من أجل تحديد مصاديق أولي الأمر نسوق هذه الاحتمالات:<img alt="
الاحتمال الأوّل
ان المقصود من أولي الأمرهم من في رأس الحکومة الإسلامية و من بيدهم مقاليد الأمور.
فکل من أصبح في قمة الهرم الرئاسي کان و لياً للأمر، و بالتالي تجب طاعته ؛ فلا يحقّ لأحد عصيانه أو التمرد عليه.
ومن هنا وانطلاقاً من هذه الرؤية، يکون الحاکم هو ولي الأمر بالنتيجة حتي لو تربّّّع علي الحکم فوق جماجم الضحايا، بل حتي لو کان منافقا ً يستميت من أجل الاحتفاظ بالسلطة و يرتکب مئات المذابح.
و بالطبع فإن الآية الکريمة لايمکن أن تتضمن هذه النظرية بأية صورة، لأن روح الآية الکريمة يأبي هذا الظلم.
وقد يقال ان الطاعة مطلوبة في حدود معينة حتي لو أصدر الحاکم قرارا ً يخالف النصوص الشريعة و الأحکام الإلهية مخالفة صريحة و کان حکمه بالنتيجة نوعاً من محاربة القرآن.
وهذا لا يسلّم به عاقل، فکيف يرتضي العقل إنساناً منحرفا ً عن الدين و روحه و عن الشريعة و أحکامها أن يحکم باسم الدين ثم تکون طاعته واجبة.
کيف يمکن للعقل أن يوفق بين المتناقضات ؟ فمن جهة يري رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) و قد بعث بشيرا و نذيراً و رحمة للعالمين و قد جاء من ربّّّه بشريعة فيها سعادة الإنسان في الدارين ثم يخلفه رجال يصبون العذاب علي الاُمة و يتعسفون في حکمها و قيادتها ؛من قبيل خلفاء بني امية و حکّام بني العباس، ثم يوجب الدين طاعتهم !! إن العقل يرفض ذلک مستنکرا.
هذا إضالّّة الي ماستتضمنه الآية من المتناقضات، فإذا کانت طاعة الحاکم الفاسق و اجبة فکيف نوفق بينها و بين طاعة الله و الإنصياع لرسوله، و يا تري من سنتبع في الطاعة إذا تناقضت أوامرالله مع أوامرالحاکم؟!
و لعلّ هناک من يقول: ان الطاعة و اجبة ما دام من بيده زمام الامور يتحرک ضمن إطار الشرعية، فهو في هذه الحالة واجب الطاعة، اما اذا حدث تصادم بين ما يأمر به الحاکم و ما يرتضيه الشرع فعندها تنتفي طاعته و تتقدّم عليها طاعة الله ورسوله، و حقّ للأمة أن تخالفه.
وهذا الرأي لايصمد أمام النقاش أيضا، للأسباب التالية:
أوّلا: ان هذا يتحقق إلّا اذا کانت الامة بأسرها علي وعي کامل بالشريعة وأحکام الدين أي أن يکون أفرادها جميعا ً فقهاء لکي يدرکوا طبيعة قرارات الحاکم و سيرته و إجراءاته.
ثانياً: تقديم طاعة الله علي طاعة الحاکم في حالة التصادم بين الأحکام، فهذا يعني بالحقيقة طاعة لله فقط، و هنا لا وجود لولاية الأمر ولولي الامور، وبالتالي الغاء طاعة و لي الأمرالتي سبق أن أوجبتها الآية الکريمة.
ثالثاً: سيادة الفواضي و ارتباک النظام لأن کلّّ فريق في الامة قد يفسّر أمرا ً ما بانّه مخالفة للدين فيسوِّغ لنفسه الثورة و التمرّد، و بالتالي ارتباک النظام.
وبالطبع فإن امّة تسودها الفوضي لا يمکنها أن تنتج أو تتقدم في رکب الحضارة، و ستکون المصالح الشخصية الباعث الأساس في الثورات بذريعة مخالفة الحاکم للدين، و هذا ما يؤدي الي دمار البلاد.
