رُوِيَ عنِ الأمامِ الصَّادقِ عليه السلام قصَّةُ الرَّجُلِ الضَّالِّ الَّذِي كَانَ مِعظَّماً ومُبَجَّلاً مِنْ قِبَلِ النَّاسِ، وكانَ قَدْ قَالَ الإمامُ عليه السلام لأصحابِهِ قبْل رِوَايَتهِ لِقِصَّةِ هَذا الرَّجلِ: “مَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ وأُعْجِبَ بَرَأْيِهِ كَانَ كالرَّجُلِ الَّذي اشْتَهَر بينَ العَامَّةِ مِنَ النَّاسِ بالخَيرِ والإحْسَانِ إِلى الآخرينَ، فكَانُوا يُعظِّمونَهُ ويُبَجِّلُونَهُ، وكَانَ ذكْرُهُ يتردَّدُ عَلى الأَلْسُنِ، والمدحُ
والثناءُ يُزْجَى إِلَيْهِ مِنْ كلِّ حَدبٍ وصَوْبٍ، وكانتْ شُهْرتُهُ بالتَّقوَى والصَّلاحِ قدْ طَغَتْ حتَّى فاضت بِهَا القلوبُ والأفواهُ. أمَّا الكلامُ عنْ شَرَفِهِ وسخائِهِ فقدْ كان يدُورُ في كلِّ نادٍ ويتكرَّرُ في كلِّ مجلسٍ”.
إنشدَّ كثيراً أصحابُ الإمام عليه السلام لِسماعِ قِصَّةِ هذَا الرجلِّ مُتوَجِّهينَ إِلى الإمامِ عليه السلام بأنْظَارِهِمْ يُنصتونَ لِقَوْلِهِ بانْتِبَاهٍ.
وكَانَ في رِوايةِ هذا الرَّجلِ أَنَّهُ قدْ ذاع صِيتُه بالتُّقى والوَرعِ، فكان النَّاسُ يعظِّمونهُ ويبجِّلُونه لِشأْنِهِ ومَقَامِهِ العالي مُنبَهِرينَ بِصِفاتِهِ وأَخْلاقِهِ الحميدةِ، يُردِّدُونَ ذِكْرَهُ دائماً متداولين الحديثَ عنْ مَدَى سَخائِهِ وكَرَمِهِ في كلِّ مكانٍ.
أحبَّ الإمامُ الصَّادقُ عليه السلام أنْ يُراقبَ هذا الرَّجُلَ عنْ كَثَبٍ لِيَرى تَصَرُّفَاتِهُ وأفعالَهُ والأعمالَ الحسنةَ الَّتي يقومُ بِهَا، فتبِعهُ ذاتَ يومٍ ومشَى خَلْفَهُ في السُّوقِ، ومَا هِيَ إلاَّ لحظاتٍ حتَّى
توقَّفَ هذَا الرجُلُ قليلاً أمامَ حانوتِ خُبْزٍ، ومَا إنِ انْشغلَ الحانوتيُّ حتَّى انْتهزَ هذا الرجُلُ الفُرصَةَ سريعاً وتناوَلَ رغِيفيْن ثُمَّ مشَى في طريقهِ، تعجَّبَ الإمام عليه السلام لِمَا رآهُ وقَالَ في نفْسِهِ: “إذا كَانَ قدِ اشتراهُما فلماذا اغْتنمَ فُرْصةَ انشِغَالِ صاحب الحانوت؟”.
ظلَّ الإمام عليه السلام يفكر في ما رآهُ وهُوَ ما زالَ يَتْبَعُ الرَّجلَ. ومَا هِيَ إلاَّ خطواتٍ حتَّى مرَّ الرَّجلُ ببائعِ رُمَّانٍ فوقفَ عنْدَهُ قليلاً ومَا إنِ انْشغَلَ البائعُ حتَّى مدَّ الرجلُ يدَهُ وأَخَذَ رُمُانتيّنَ ثُمَّ تابَعَ سَيْرهُ بهدوءٍ، فدُهِشَ الإمام عليه السلام لأَمرِ الرَّجلِ وقالَ في نفسِهِ: “لعلَّهُ قدِ اشْتَراهُما أيضاً، ولَكِنْ لِماذا أخَذَ الرَّمانَّتينِ في غفلةٍ منْ بائعِ الرُّمان؟”.
