الأهداف الثقافية
الوصول إلى الأهداف يكون حسب الهمة التي يمتلكها الإنسان (قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ)[١] وتجلّت الهمة العظيمة في أهداف علي (عليه السلام) حيث إنّه يريد من الإنسان أن يكون كاملاً في الحظوظ الدنيوية والأخروية، ويريد منه أن يرتقي في الأسباب وأمام كل لحظة تشرف عليها أنفاسه.
إنّ الأهداف الثقافية التي توخّاها الإمام (عليه السلام) هي ما يلي:
١. الاتقاء
الاتقاء كما هو في اللغة: (اتقى الشيء: حَذره وتجنّبه)[٢].
التجنّب والاتقاء ليس بالمعنى المطلق، أي عن كل شيء، إنّما عن الأشياء التي تردي الإنسان وتورده موارد الذمّ والسّوء.
أعطى الإمام قاعدةً كليةً في كيفية التجنّب والابتعاد (مَن حصّن شهوته صانَ قدره)[٣] الاتقاء يحصل على صعيدين:
١. الصعيد الداخلي للإنسان: ذلك عبر تحصين الشهوة عن الاقتراب من لذائذها ومراتعها، عن جعفر الصادق بن محمد الباقر عن أبيه (عليه السلام): (إنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أتي بخبيص[٤] فأبى أن يأكله فقالوا له: أتحّرمه ؟ قال: لا، ولكنّي أخشى أن تتوق إليه نفسي فأطلبه)[٥].
٢. الصعيد الاجتماعي للإنسان: وذلك يحصل عبر تجنّب كل علاقة تعود عليه بالضرر وأن يحسن انتخاب علاقاته بالأشياء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه إذا صعد المنبر قال: ينبغي للمسلم أن يتجنّب مؤاخاة ثلاثة: الماجن والأحمق والكذّاب)[٦].
وأيضاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا ينبغي للمرء المسلم أن يؤاخي الفاجر، فإنّه يزيّن له فعله ويحب أن يكون مثله، ولا يعينه على أمر دنياه ولا أمر معاده، ومدخله إليه ومخرجه من عنده شَين عليه)[٧].
إنّ الاتقاء من هؤلاء الأفراد، يعطي زخماً ثقافياً وأخلاقياً للمسلم ؛ لأنّ هؤلاء الأفراد عبارة عن عوائق ثقافية تقف حائلاً أمام مسير الإنسان وتكامله.
٢. الإرساء
أرسى وثبّت الإمام العقائد الحقة بين الناس، مثل التوحيد والصورة الحقيقية لصفات الله تعالى وعدله (الأَوَّلُ لا شَيْءَ قَبْلَهُ وَالآخِرُ لا غَايَةَ لَهُ، لا تَقَعُ الأَوْهَامُ لَهُ عَلَى صِفَةٍ وَلا تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلَى كَيْفِيَّةٍ، وَلا تَنَالُهُ التَّجْزِئَةُ وَالتَّبْعِيضُ وَلا تُحِيطُ بِهِ الأَبْصَارُ وَالْقُلُوبُ)[٨].
إنّ هذا الإرساء للصفات الإلهية تُعلم أهميته حينما يلاحظ العقائد الحسية والتجّسيمية التي جعلت لله أعضاء وجوارح، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
تطرق الإمام إلى القضايا التي قد يقع فيها الاختلاف ـ قد وقع التية والاختلاف بالفعل ـ مثل إيمان آباء الأنبياء والأولياء، فأرسى الرؤية العقائدية الصحيحة والسليمة في كل شك، والتي استقى عذب معينها من كلمات الله تعالى الباقية: (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)[٩] (فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ، وَأَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ، تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الأَصْلابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الأَرْحَامِ، كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللَّهِ خَلَفٌ)[١٠].
أعاد الإمام (عليه السلام) إلى الأذهان أنفاس القرآن في الخلافة والإمامة بعد النبوة، (وَخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا، إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ وَلا عَلَمٍ قَائِمٍ)[١١].
إنّ بيان الإمام للمسائل العقائدية التي يحتاجها الناس في حياتهم الدنيا يدل على مدى أهمية هذا الهدف الثقافي، الذي بفقدانه تنعدم الرؤية الواضحة للأصول الإسلامية.
يدل كما على ضرورة تعليم الناس وسوقهم نحو الأهداف الأهم، والتي ترتكز عليها باقي المسائل والفروع الإسلامية، فعليه نعرف أنّ الإرساء يعتبر هدف ثقافي يعمل لتحقيقه مَن يطلب الاستقامة والمعرفة.
٣. الارتقاء
هو السّمو إلى درجات أعلى، (أَحْمِلْهُمْ مِنَ الْحَقِّ عَلَى مَحْضِهِ)[١٢] هنا سؤال: هذا الهدف العزيز كيف يتم تحقيقه ؟ نجد الجواب واضحاً في وصيته لابنه محمد بن الحنيفة حيث إنّ الإمام يريد أن يوصل ابنه محض الحق، (وألجئ نفسك في الأمور كلّها إلى الله الواحد القهّار، فإنّك تلجئها إلى كهفٍ حصينٍ، وحرز حريزٍ، ومانعٍ عزيز، وأخلص المسألة لربّك فإنّ بيده الخير والشرّ والإعطاء والمنع)[١٣].
من الشواهد المؤيّدة للارتقاء ـ الذي حصل لأفراد يسهل عدّهم وإحصائهم ـ أنّه قال علي (عليه السلام) لأبي أيّوب الأنصاري: (يا أبا أيّوب، ما بلغ من كرم أخلاقك ؟ قال: لا أؤذي جاراً فمَن دونه، ولا أمنعه معروفاً أقدر عليه…).
وعن ابن عبد البرّ قال: (كان أبو أيوب الأنصاري مع عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في حروبه كلها)[١٤].
يعمّم الإمام (عليه السلام) هذا الهدف عند سؤال أبي أيوب، ليستفيد من ذلك مَن كان حاضراً، وهذا الصحابي له سابقة حسنى في الجهاد بحيث إنّ إيمانه كان يدفعه أن يلازم الإمام في حروبه كلها.
إنّ الهدف الأعلى لعلي (عليه السلام) هو تقريب الناس من الله تعالى، (وَإِذَا قَوِيتَ فَاقْوَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِذَا ضَعُفْتَ فَاضْعُفْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ)[١٥].
———————————————————–
[١] . نهج البلاغة / الحكمة: ٤٧.
[٢] . المعجم الوسيط: ٢/١٠٥٢.
[٣] . نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٣٩٤.
[٤] . طعام معمول من التمر والزبيب والسمن، الحلواء.
[٥] . أمالي المفيد: ١٣٤.
[٦] . الأصول من الكافي: ٢/٣٧٦.
[٧] . نفس المصدر: ٢/٦٤٠.
[٨] . نهج البلاغة: الخطبة ٨٥.
[٩] . سورة الشعراء: ٢١٩، انظر تفسير مجمع البيان: ٧/٣٢٣، وتفسير القمي: ٢/١٢٥.
[١٠] . نهج البلاغة: ٩٤/١٧٦.
[١١] . نفس المصدر: الخطبة ١.
[١٢] . نفس المصدر: الخطبة ١٦٢.
[١٣] . نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٢٤٨.
[١٤] . سفينة البحار: ١/١٩٦.
[١٥] . نهج البلاغة: الحكمة ٣٨٣.
المصدر: http://arabic.balaghah.net