في عقيدتهم، ثم يتحدث عن الشيعة، فيحكم بتكفير علمائهم لأن لهم رأياً حول الخليفة أبي بكر.
إن الرأي الذي ذكره عن الشيعة ليس دقيقاً، وإنما هو رأي أخذه من هذا الكتاب وذاك، وإلا فإن علماء الشيعة لا يحكمون بكفر أحد من أهل القبلة، بل يحكمون بإسلامهم، ويتعاملون معهم على أساس الإسلام، وهذا المنحى التكفيري عانت منه البلاد كثيراً، وحينما ساد هذا النهج ارتد على أصحابه، فالسلفيون أنفسهم عانوا من منهج التكفير، لأنهم فتحوا المجال وَرُبُّوا في بعض محاضنهم وتوجهاتهم على التساهل بالتكفير، فارتد الأمر عليهم، وظهرت جهات وجماعات منهم كفّروا بقية السلفيين، وكفروا الحكومة والعلماء، وألّفوا في ذلك العديد من الكتب.
تكفير الدولة
إن أحد الكتب المطبوعة في هذا الاتجاه السلفي التكفيري كتاب (الكواشف الجلية في تكفير الدولة السعودية)، كفروا فيه الحكومة السعودية، والمفتي والعلماء الذين مع الحكومة، ولهم كتاب آخر بعد غزو العراق للكويت، ومجيء القوات الأمريكية، تحت عنوان: (التبيان في كفر من أعان الأمريكان)، وبعد أن صارت مثل هذه المواقف اجتمعت هيئة كبار العلماء وأصدروا بيانات ضد التكفير، وكان منها البيان الذي صدر بتاريخ 2/4/1419هـ وحذّر من التكفير، وأنه لا ينبغي تكفير مسلم، وأورد البيان الأحاديث التي جاءت ضد تكفير المسلمين، ونحن هنا نتساءل: أحينَ وصلت النار إليهم بدؤوا يتحدثون ضد التكفير؟، وحينما هدأت بعض الأمور، بدأت نعرة أخرى، تتحدث عن كفر هذا وذاك؟ هذا ليس صحيحاً، وليس مقبولاً، ونتائجه مضرة على الجميع. ولنا أن نتساءل: هل إن التكفير ممنوع تجاه الحكام؟ فمن يكفّر الحكام لابد من التحذير منه، أما من يكفر بقية المسلمين فلا بأس؟ إن هذا ليس نهجاً صحيحاً. خاصة من شخصٍ في هذا الموقع وهذا المكان، إن إمامة المسلمين في الحرم المكي موقع اعتباري، له قيمته ومكانته، فكيف يكون الشخص الذي يراد من المسلمين من مختلف أقطار العالم أن يأتموا به، وأن يصلوا بصلاته يكفر شريحة كبيرة منهم؟ ويتجاهر بالحديث عن التكفير، هذا خلل كبير لا يتناسب مع سمعة الدولة، ولا مع حمايتها للحرمين الشريفين، ولا يتناسب مع الشعارات والدعوات المطروحة للحوار الإسلامي، بل الحوار بين الأديان2.
- 1. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 94، الصفحة: 93.
- 2. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ حسن الصفار حفظه الله.