لما قتل العباس التفت الحسين (عليه السّلام) فلم ير أحدا ينصره و نظر إلى أهله و صحبه مجزرين كالأضاحي و هو إذ ذاك يسمع عويل الأيامى و صراخ الأطفال صاح بأعلى صوته: هل من ذاب عن حرم رسول اللّه؟ هل من موحد يخاف اللّه فينا؟ هل من مغيث يرجو اللّه في اغاثتنا؟ فارتفعت أصوات النساء بالبكاء «1».
و نهض السجاد عليه السّلام يتوكأ على عصا و يجر سيفه لأنه مريض لا يستطيع الحركة فصاح الحسين بأم كلثوم احبسيه لئلا تخلو الأرض من نسل آل محمد فأرجعته إلى فراشه «2».
ثم إنه عليه السّلام أمر عياله بالسكوت و ودعهم و كانت عليه جبة خز دكناء «3» و عمامة موردة أرخى لها ذؤابتين و التحف ببردة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و تقلد بسيفه «4».
و طلب ثوبا لا يرغب فيه أحد يضعه تحت ثيابه لئلا يجرد منه فإنه مقتول مسلوب، فأتوه بتبان «5» فلم يرغب فيه لأنه من لباس الذلة «6» و أخذ ثوبا خلقا و خرقه و جعله تحت ثيابه «7» و دعا بسراويل حبرة ففزرها و لبسها لئلا يسلبها «8».
الرضيع
و دعا بولده الرضيع يودعه، فأتته زينب بابنه عبد اللّه «9» و أمه الرباب فأجلسه في حجره يقبله «10» و يقول بعدا لهؤلاء القوم إذا كان جدك المصطفى خصمهم «11» ثم أتى به نحو القوم يطلب له الماء، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فذبحه فتلقى الحسين الدم بكفه ورمى به نحو السماء.
قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام: فلم تسقط منه قطرة «12» و فيه يقول حجة آل محمد عجل اللّه فرجه: السلام على عبد اللّه الرضيع المرمي الصريع المتشحط دما و المصعد بدمه إلى السماء المذبوح بالسهم في حجر أبيه، لعن اللّه راميه حرملة بن كاهل الأسدي و ذويه «13».
أعزز علي و أنت تحمل طفلك الظامي و حر أوامه لا يبرد
قد بح من لفح الهجيرة صوته بمرنة منها يذوب الجلمد
و قصدت نحو القوم تطلب منهم وردا و لكن أين منك المورد
و القوس طوّق نحره فكأنه خيط الهلال يحل فيه الفرقد
و على الربية في الخيام نوائح تومي لطفلك بالشجى و تردد
و رب رضيع ارضعته قسيهم من النبل ثديا دره الثر فاطمه
فلهفي له مذ طوق السهم جيده كما زينته قبل ذاك تمائمه
هفا لعناق السبط مبتسم اللمى وداعا و هل غير العناق يلائمه
و لهفي على أم الرضيع و قد دجى عليها الدجى و الدوح نادت حمائمه
تسلل في الظلماء ترتاد طفلها و قد نجمت بين الضحايا علائمه
فمذ لاح سهم النحر ودت لو إنها تشاطره سهم الردى و تساهمه
أقلته بالكفين ترشف ثغره و تلثم نحرا قبلها السهم لاثمه
و ادنته للنهدين و لهى فتارة تناغيه إلطافا و أخرى تكالمه
بنيّ افق من سكرة الموت و ارتضع بثدييك على القلب يهدأ هائمه
بنيّ فقد درّا و قد كظّك الظما فعله يطفي من غليلك ضارمه
بني لقد كنت الأنيس لوحشتي و سلواي إذ يسطو من الهم غاشمه «14»
ثم قال الحسين عليه السّلام هوّن ما نزل بي أنه بعين اللّه تعالى «15» اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح، إلهي إن كنت حبست عنا النصر فاجعله لما هو خير منه و انتقم لنا من الظالمين «16» و اجعل ما حل بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل «17» اللهم أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمد (صلى اللّه عليه و آله و سلم) «18» و سمع عليه السّلام قائلا يقول: دعه يا حسين فإن له مرضعا في الجنة «19» ثم نزل عليه السّلام عن فرسه و حفر له بجفن سيفه و دفنه مرملا بدمه و صلى عليه «20» و يقال وضعه مع قتلى أهل بيته «21».
