قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ … ﴾ 1.
مما لا شك فيه أن القرآن الكريم هو الكتاب الإلهي الذي يحوي بين دفتيه الدستور الأساس للأمة الإسلامية، ولهذا كانت ميزته الرئيسية جريان آياته كما هو جريان الليل والنهار، والمورد فيه لا يخصص الوارد، وهناك تعهد إلهي يحفظه من كل تزييف ويصونه من كل تحريف، وكل ذلك لكي يبقى هذا الكتاب ملجأ وملاذاً للأمة فيما تحتاجه في مسيرتها في الحياة الدنيا.
إلا أن كل هذه المواصفات الجليلة لكتاب الله قد لا تكون مانعاً ـ كما هو حاصل فعلاًً ـ من التلاعب بالمعاني والمقاصد المرادة من الآيات، فكان لا بد من وجود فئة مؤمنة تستطيع أن تقوم بمهمة الحفاظ على هذا القرآن من جهتين:
الأولى: تطبيق آياته في المسار العلمي بالطريقة التي تكون حجة على كل المسلمين.
الثانية: الدفاع عن مقاصده ومعانيه حتى لا يفسرها كل أحد وفق نظراته وآرائه الخاصة.
ولا شك أن المهمة الأولى تحتاج إلى الكثير من الانضباط عند التطبيق، ليكون مثل ذلك الإمتثال الموافق تماماً لمضامين الكتاب الصورة الواضحة التي تشكل المقياس الذي من خلاله نستطيع الحكم على تصرفات الآخرين من المسلمين إيجاباً أو سلباً.
ولا شك أن المهمة الثانية تحتاج إلى الإحاطة التامة والمعرفة الشاملة بالكثير من الأمور المرتبطة بالقرآن، سواء من جهة أسباب نزول الآيات، أو تحديد العلاقات بين الآيات بالطريقة التي تؤمن التوازن وعدم التضارب، خاصة إذا علمنا أن القرآن وفق نص الآية المتصدرة لهذا البحث يتضمن نوعين أساسين ـ الآيات المتشابهة ـ وـ الآيات المحكمة ـ، وهذا الأمر يستدعي وعياً تاماً وتجرداً عالياً حتى يستطيع الإنسان أن يحدد المراد من المتشابه بالخصوص عبر الرد إلى المحكم كما تشير إلى ذلك الروايات الكثيرة.
ولأجل هاتين المهمتين الخطيرتين نجد أن الآية تحدد أن الذين يقدرون على تحديد المقاصد القرآنية بدقة ضمن التوجه القرآني الإلهي هم:
أولاً: رب العالمين باعتباره المنزل للقرآن وكل ما يحتويه من سور وآيات.
ثانياً: ﴿ … وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ … ﴾ 1 وهم الأشد ثباتاً يما يعلمون، ولا يعرض التزلزل لما يعلمونه من الكتاب، وهم يؤمنون بعلمهم ويعملون به ولا تختلط عليهم المتشابهات ويتمكنون من ردها إلى المحكمات.
وقد ورد في تفسير المحكم والمتشابه عن الإمام الصادق (عليه السلام): أن القرآن محكم ومتشابه: فأما المحكم فتؤمن به وتعمل به وتدين، وأما المتشابه فتؤمن به ولا تعمل به… والراسخون في العلم هم آل محمد (صلى الله عليه وآله).
وورد تفسير ﴿ … وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ … ﴾ 1 بأنهم آل محمد (صلى الله عليه وآله) في العديد من الروايات المشابهة للرواية التي نقلناها.
وهذا التفسير هو الأقرب، وهناك جملة من الأمور المساعدة على ذلك:
آية التطهير لأهل البيت (عليهم السلام) التي تسمح بانطباق ﴿ … وَالرَّاسِخُونَ … ﴾ 1 عليهم دون غيرهم.
حديث الثقلين (كتاب الله وعترتي أهل بيتي…)، حيث إن أظهر معاني الربط، هو أن يكون الائمة (عليهم السلام) الأعلم من غيرهم بمقاصد القرآن، حيث نزل في بيتهم ـ بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ وتوجد الكثير من النصوص التي تشير بوضوح إلى ذلك فلتراجع في مظان وجودها.
السيرة القطعية عن الأئمة (عليهم السلام) بأنه لم يأخذ أي واحد منهم علمه عن أحد، في الوقت الذي كان فيه جميع المسلمين ـ علماء وغيرهم ـ يرجعون إليهم لاستيضاحهم معاني الآيات ومقاصدها، وهذا إقرار عملي بأعلميتهم ومقدرتهم على تحديد المعاني بدقة ووضوح، مضافاً إلى الاعتراف اللفظي من كبار علماء المذاهب الإسلامية بالتفوق الكبير للأئمة (عليهم السلام) في هذا المجال.
لهذا فنحن لا نغالي في القول، ولا في طريقة الإستدلال على أن الأئمة (عليهم السلام) هم المصداق الأوضح والأكمل لقوله تعالى: ﴿ … وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ … ﴾ 1. ومن هنا كان الاعتماد الكلي من جانب الشيعة في تفسير الكتاب على الأئمة (عليهم السلام) للأخذ بما فسروا به آيات الكتاب، وهذه الطريقة هي التي تبعدنا عن العمل بالقرآن وفق الآراء والاستنتاجات الخاصة التي لا تخلو عادة من خلط الأهواء والغايات الشخصية أو الفئوية ضمن تحديد المراد من الآيات، فيؤدي هذا إلى تشويش الصورة المطلوبة، أو إلى عدم الاطمئنان في الكثير مما ذهب إليه المفسرون للقرآن الكريم2.