الاحتمال الثاني
لعل قائل يقول ان تفسير الآية يمکن أن يشير الي ان ولي الأمررجل ينتخبه الشعب و تختاره الامّة، و عندها يکون و ليا ً للامور فيتحقق عند ذاک مفهوم الآية.
وهذا الاحتمال مردود أيضاً، و تفسير الآية علي هذا الأساس تعسف و اضح، لأن خطاب الآية لا يتضمن هذا المعني أبدا ً. لم تقل الآية إن من ترتضون للحکم والقيادة سيکون و ليا ً للأمر وبالتالي ستکون طاعته واجبة.
ومعطيات الآية تشير الي وجوب طاعة أولي الأمر، أما من هم فلم تتحدّث عنه الآية ؛ إضافة إلي ما سيرد من إشکالات أشير لها في الاحتمالين معا.
الاحتمالات الثالث
ويبقي الاحتمال الثالث و هو أنّ أولي الأمر اناس اختارهم الله لإمامة المسلمين، و بالتالي أصبحوا مصدقاً لمعني الآية في وجوب طاعتهم.ومن أجل توضيح ذلک نقول: ان الأحکام و القوانين الإلهية لا تنحصر في الطقوس العبادية بل إنها تستوعب جميع الشؤون الإنسانية ؛ ذلک أن الأمّة يلزمها و من أجل استمرارها و ديمومتها قانون سياسي و نظام اقتصادي و جهاز قضائي و هي مسألة من بديهيات الحياة البشرية. فالشريعة الإلهيأ لا يمکن تطبيقها إلاّ من خلال قانون و نظام للحکم، و إن غاية النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) من بعثته هو استمرار الشريعة الإسلامية و تجسّدها في حياة البشر.
ومن هنا اقتضت الحکمة الإليهة و المشيئة الرّبانية اختيار أفرادمعينين لزعامة الامّة أمرها من أجل الحفاظ علي الشريعة و ضمان تطبيقها في الحيا ة، و هؤلاء الأفراد يجب أن يکونوا معصومين عن الخطأ، منزهين عن الذنب وارتکاب المعاصي، بعيدين عن الاشتباه، محفوظين من النسيان.
ولقد قرن الله طاعتهم بطاعته لإنّهم استمرار لخطّ رسوله.
ولإنّهم معصومون، فقد وجبت طاعتهم دون قيد أو شرط. وفي هذه الحالة لن يحدث تناقض أو تصادم في سيرتهم مع أحکام الله و شريعته و ما جاء به رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) من عند ربّّّه.وعندها تنتفي کلّّ الإشکالات التي أثيرت في الاحتمالين الأوّل و الثاني.
خلاصة القول
ان صدر الآية يتضمن إطلاقاً في طاعة الله و تسليما ً کاملا ً لأحکامه وشرائعه، و ليس هناک قيد أو شرط، فکلّّ حکم يتناقص مع أمر الله و نهيه يفقد کلّّ اعتبار له لأن الحاکمية لله وحده، إضافة الي ان هذه المسألة تعدّ في الواقع ضرورة عقلية لامناص منها.
وفي مقابل کلّّ هذا نجد نهيا ً قرآنيا ً صريحا ً عن طاعة الظالمين و المسرفين.
قال تعالى:
-﴿ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ 1.
-﴿ … مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ … ﴾ 2.
وفي سياق هذا نجد حشدا ً من الأحاديث الشريفة يتماشي و روح الآيات؛ من قبيل ما رواه:
جابربّّّن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم): “من ارضي سلطانا ً بسخط الله خرج من دين الله “3.
وعن الامام الباقر(عليه السلام) قال: “لا دين لمن دان بطاعة من عصي الله، و لا دين لمن دان بفرية باطل علي الله، و لا دين لمن دان بجحود شي ء من آيات الله “4.