لهفي على أبيه إذ رآه غارت لشدة الظما عيناه
و لم يجد شربة ماء للصبي فساقه التقدير نحو الطلب
و هو على الأبيّ أعظم الكرب فكيف بالحرمان من بعد الطلب
من دمه الزاكي رمى نحو السما فما أجل لطفه و اعظما
لو كان لم يرم به إليها لساخت الأرض بمن عليها
فاحمرت السماء من فيض دمه ويل من اللّه لهم من نقمه
و كيف حال أمه حيث ترى رضيعها جرى عليه ما جرى
غادرها كالدرة البيضاء و عاد كالياقوتة الحمراء
حنت عليه حنة الفصيل بكته بالإشراق و الأصيل
لهفي لها إذ تندب الرضيعا ندبا يحاكي قلبها الوجيعا
تقول يا بني يا مؤملي يا منتهى قصدي و أقصى املي
جف الرضاع حين عز الماء أصبحت لا ماء و لا كلاء
فساقك الظما إلى ري الردى كأنما ريك في سهم العدى
يا ماء عيني و حياة قلبي من لبلائي و عظيم كربي
رجوت أن تكون لي نعم الخلف و سلوة لي عن مصابي بالسلف
ما خلت أن السهم للفطام حتى ارتني جهرة أيامي «22»
و تقدم الحسين (عليه السّلام) نحو القوم مصلتا سيفه آيسا من الحياة و دعا الناس إلى البراز فلم يزل يقتل كل من برز إليه حتى قتل جمعا كثيرا «23» ثم حمل على الميمنة و هو يقول:
الموت أولى من ركوب العار و العار أولى من دخول النار «24»
و حمل على الميسرة و هو يقول:
أنا الحسين بن علي آليت أن لا انثني
احمي عيالات أبي امضي على دين النبي «25»
قال عبد اللّه بن عمار بن يغوث: ما رأيت مكثورا قط قد قتل ولده و أهل بيته و صحبه اربط جأشا منه و لا امضى جنانا و لا اجرأ مقدما و لقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شد فيها و لم يثبت له أحد «26».
فصاح عمر بن سعد بالجمع: هذا ابن الانزع البطين، هذا ابن قتال العرب احملوا عليه من كل جانب، فأتته أربعة آلاف نبلة «27» و حال الرجال بينه و بين رحله فصاح بهم: يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين و كنتم لا تخافون المعاد فكونوا احرارا في دنياكم و ارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون.
فناداه شمر: ما تقول يا ابن فاطمة؟ قال: أنا الذي اقاتلكم و النساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم عن التعرض لحرمي ما دمت حيا.
قال اقصدوني بنفسي و اتركوا حرمي قد حان حيني و قد لاحت لوائحه
فقال الشمر: لك ذلك.
و قصده القوم و اشتد القتال و قد اشتد به العطش «28» فحمل من نحو الفرات على عمرو بن الحجاج و كان في أربعة آلاف فكشفهم عن الماء و اقحم الفرس الماء فلما هم الفرس ليشرب قال الحسين أنت عطشان و أنا عطشان فلا أشرب حتى تشرب! فرفع الفرس رأسه كأنه فهم الكلام و لما مد الحسين يده ليشرب ناداه رجل اتلتذ بالماء و قد هتكت حرمك؟ فرمى الماء و لم يشرب و قصد الخيمة «29».
يروي الثرى بدمائهم و حشاه من ظمأ تطاير شعلة قطعاتها
لو قلبت من فوق غلة قلبه صم الصفا ذابت عليه صفاتها
تبكي السماء له دما افلا بكت ماء لغلة قلبه قطراتها
و احر قلبي يا ابن بنت محمد لك و العدى بك انجحت طلباتها
منعتك من نيل الفرات فلا هنا للناس بعدك نيلها و فراتها «30»
_____________
(1) اللهوف ص 65.
(2) الخصائص الحسينية للشيخ جعفر الشوشتري قدس سره ص 129 الاستغاثة الرابعة ..
و ممن نص على مرضه يوم كربلاء، مصعب الزبيري في نسب قريش ص 58 و اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 217. و قال الخوارزمي في مقتل الحسين ج 2 ص 32 خرج علي بن الحسين و هو أصغر من أخيه القتيل و كان مريضا لا يقدر على حمل السيف. الخ.
(3) روى الكليني في الكافي على هامش مرآة العقول ج 4 ص 105 عن الباقر عليه السّلام و الآلوسي في روح المعاني ج 8 ص 111 عند قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ و ابن حجر في مجمع الزوائد ج 9 ص 192 و الخوارزمي في مقتل الحسين ج 2 ص 35 كان على الحسين عليه السّلام يوم عاشوراء جبة خز دكناء.
(4) المنتخب ص 315 المطبعة الحيدرية سنة 1369.
(5) في الصحاح بالضم و التشديد هي سراويل صغيرة مقدار شبر تستر العورة المغلظة و في شفاء الغليل ص 52 هو من الدخيل و الأصوب فيه الضم.
(6) مناقب ابن شهراشوب ج 2 ص 222 و البحار ج 10 ص 305.
(7) مجمع الزوائد لابن حجر الهيثمي ج 9 ص 193 و البحار ج 10 ص 205.
(8) اللهوف ص 69 و تاريخ الطبري ج 6 ص 259.
