الرد على الشبهة
أقول: ان الروايات التي أشار إليها هي كما يلي:
الرواية الاولى
رواها الطوسي في الغيبة عن سعد بن عبد الله عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: «كنت عند أبي الحسن العسكري (عليه السلام) وقت وفاة ابنه أبي جعفر، وقد كان أشار إليه ودل عليه وإني لافكر في نفسي وأقول هذه قصة أبي أبراهيم (عليه السلام) وقصة إسماعيل فأقبل علىَّ أبو الحسن (عليه السلام) وقال: نعم يا أبا هاشم بدا لله في أبي جعفر وصيَّر مكانه أبا محمد كما بدا له في إسماعيل بعدما دَّل عليه أبو عبد الله (عليه السلام) و نصبه وهو كما حدثتك نفسك وان كره المبطلون، أبو محمد ابني الخلف من بعدي، عنده ما تحتاجون إليه، ومعه آلة الإمامة والحمد لله» 1.
وقد رواها في الكافي في باب الاشارة والنص على أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) مختصرة كما يلي: «بعد ما مضى ابنه أبو جعفر وإني لأفكر في نفسي أريد ان أقول: كأنهما أعني أبا جعفر وأبا محمد في هذا الوقت كأبي الحسن موسى وإسماعيل ابني جعفر بن محمد (عليهما السلام) وان قصتهما كقصتهما، إذ كان أبو محمد المرجى بعد أبي جعفر فأقبل علىَّ أبو الحسن قبل ان انطق فقال: نعم يا أبا هاشم بدا لله في أبي محمد بعد أبي جعفر مالم يكن يُعرَف له كما بدا له في موسى عند مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله وهو كما حدثتك نفسك وان كره المبطلون وأبو محمد ابني الخلف من بعدي، عنده علم ما يحتاج إليه ومعه آلة الإمامة».
وقد رواها الشيخ المفيد في الارشاد عن الكليني بدون عبارة (وكان أبو محمد المرجى بعد أبي جعفر).
الرواية الثانية
رواها الكليني في الكافي عن علي بن محمد عن اسحق بن محمد عن شاهويه عن عبد الله الجلاب قال: «كتب إليَّ أبو الحسن في كتاب أردت ان تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر وقلقت لذلك فلا تغتم فان الله عز وجل يقول: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ … ﴾ 2وصاحبك بعدي أبو محمد ابني وعنده ما تحتاجون إليه، يقدم الله ما يشاء ويؤخر ما يشاء ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا … ﴾ 3قد كتبت بما فيه بيان وقناع لذي عقل يقظان» 4.
وقد رواها الطوسي في كتابه الغيبة عن الكليني بالسند نفسه وفيها إضافة وهي قول الراوي: «كنت رويت عن أبي الحسن العسكري (عليه السلام) في أبي جعفر ابنه روايات تدل عليه، فلما مضى أبو جعفر قلقت لذلك وبقيت متحيراً لا أتقدم ولا أتأخر، وخفت ان اكتب إليه في ذلك فلا ادري ما يكون فكتبت إليه اسأله الدعاء وان يفرِّج الله تعالى عنا في أسباب من قِبَل السلطان كنا نغتم بها في غلماننا. فرجع الجواب بالدعاء ورد الغلمان علينا» 5.
غير ان هاتين الروايتين يرد عليهما
اولا: أنهما معارضتان بروايات أخرى صريحة بالنص من الهادي (عليه السلام) على إمامة ولده الحسن العسكري في حياة أخيه ابي جعفر، وروايات أخرى صريحة في ان الإمام الهادي (عليه السلام) لم يخص أحدا بالنص قبل وفاة ولده أبي جعفر.
روى الكليني 6 عن علي بن محمد عن جعفر بن محمد الكوفي عن بشار بن احمد البصري عن علي بن عمر النوفلي قال: «كنت مع أبي الحسن (عليه السلام) في صحن داره فمر بنا محمد ابنه فقلت له جعلت فداك هذا صاحبنا بعدك فقال لا، صاحبكم بعدي الحسن».
وروى أيضاً 7 عن علي بن محمد عن أبي محمد الاسبارقيني عن علي بن عمرو العطار قال: «دخلت على أبي الحسن العسكري (عليه السلام) وأبو جعفر ابنه في الاحياء وأنا أظن انه هو فقلت جعلت فداك من أخص ولدك فقال لا تخصوا أحدا حتى يخرج إليكم أمري قال فكتبت إليه بعد 8: في من يكون هذا الامر قال فكتب إليَّ في الكبير من ولدي قال وكان أبو محمد (عليه السلام) اكبر من جعفر» 9.
ثانيا: في الروايتين ألفاظ من غير الممكن الاخذ بظاهرها لانها تجعل البداء الذي يقول به الشيعة هو البداء المستحيل في حق الله تعالى وهم لا يقولون بهذا النحو من البداء.
ان الشيعة يعتقدون تبعاً للروايات الثابتة عن أئمتهم كما مر قسم منها في مناقشة الشبهة الثانية ان الإمام السابق حين ينص على الإمام اللاحق إنما هو بعهد معهود لرجل فرجل من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى.