وعن الصادق (عليه السلام) قال: “لاتسخطوا الله برضي أحد من خلقه، ولا تتقربوا إلي الناس بتباعد من الله “5.
وعن سيّدنا محّمد (صلي الله عليه و آله و سلم) قال: “لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق “6.
وعن علي أمير المؤمنين قال: “لا دين لمن دان بطاعة مخلوق في معصية الخالق “7.
وسياق الآية الکريمة يتضمن بالضرورة عدم التزاحم بين طاعة الله و طاعة أولي الأمر. وعندما يکون و لي الأمر معصوماً ينتفي التعارض بين الطاعتين، وبالتالي تکون عصمة أولي الأمر مسألة عقلية.
تساؤل
قد يتساءل البعض قائلاً: لماذا هذا الإصرار على تفسير أولي الأمر بالمعصومين، في حين يمکن إطاقه علي کلّّ من بيده زمام الأمور، و أنتم تقولون کيف يمکن تصوّر من بيده مقاليد الأمر أن يکون غير معصوم لاحتمال الخطأ في أحکامه و مناقضتها لأحکام الشرع؟
وفي الجواب عن هذا التساؤل نقول:
بما أن تشکيل الحکومة ضروري للأمة، و بدونها لا يمکن إصلاح شأن البلاد و العباد.فأن الله عزوجل جعل طاعة و لي الأمر واجبة حتي تکون أحکامه نافذة فلا يحدث خلل في النظام و لا يکون مجال للفوضي.
وهنا يقال: من الممکن أن يصدر عن و لي الأمر ما يتعارض و أحکام الدين ولکن هذا مما يجعله مسوغاً لأن مصلحة أکبر اقتضت تعطيل حکم من أحکام الشريعة من أجل حفظ النظام العام، فيکون في ذلک جبر لما کسر.
وجوابا ً علي ذلک نقول: ان الإشکال الذي أوردناه في صدر البحث حول التعارض بين صدر الآية و الختام ما يزال واردا.
ان مفاد الآية يقطع بوجوب طاعة الله أوّلاً، و إنّه لا اعتبار لامر يتعارض وحکم الله، فکيف يمکن اجتياز هذه النقطة الي القول بطاعة و لي الأمرحتي مع وجود تعارض في حکمه مع حکم الله؟!
وکيف يمکن أيضاً تفسير الحشد الهائل من الأحاديث التي أوردنا أمثلة منه والتي تستنکر طاعة من يعصي الله إنطلاقاً من: “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”؟!
وکيف نسوّغ لأنفسنا وجوب طاعة من يريد محق القرآن و سحق أحکام الدين ثم نبرر ذلک بذريعة مصلحة النظام و خدمة للصالح العام؟!
إشکال
قد يقول أحدهم إن “أولي الأمر”تفيد” من بيدهم زمام الأمر والقيادة “ولا تعني” العصمة”من قريب و لا بعيد، ثم ان سياق الآية يشير الي وجوب طاعة أولي الأمربعد طاعة الله سبحانه، و هذا يعني ان هناک إطاراً معيّنا ً لطاعتهم و هو في طاعة الله أوّلاّ و ان طاعتهم واجبة ما داموا مطيعين لله ؛ و بالتالي وجود قيد يحدّد الإطلاق العام.
فمثلاً لو قام رئيس دولة بإصدار مرسوم يقضي بتنصيب محافظ أو حاکم لإحدي المدن و تضمن الحکم دعوة الشعب إلي تنفيذ أو امره و طاعته في تطبيق قوانين البلاد، فهنا سيفهم الشعب أن من بين هذين الأمرين – تنصيب الحاکم ودعوة الشعب الي الإنصياع لأوامره -ان طاعته ستکون في حدود قانون البلاد، وليس کلّّ ما يصدرعنه حتي لو تعارض مع الدستور الرسمي للدولة ؛ وسيقولون له انّک مأمور بتنفيذ القانون لا أن تصدر الإحکام جزافاً کما تشاء.
