لا بد أن نتحول إلى أمة متحضرة، هذه المقولة الكبرى ينبغي أن تمثل خيارنا التاريخي الذي نتمسك به ولا نتراجع عنه على طول الخط، إذا نحن أردنا أن ندخل من جديد في حركة التاريخ، ونستعيد مكانتنا اللائقة والمفقودة، ويكون لنا شأن واعتبار فعلي وحقيقي بين المجتمعات والأمم، وهكذا إذا أردنا أن يكون لنا وجود وبقاء ومصير ومستقبل في هذا العالم المتغير الذي كل يوم هو في شأن.
ولا شك أننا بحاجة إلى وعي تاريخي كبير، ويقظة حضارية خلاقة حتى نفهم وندرك حقيقة وأبعاد مقولة التحول إلى أمة متحضرة، فهذا التحول لا يتحقق بمنطق الرغبات، أو بمجرد الطموح والتطلع، أو بزيادة الحديث عنه، كما لا يتحقق في ظل تفشي الأمية، وفشل التعليم، وتراجع البحث العلمي، وتخلف الجامعات، وانحدار منظومة القيم.
وما ينبغي معرفته أن هذا التحول لا يتحقق إلا من خلال القوانين التاريخية والسنن الاجتماعية العامة والثابتة في قيام الحضارات، والتي بها وعلى أساسها قامت جميع الحضارات في مختلف أزمنة وعصور التاريخ القديم والوسيط والحديث، وبغض النظر عن هوية هذه الحضارات وفلسفتها ورؤيتها الكونية.
وبدون اكتشاف هذه القوانين والسنن، والوعي بها، والعمل بمنطقها، والارتقاء إلى مستواها، والاستجابة لشروطها، فلن نتقدم باتجاه التحضر، وفي مقدمة هذه القوانين والسنن، قانون أن التغيير الشامل والحقيقي يبدأ من الذات مصداقاً لقوله تعالى:﴿ … إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ … ﴾ 1
كما أن التحول إلى أمة متحضرة، بحاجة إلى كسب عامل زمن الذي يمثل شرطاً ثابتاً في قيام ونهوض الحضارات، فجميع الحضارات إنما قامت في لحظة مثل فيها عامل الزمن شرطاً في قيامها، وجاء معبراً عن مسيرة ظافرة في الإنماء والبناء والعمران، وعلى مستوى الأبعاد كافة.
ولكي نسلك الطريق إلى بناء أمة متحضرة، فنحن بحاجة إلى المنظور الحضاري كمنهج في نقد وتحليل واستشراف أوضاعنا وأحوالنا في جوانبها وأبعادها المختلفة والمتعددة.
وفاعلية المنظور الحضاري كونه منظوراً مركباً، بمعنى أنه لا يتحدد في بعد واحد أو مجال واحد، وإنما يتسلط على أبعاد مختلفة ومتعددة. ولكون أن هذا المنظور يتوجه إلى جذر المشكلات وهو التخلف الذي تتأثر منه جميع القضايا والظواهر وحتى المفاهيم والأفكار، والمواقف والسلوكيات على اختلاف أبعادها ومجالاتها. ومن جهة ثالثة لكون أن المنظور الحضاري منظوراً يتطلع إلى التقدم، وإلى تغيير الأوضاع التي نحن عليها، والانتقال بها إلى وضعيات أفضل.
ولكي نصل إلى هذا المنظور الحضاري، وننضج رؤيتنا الحضارية، نحن بحاجة إلى مفكرين وحكماء على مستوى العصر وإشكالياته الكبرى وقضاياه المصيرية، ويتصفون ببعد إنساني على مستوى المعارف والأفكار، وأفق مستقبلي على مستوى التخطيط والاستشراف.
ولا يكتمل هذا الدور إلا بعد أن تتجلى هذه الرؤية الحضارية في وعي وسلوك الأمة، الأمر الذي يتطلب الارتقاء الفكري، وتطوير الوعي الفكري للأمة. ومهمة الارتقاء بالفكر وتطويره، هذه المهمة لها طبيعة مختلفة عن باقي المهام الأخرى، فهي بحاجة إلى إدراك واسع وعميق، وإلى درجة عالية من الأولوية والاهتمام، بحيث نكتشف من خلالها عظمة الفكر وقيمته وفاعليته، وابتداء نحن بحاجة إلى أن نتخلق بالفكر لكي يكون الفكر متجلياً في حياتنا، حاضراً ومشعاً وفياضاً.
ومن أنجع الأساليب في الارتقاء بالفكر وتطويره، العناية والاهتمام والتركيز على العلوم العقلية، وتحديداً في ثلاثة علوم أساسية هي أصول الفقه والفلسفة والمنطق، وهي العلوم التي تساهم في بناء الفكر ومنهجيته وتنظيمه2.
- 1. القران الكريم: سورة الرعد (13)، الآية: 11، الصفحة: 250.
- 2. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الخميس 10 ربيع الأول 1428هـ / 29 مارس 2007م، العدد 14824.