فلو فرضنا ان الإمام الهادي (عليه السلام) قد نص على ولده محمد بالإمامة فإنما ينص عن الله تعالى بواسطة رسوله فإذا مات محمد ونص الإمام الهادي (عليه السلام) على الحسن (عليه السلام) وهو عن الله تعالى بواسطة رسوله أيضاً ثم نسب ذلك إلى البداء من الله في الحسن (عليه السلام) بعد موت أخيه محمد (رحمه الله) كان معناه ان الله تعالى قد قضى شيئاً قضاء محتوماً على لسان نبيه ثم غيَّره وهو مما يجمع الإمامية على رفضه وقد ثبت في تراث أهل البيت (عليهم السلام) ان البداء لا يكون في القضاء المحتوم بل يقع في القضاء الموقوف 10.
وليس من شك ان إمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) من القضاء الالهي المحتوم وذلك للاخبار بعددهم وبأسمائهم وبكبريات الحوادث المرتبطة بهم منذ عهد النبي (صلى الله عليه وآله) ولذكرها في كتب الانبياء السابقين 11.
وبسبب ذلك كان لا بد من حمل الالفاظ الآنفة الذكر على غير ظاهرها ان أمكن أو طرح الروايتين من الاعتبار وقد ذهب الشيخ الطوسي (رحمه الله) إلى الأمر الاول إذ قال بعد ان اورد الخبرين: «ما تضمنه الخبر المتقدم من قوله (بدا لله في محمد كما بدا له في إسماعيل) معناه ظهر من أمر الله وأمره في أخيه الحسن ما أزال الريب والشك في إمامته فان جماعة من الشيعة كانوا يظنون ان الامر في محمد من حيث كان الاكبر كما كان يظن جماعة ان الامر في إسماعيل بن جعفر دون موسى (عليه السلام) فلما مات محمد ظهر أمر الله فيه وانه لم ينصبه إماما كما ظهر في إسماعيل مثل ذلك لا انه كان نصَّ عليه ثم بدا له في النص على غيره فان ذلك لا يجوز على الله تعالى العالم بالعواقب 12، وهذا التأويل صحيح ولا غبار عليه ولكنه لا يرفع الاشكال عن بقية عبارات الرواية.
ونحن نرى ان الموقف الصحيح من هاتين الروايتين بالالفاظ التي أوردهما الشيخ الطوسي هو الطرح لا التأويل، وذلك لاشتمالها على ما يوجب ذلك وهو قول الراوي (وقد كان أشار إليه ودلَّ عليه) أي وكان الهادي (عليه السلام) قد أشار إلى ولده محمد (رحمه الله) ودلَّ عليه كما أشار أبو عبد الله (عليه السلام) من قبل إلى إسماعيل ونصبه. ومما لا شك فيه ان أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) لم ينصب ولده إسماعيل للامامة بل ان هذه الدعوى هي دعوى الاسماعيلية ثم ربطت بالبداء وجعلت مثالاً له من قبل المغرضين لتشويه مسألة البداء عند الشيعة وتشويه مسألة القائمة المعدة بأسماء الأئمة الاثني عشر من قبل الله تعالى بواسطة رسوله، وقد أجمع الشيعة على تكذيبهم في تلك الدعوى. كما أجمعوا على تكذيب من يقول ان الهادي (عليه السلام) كان قد نصب ولده أبا جعفر للامامة فلما مات نصب ولده الحسن (عليه السلام).
قال الشيخ المفيد: «وأما (أمر) الإمامة فإنه لا يوصف الله فيه بالبداء وعلى ذلك إجماع الإمامية ومعهم فيه أثر عنهم عليهم السلام انهم قالوامهما بدا لله في شىء فلا يبدو له في نقل نبي عن نبوته ولا إمام عن إمامته» 13.
الخلاصة
اتضح من خلال البحث ان صاحب النشرة أورد من الروايات ما يناسب هدفه ثم حمل ضاهرها على ما يريد ولم يشر إلى موقف الشيخ الطوسي من حمل الرواية على غير ظاهرها وكان ينبغي عليه ان يشير إلى ذلك ويناقشه ان كانت لديه مناقشة، ثم كان ينبغي عليه أيضاً ان يورد الروايات الاخرى التي تنص على خلاف مقصوده ويرحج بعضها على بعض بمرجح علمي وبذلك يكون بحثه بحثاً علمياً ومن ثم يكون قارئه على بينة من أمره أما ما قام به فليس من البحث العلمي في شىء مع ما فيه من استغفال القارىء وعدم احترامه 14.
- 1. الشورى العدد العاشر ص 12.
- 2. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 115، الصفحة: 205.
- 3. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 106، الصفحة: 17.
- 4. الكافي ج 1 / 328.
- 5. كتاب الغيبة ص201.
- 6. الكافي ج 1 ص325 رواية 1.
- 7. الكافي ج1 ص 326 الرواية 7.
- 8. وقوله (فكتبت إليه بعد) أي بعد موت أبي جعفر ابن الإمام الهادي (عليه السلام).
- 9. أي المعروف بالكذاب والرواية في المصدر (ابو جعفر) بدلا من (جعفر) ولكننا اثبتنا في المتن ما جاء في رواية الطبرسي في اعلام الورى وابن شهراشوب في مناقب آل أبي طالب والمفيد في الارشاد وكلهم قد رووها عن الكليني وهي عندهم بلفظ (جعفر) بدلا من أبي جعفر.
- 10. انظر كتاب البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي رحمه الله بحث البداء ص 409.
- 11. كما مرت الاشارة إليه في الفصل الاول وستأتي أيضاً في الفصل التاسع.
- 12. الغيبة للطوسي ص 201.
- 13. العيون و المحاسن ص 309.
- 14. شبهات وردود ـ الرد على الشبهات التي أثارها أحمد الكاتب حول العقيدة الإثني عشرية :الفصل السادس من الحلقة الاولى.