(9) سماه ابن شهراشوب في المناقب ج 2 ص 222 علي الأصغر و ذكر السيد ابن طاووس في الاقبال زيارة للحسين يوم عاشوراء و فيها صلى اللّه عليك و عليهم و على ولدك علي الأصغر الذي فجعت به، و الذي نص على أنه عبد اللّه و أمه الرباب الشيخ المفيد في الاختصاص ص 3 و أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ص 35 و مصعب الزبيري في نسب قريش ص 59 و في سرّ السلسلة ص 30 المقتول بالسهم في حجر أبيه عبد اللّه و لم يذكر أمه.
(10) اللهوف ص 65 و في تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 218 طبع النجف أن الحسين لواقف إذ أتى بمولود له ولد الساعة أذن في أذنه و جعل يحنكه إذ أتاه سهم وقع في حلق الصبي فذبحه فنزع الحسين السهم من حلقه و جعل يلطخه بدمه و يقول: و اللّه لأنت أكرم على اللّه من الناقة و لمحمد اكرم على اللّه من صالح ثم أتى فوضعه مع ولده و بني أخيه.
(11) البحار ج 10 ص 23 و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 22.
(12) في مناقب ابن شهراشوب ج 2 ص 222 لم يرجع منه شيء و ذكر ابن نما في مثير الأحزان ص 36 و السيد في اللهوف ص 66 رواية الباقر عليه السّلام و ذكر ابن كثير في البداية ج 8 ص 186 و القرماني في أخبار الدول ص 108 و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 32: رمى به نحو السماء قال ابن كثير و الذي رماه بالسهم رجل من بني أسد يقال له «ابن موقد النار».
(13) زيارة الناحية المقدسة و الأبيات للخطيب الفاضل سيد محمد جواد شبر.
(14) للعلامة الشيخ محمد تقي آل صاحب الجواهر.
(15) اللهوف ص 66.
(16) مثير الأحزان لابن نما ص 26 و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 32.
(17) تظلم الزهراء ص 122.
(18) المنتخب ص 313.
(19) تذكرة الخواص ص 144 و القمقام لميرزا فرهاد ص 385 و في الإصابة بترجمة إبراهيم ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و تهذيب الأسماء للنووي ج 1 ص 102 و شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج 3 ص 214 باب أولاده لما توفي إبراهيم ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم قال النبي إن له مرضعا في الجنة.
(20) مقتل الخوارزمي ج 2 ص 32 و الاحتجاج للطبرسي ص 163 طبع النجف.
(21) الارشاد و مثير الأحزان ص 36.
(22) من ارجوزة آية اللّه الحجة الشيخ محمد حسين الأصفهاني «قده».
(23) مقتل العوالم ص 97 و مثير الأحزان لابن نما ص 37 و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 33.
(24) في البيان و التبيين للجاحظ ج 3 ص 171 طبع ثاني تحت عنوان (كلام في الأدب) بعد أن ذكر هذا البيت اتبعه بقوله:
و اللّه من هذا و هذا جار
(25) مناقب ابن شهراشوب ج 2 ص 223.
(26) الطبري ج 6 ص 259 و نسبه الخوارزمي في مقتل الحسين ج 2 ص 38 إلى بعض من شهد الوقعة.
(27) مناقب ابن شهراشوب ج 2 ص 223.
(28) اللهوف ص 67.
(29) البحار ج 10 ص 204 و مقتل العوالم ص 98 و نفس المهموم ص 188 و الخصائص الحسينية ص 46 باب خصائص الحيوانات.
إني لا اضمن صحة هذا الحديث المتضمن لامتناع الفرس من الشرب و لرمي الحسين الماء من يده لمجرد قول الأعداء و هو العالم بأنه مكيدة، لكن خصائص هذا اليوم المختصة بسيد الشهداء و من معه على أن يقضوا عطاشى خارجة عما نعرفه و لا سبيل لنا إلا التسليم بعد أن كان الإمام عليه السّلام حكيما في افعاله و أقواله لا يعمل إلا بما تلقاه من جده الذي لا ينطق عن الهوى، و كل قضايا الطف محدودة الظرف و المكان لأسرار و مصالح لا يعلمها إلا رب العالمين تعالى شأنه!
و هناك شيء آخر لاحظه سيد الشهداء و كانت العرب تتفانى دونه و هو حماية الحرم بأنفس الذخائر، و أبو عبد اللّه سيد العرب و ابن سيدها فلا تفوته هذه الخصلة التي يستهلك دونها النفس و النفيس! و لما ناداه الرجل هتكت الحرم لم يشرب الماء اعلاما للجمع بما يحمله من الغيرة على حرمه و لو لم يبال بالنداء لتيقن الناس فقدانه الحمية العربية و لا يقدم عليه أبيّ الضيم حتى لو علم بكذب النداء، و فعل سيد الاباة من عدم شرب الماء و لو في آن يسير هو غاية ما يمدح به الرجل.
(30) من قصيدة لآية اللّه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رحمه اللّه.
المصدر: http://h-najaf.iq/