مثال آخر
لو أصدر القائد العام للقوات المسلحة أمراً نصب فيه ضابطا ً ما قد قائداً لإحدي الفرق و أمر أفراد الفرقة بالإنصياع لأوامره فإن الجنود و سائر أفراد الفرقة سوف يفهمون ان طاعته واجبة في حدود طاعته هو للقيادة العامة.
ومن هذين المثالين نفهم ان طاعة و لي الأمر نافذة ما دامت في طاعة الله.
وعلي هذا فإن أوامر ولي الأمر ستکون ملزمة عندما لا تتعارض مع الشريعة، و بالتالي تجوز مخالفته و عصيانه اذا تصرّف تصرّفاً يناقض الشريعة ويخالف أحکام الله.
وفي تلک الحالة يتمّ نصحه أوّلا، فإذا لم يرعو وجب عزله و خلعه و انتخاب شخص آخر غيره.
وهذا ما أشار إليه أبوبکر عشية تصدّيه للخلافي، فقد قال: “أيهاالناس قد وليت عليکم و لستُ بخيرکم، فإن أحسنت فآعينوني و إن أسأت فقوّموني…. أطيعوني ما أطلعت الله فيکم فإذا عصيت الله و رسوله فلا طاعة لي عليکم”.
ومن هنا نفسّر بواعث الثورة ضد عثمان، فلقد طلبوا منه اعتزال الخلافة أوّلا، فلمّا رفض ذلک اقتحموا قصره و قتلوه.
ولو افترضنا الإطلاق في الآية فهي کسائر الإطلاقات الاخري إذهناک آيات تضع قيوداً تحدّد من الإطلاق العام ؛ من قبيل قوله تعالى:
_﴿ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ 1.
_﴿ … مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ … ﴾ 2
واذن فهناک قيود تحدّد من إطلاق آية الطاعة، و بالتالي فلا ضرورة للقول بحتمية عصمة أولي الأمر.
الجواب
انّ کلّّ هذه التفاصيل لا يمکنها أن تسلب الإطلاق العام في الآية کأمر الهي، فهناك طاعة مطلقة لله و للرسول و لأولي الأمر، و کلا الأمرين يفيدان الإطلاق ويتمتعان بنفس مستوي الوجوب ؛فما معني ترجيح أمر علي أمر مع أن مصدر هما و احد و يتمتعان بنفس الامتياز.
ان انتفاء العصمة سيولّد تنافضا ً لا يمکن حلّه، و الحلّ الوحيد يکمن في عصمة أولي الأمر.
ثم إن الآية لا تفيد شرعية و ولاية من يتسلط علي رقاب العباد و البلاد بلقوّة، بل و لا تفيد أيضا ً انتخاب الناس لولي الأمر، و يبقي هنا من يختاره الله سبحانه و يرتضيه لعباده.
کيف نتصور ان الله سبحانه و هو مصدرالحکمة يمنح الشريعة لاُناس غير معصومين لهم و لما يرتکبونه من ظلم بحق عباده ؟ ألا يمکن استغلال هذه النظرية في إنزال أفدح الظلم بالناس مع ضمان سکوتهم ازاءه کقدر الهي محتوم لايمکن الاعتراض عليه أو التململ منه ؟!
ومعني هذا فتح الباب علي مصراعيه لکل الطغاة يعيثون في الأرض فسادا ً ويأتون علي الدين فلا يبقون له من باقية، کلّّ هذا بذريعة وجوب طاعة و لي الأمر.
ألم يذبح الحسين و أهل بيته بذريعة خروجهم علي خليفة عصرهم؟!
ان أقلّ مطالعة في تلک الحقبة من التاريخ ستشهد إلي أي مدي عاث بنو أمية و بنو العباس باسم الدين و لاخلافة فارتکبنوا آلاف الجرائم و المذابح8.