يتحدّث بعض الباحثين، وبعض المستشرقين الغربيين، عن انحطاط تاريخي ألمّ بالحضارة الإسلامية، أدى إلى انهيارها، وإلى بقاء واستمرارية هذا الانهيار، وهو الانحطاط الذي عرقل ويعرقل إعادة قيام الحضارة الإسلامية من جديد. وتعد هذه القضية واحدة من أهم القضايا التي دارت حولها العديد من النقاشات الثقافية والتاريخية الهامة، وما زالت إلى اليوم تثير مثل هذا النقاش، الذي لن يتوقف ما دام العالم الإسلامي يتطلع إلى نهضة حضارية إسلامية جديدة في هذا العصر.
ولعل المستشرق الأمريكي المعروف مارشال هودجسون المتوفى عام 1968م، من أكثر الباحثين والمستشرقين الغربيين المعاصرين، تشكيكاً في مقولة انحطاط الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية، وقد اعتبر في كتابه الموسوعي الشهير: (مغامرة الإسلام.. الوعي والتاريخ في حضارة عالمية)، الصادر في ثلاثة مجلدات، بعد وفاته عام 1974م، بعناية من زوجته وتلامذته وزملائه، أن هذه فكرة خاطئة وليست صائبة، ومردها حسب نظره، إلى أنه لم تجر حتى الآن أية إعادة نظر حقيقية في الثقافة الإسلامية ككل، ولهذا يرى أن مقولة الانحطاط الإسلامي لا يمكن التسليم بها جدياً.
ويأتي هذا الرأي بعد أن كان من المألوف لدى العلماء المحدثين، الافتراض كما يقول هودجسون، بأن الثقافة الإسلامية دخلت في حالة من التقهقر أو الانحطاط بعد انهيار الخلافة في الحقبة العليا، أو في أقصى تقدير زمني في فترة الاحتلال المغولي في القرن الثالث عشر. النتيجة التي يترتب عليها في نظر هودجسون، اعتبار أن أية أدلة على حيوية وعظمة الثقافة الإسلامية في الفترات اللاحقة، خصوصاً في القرن السادس عشر نادرة بمعنى ما، وكأنها ليست جزءاً من الثقافة الإسلامية بل سلسلة من الأحداث التي لا تربطها بها صلة.
وما يخلص إليه هودجسون، أن مصير الحضارة الإسلامية ليس مثالاً عن قانون بيولوجي يقضي بأن على كل عضو أن يزدهر ثم ينحط، فالحضارة ليست بنية عضوية.
لذلك تقوم أطروحة هودجسون على ضرورة قراءة تاريخ الإسلام وثقافته وحضارته من منظور عالمي شامل، واعتبار أن دراسة تاريخ النهوض الأوروبي الاقتصادي والصناعي والعلمي والإنساني لا يستقيم بدون قراءة تاريخ قرون الإسلام ما بين القرن العاشر والسابع عشر، ومعرفة دور الإسلام في تاريخ العالم وحضارته الحديثة.
وقد وجد الدارسون الغربيون قيمة معرفية وتاريخية هامة وكبرى، في النظر لعمل هودجسون لتميز أطروحته، وجديته في البحث، حيث أمضى ما يقارب عشرين عاماً وهو يبحث ويسجل ملاحظاته وتأملاته في تاريخ الإسلام وحضارته.
وهناك من أثار مثل هذه المقولة في داخل الفكر الغربي نفسه، وذلك عندما أصدر المفكر الألماني الشهير أزوالد اشبنغلر في العقود الأولى من القرن العشرين كتابه الذائع الصيت: (انحطاط الغرب)، أو (أفول الغرب)، أو (تدهور الغرب)، على اختلاف الترجمات، حيث اعتبر أن الغرب تجاوز مرحلة خلق الثقافة، وانتقل إلى مرحلة الحضارة أو المدنية التي تعني مرحلة الرفاه المادي، وهذا يعني في نظر اشبنغلر أفول الغرب أو انحطاطه. وقد أحدث هذا الكتاب في وقته ومازال صدمة وفتح نقاشات سجالية لم تنته إلى اليوم، وأدخل في الثقافة الأوروبية ما بات يعرف بمفهوم التشاؤمية الثقافية.
ولعل من الأصح القول أن الانحطاط أصاب الدولة في التاريخ الإسلامي، ويمكن أن نبرهن على هذه الفكرة بمقدمة ابن خلدون التي وضعت التجربة الإسلامية في نطاق التحليل وفق قواعد وأصول علم الاجتماع وعلم التاريخ. فابن خلدون بحث عن أفول الدولة في التجربة الإسلامية، وليس أفول الثقافة أو الحضارة. ولذلك يمكن القول أن التخلف أصاب ثقافة المسلمين وليس الإسلام. وبقي الإسلام ومازال يبعث حيوية ودينامية ويقظة في المجتمعات الإسلامية1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 30 أغسطس 2006م، العدد 14613.