هِنَا أصرَّ الإمامُ أكثرَ على ملاحقةِ الرَّجلِ ليَعْرفَ حقيقةَ أمرِهِ ومَا تُخْفيهِ أَفْعَالُه. تَابَعَ الرَّجل يمشي في السُّوقِ وإِذْ بِهِ يمُرُّ بِمَرِيضٍ في طريقِهِ فَوَضَعَ
الرَّغِيفيْنِ والرُّمَّانتيْنِ بينَ يَدَيْهِ. عِنْدَهَا بَلَغَ العَجبُ بالإمام عليه السلام مُنْتَهاهُ لِمَا رَأَى مِنْ غرابة تصرف هذا الرجل، فاقتربَ مِنه وقالَ لهُ: “أَنَا رأيتُ مِنْكَ عملاً عجيباً” وبيَّن لهُ الإمامُ عليه السلام كل ما شاهَدَ ورأَى. نَظَر الرَّجُلُ إلى الإمامِ عليه السلام قائلاً: “أَلَسْتَ جعفر بن محمَّدٍ؟”.
فأَجَابَهُ الإمامُ عليه السلام: “بلَى، حدْسُكَ صحيحٌ أنَا جعفرُ بنُ محمدٍ”.
قال له الرَّجلُ: “أنتُ ابنُ رسولِ الله ولَكَ حسَبٌ ونسبٌ أصيلٌ ولَكِنْ مَتَى يَنْفَعُكَ شَرَفُ أصلِكَ مَعَ جهْلِكَ؟”.
فسأَلهُ الإمامِ عليه السلام: “أيُّ جهْلٍ رَأْيَتَه مِنِّي؟”.
حِينها قالَ لهُ الرَّجلُ: “لَقدْ جَهِلتَ قولَ الله عزَّ وجل، وتَلاَ الآية الكريمة: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ
مِثْلَهَا﴾، وإنِّي لَمَّا سَرَقْتُ الرَّغيفيْنِ كُنْتُ قدِ اقترْفتُ سَيِّئتينِ، ولمَّا سَرَقْتُ الرُّمُّانتينِ كِنْتُ قد اقترفْتُ سَيِّئتينِ فهذه أربعُ سيِّئاتٍ، فلَمَّا تصدَّقْتُ بكُلِّ واحدةٍ مِنْها كانَ لي أربعونَ حسَنةً، إنْتقِصْ مِنْ أربعينَ حسنةً أربعَ سيئاتٍ فيبْقَى ليْ ستٌّ وثلاثون حسنةً”!!
لمَّا سَمِعَ الإمامُ عليه السلام قول هذا الرَّجلِ قالَ لهُ: “ثَكَلَتْكَ أمُّكَ، أنتَ الجاهلُ بكتاب الله، أَمَا سمِعْتَ قولَ الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، إنَّكَ لمَّا سرَقْتَ الرَّغيفينِ كانَا سيِّئتينِ ولمَّا سرقْتَ الرُّمَّانتينِ كانت أيضاً سيِّئتينِ ولمَّا دَفَعْتَها إِلى غيرِ صَاحِبِها وَبِغَيْرِ أمرِ صَاحِبِها أَضَفْتَ إليها أربعَ سيِّئاتٍ ولَمْ تضِفْ أَربعين حسنةً إلى أربع سيِّئات.
وانْصرفَ الإمامُ عليه السلام تاركاً الرَّجلَ علَى حَالَتِهِ مِنَ البُهتانِ. وعِنْدَما انتَهى الإمامُ عليه السلام من سرْدِ هذه القصَّةِ لأصحابِهِ خَتَمَ بالقولِ: “بمثلِ هَذا التَّأوِيلِ القبيحِ المُستَنكرِ يَضِلُّونَ ويُضِلُّونَ”.