ما أجمل أن يتكلم الإنسان مع ربّه بكلام ربه؛ الذي جاء بأعلى صوره وأبهاها في القرآن الكريم، وليس من الغريب أن يتضمن بوصفه منهاج حياة وصراط حق يوصل الإنسان إلى الاستقامة بلا عوج أبدا حيث قال تعالى:(إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (الاسراء – 9)
واستكمالا للبحث السابق حان الوقت للكلام عن متعلق الهداية في هذا الدعاء وهو الصراط , ولا تُخفى الصعوبة النسبية التي تحيط بالكلام عنه لا لشحة بالمصادر أو الأفكار وإنما لثقل النتائج التي تترتب عليه لأنها تتعلق باستقامة الإنسان وسلوكه الطريق الأقوم, ومثل هذا يبحث عنه جميع العقلاء بوصفهم طالبين للكمال فارين من كل نقص وإنْ كانوا يختلفون في التشخيص وبحسب ما يملكونه من أفكار وتوجهات دينية أو ملاحدية أو مادية أو إسلامية أو ماركسية وهكذا، وليس الكلام هنا في مناقشة مثل هذه الأفكار وبيان الصحيح والفاسد بقدر ما يتعلق الأمر بتوضيح الاختلاف في تشخيص الصراط المستقيم لأنّنا لو سألنا أيّ طرف لقال لنا نحن الذين على الحق وصراطنا طريق التقدم والنمو والكمال، والإسلام بطوائفه غير بعيد عن مثل هذا الاختلاف في التشخيص .
وينطلق القرآن الكريم ليرسم أفكارا واعتقادات الإنسان من أوّل سوره وأهمّها ألا وهي السبع المثاني أو سورة الفاتحة فيعلمه مبدءًا مهمًّا يتعلق بطلب الهداية نحو الصراط المستقيم أيّ طريق الحق والحقيقة، ثم يشخص له إجمالا أهمّ سمات هذا الصراط ليعطيه المجال في الرجوع إلى الرسول وأوصيائه من جهة وإلى تفكيره وتأمله من جهة أخرى قال تعالى : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)(الحشر-7), وقال تعالى:(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ) (الأعراف – 185).
والغريب في المسألة أنّ القرآن الكريم لا يطرح سمات مجردة لهذا الصراط وإنّما يربط الكلام بإتباع أشخاص وتكون نتيجة اتباعهم هي بعينها اتباع الصراط المستقيم، وبعبارة أوضح فكأن القران الكريم يريد أن يقول لكل من يخاطبه: أن الصراط المستقيم الذي عليكم اتباعه والسير بنهجه هو الطريق الذي سار عليه مجموعة من البشر الذين استحقوا أن ينعم الله عليهم وهم بعيدون عن غضبه تعالى وعن الضلالة.
ومن هذه النتيجة ينطلق البحث إلى تحديد هؤلاء الأشخاص وتشخيصهم الذين اشار إليهم القران بعناوين متعددة وما هي الأدلة والقرائن على ذلك بإيجاز غير مخل.
نبدأ بالأدلة القرآنية في تحديد الذين أنعم الله عليهم وهي عديدة منها:
– (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) (المائدة -3).
– (ثمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر- 8).
ومن تتبع الروايات التفسيرية نجد أن الذين أنعم الله عليهم هم محمد وآل محمد والتفصيل موكل إلى محله.
الأدلة من السنة الشريفة وهي عدة منها:
1-حديث الثقلين:
وروي بأسانيد متعددة منها ما أخرجه أحمد في المسند، وابن سعد في الطبقات، والمتقي الهندي في كنز العمال وغيرهم، عن أبي سعيد عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، قال: إني أوشك أن أُدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عز وجل وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فأنظروني بِمَ تخلفوني فيهما. مسند أحمد بن حنبل 3 / 17 .
2-أحاديث الصراط:
وهي عديدة منها ما جاء في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: الصراط المستقيم أمير المؤمنين (عليه السلام).
وفي المعاني، عن الصادق (عليه السلام) قال: هي الطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فأما الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه، مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه في الآخرة فتردى في نار جهنم….
وعن ابن عباس: في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، قال: قولوا معاشر العباد: أرشدنا إلى حبّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته (عليهم السلام) تفسير الميزان: 1 / 27.
ودلالة هذه الأحاديث واضحة في تشخيص أصحاب الصراط المستقيم.
وبالتأمل في هذا الدعاء القرآني ذي المضامين العاليات تتضح لنا أمور:
أولا -التمسك بإتباع أصحاب الصراط المستقيم ويترتب على ذلك نتيجتين مهمتين هما:
1-كونهم معصومين وإلا لم يأمر الله بإتباعهم بشكل مطلق، لأنهم لو كانوا يخطئون فإما ألّا يأمر بإتباعهم، أو يأمر بإتباعهم جزئيا وفي الحالة الأولى نقع بـ(اللاحجة) وفي الثانية نقع بـ(اللاقدوة) وأسوة واختلاط الامر بين ما يجب أن نتبعهم فيه وبين ما لا يجب.
2-ينبغي اقتفاء أثرهم وتتبّع سيرتهم للوقوف على طريقتهم وصراطهم المأمورين بالأخذ به مطلقا، وهذا يدل على أهمية دراسة سيرة أهل البيت (عليهم السلام) لأن فيها النجاة والاستقامة في كل شيء .
ثانيا: عدم إتباع الفئتين التاليتين من الأشخاص الذين يتجسدون بالخط المقابل لمحمد وآل محمد:
1-المغضوب عليهم: قال تعالى:(وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)(طه-81) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(المجادلة -14).
2- الضَّالِّين: حيث يصرّح لنا القرآن الكريم بأنّ نتيجة الضلال هي دخول جهنم وساءت مصيرا في عدة آيات منها :(قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) (المؤمنون106-107)
ولابدّ من التنبيه إلى أن هناك من يذهب إلى أنه لابدّ أن يكون أصحاب الصراط المستقيم هم سابقين للإسلام زمانيا بدلالة لفظ المضي في أنعمت.
ولا يخفى عليكم أنهم وقعوا في الشبهة لأن الفعل الماضي متعلق بالنعمة ولا يوجد محذور في كونهم مخلوقين من ذرية الرسول وكون النعمة سابقة عليهم لأن نعم الله ماضية وحاضرة ومستقبلية ومنها ما سبقت وجودنا في الدنيا ومنها لاحقة لها.
السيد علي عادل