إسئلنا

الهجرة…

نص الشبهة: 

ومما يلفت النظر هنا ما يقال عن كيفية هجرة عمر بن الخطاب، حيث يروون عن علي «عليه السلام» أنه قال: ما علمت أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً، إلا عمر بن الخطاب ، فإنه لما هم بالهجرة تقلد بسيفه، وتنكب قوسه، وانتضى في يديه أسهماً، واختصر عنزته، ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً، ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة؛ فقال: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، فمن أراد أن تثكله أمه، أو يؤتم ولده، أو ترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي. قال علي رضي الله عنه: فما تبعه أحد، ثم مضى لوجهه (منتخب كنز العمال هامش مسند أحمد ج4 ص387 عن ابن عساكر، والسيرة الحلبية ج2 ص21 و 22، وأشار إلى ذلك في نور الأبصار ص15 . وكنز العمال ج14 ص221 و 222 عن ابن عساكر.).

الجواب: 

ونحن نقطع بعدم صحة هذا الكلام، لأن عمر لم يكن يملك مثل هذه الشجاعة، وذلك:
أولاً: لما تقدم في حديث إسلامه عن البخاري وغيره، من أنه حين أسلم اختبأ في داره خائفاً، حتى جاءه العاص بن وائل، فأجاره، فخرج حينئذٍ.
وفي بدر تكلم وأساء الكلام، حيث كان يجبّن النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمين.
ثانياً: إن مواقفه الحربية كانت عموماً غير مشجعة لنا على تصديق مثل هذا الكلام فلقد فر في أحد، وفر في حنين، رغم أنه يرى الخطر يتهدد الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» فلا يلتفت إليه، ولا يفكر إلا في الحفاظ على نفسه.
وأما فراره في خيبر فهو أعجب وأعجب حيث إنه كان معه من يدافع ويحامي عنه.
أما في واقعة الخندق ففر فيها أيضاً كما أنه لم يجرؤ على الخروج إلى عمرو بن عبد ود.
وحينما أخذ النبي «صلى الله عليه وآله» سيفاً في أحد، وقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟! فطلبه أبو بكر وعمر، فلم يعطهما إياه. وأعطاه أبا دجانة. إلى غير ذلك مما لا مجال له هنا، ولسوف نشير إليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى حين الكلام عن الغزوات المشار إليها.
والغريب في الأمر: أننا لم نر ولم نسمع: أن عمر، وأبا بكر، وعثمان قد قتل واحد منهم أحداً، أو بارز إنساناً، وما ذكر من ذلك قد ثبت عدم صحته.
كما أنه لم يجرح أي من هؤلاء ولا دميت له يد ولا رجل في سبيل الله، مع أن أعاظم صحابته «صلى الله عليه وآله» قد أصيبوا في الله وضحوا في سبيله، الأمر الذي يشير إلى أن هؤلاء كانوا شجعاناً في الرخاء، غير شجعان عند اللقاء.
ثالثاً: لقد أشرنا فيما سبق إلى أنه لم يجرؤ على أن يأخذ رسالة النبي «صلى الله عليه وآله» للمكيين في عام الحديبية، بحجة: أن بني عدي لا ينصرونه إن أوذي!!
فمن كانت هذه فعاله في تلك المواقع الصعبة هل يحتاج إلى بني عدي، أو إلى غيرهم؟!.
رابعاً: قال أبو سفيان في فتح مكة للعباس، حينما كانا يستعرضان الألوية، فمر عمر وله زجل: «يا أبا الفضل، من هذا المتكلم؟! قال: عمر بن الخطاب.
قال: لقد أَمِرَ أَمْرُ بني عدي بعد ـ والله ـ قلة وذلة.
فقال العباس: يا أبا سفيان إن الله يرفع من يشاء بما يشاء، وإن عمر ممن رفعه الإسلام 1.
خامساً: إنهم متفقون على أن الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» كان أشجع البشر دون استثناء، بل سيأتي أن بعضهم يحاول ادعاء أشجعية أبي بكر على سائر الصحابة ـ وإن كان سيأتي أن العكس هو الصحيح ـ ونحن نرى في حديث الهجرة أن النبي «صلى الله عليه وآله» يختفي في الغار، حذراً من المشركين، كما أن أبا بكر يخاف ويبكي، رغم كونه مع النبي الأعظم، الذي يتولى الله رعايته وحمايته، وظهرت له آنئذٍ الكثير من المعجزات الدالة على ذلك.
وقد ذكر الله خوف وحزن أبي بكر في القرآن، فكيف يخاف أبو بكر ويحزن مع أنه إلى جانب رسول الله «صلى الله عليه وآله» الذي يتولى الله حمايته ورعايته، مع ادعاء محبي أبي بكر أنه أشجع الصحابة بعد الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ـ نعم كيف يخاف أبو بكر ولا يخاف عمر؟!
ولماذا يعمل الرسول بالحزم، ويراعي جانب الحذر من قريش، ولا يفعل ذلك عمر بن الخطاب؟!
ولماذا لم يحم عمر رسول الله «صلى الله عليه وآله»، حتى يخرجه من مكة إلى المدينة؟!.
ولماذا يرضى عمر للنبي «صلى الله عليه وآله» أن يتحمل كل هذه الصعاب والمشاق، حتى يتمكن من التخلص من الورطة التي هو فيها؟!
بل إذا كان لعمر هذه الشجاعة والشدة ؛ فلماذا يضطر النبي «صلى الله عليه وآله» إلى الهجرة؟ فليحمه هذا البطل الشجاع، وليرد عنه بعض ما كانت قريش تؤذيه به؟
مع أنه تقدم: أنه حينما أسلم لم يستطع أن يحمي نفسه حتى أجاره خاله، من مواصلة إلحاق الأذى به.
ثم إننا لا ندري لماذا لم يحدثنا التاريخ عن موقف مماثل لحمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله، الذي شج رأس أبي جهل شجة منكرة، وعز المسلمون بإسلامه؟!.
ولماذا يترك النبي والهاشميين محصورين في الشعب، يكادون يهلكون جوعاً، ولا يجرؤ أحد على أن يوصل لهم شيئاً من طعام؟!.
لأن عمر عند هؤلاء قد أسلم قبل الحصر في الشعب، وإن كنا أثبتنا في ما تقدم بشكل قاطع: أنه قد أسلم قبل الهجرة بقليل. إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي لن تجد لها عند هؤلاء الجواب المقنع والمفيد.

ما هي الحقيقة إذاً؟!

ولكن الحقيقة هي: أن هذا التهديد والوعيد إنما كان من أمير المؤمنين علي «عليه السلام»، حينما هاجر، ولحقه سبعة من المشركين في ضجنان وسيأتي تفصيل القضية حين الكلام على هجرة أمير المؤمنين علي «عليه السلام» بعد هجرة النبي «صلى الله عليه وآله».
ولكن أعداء علي «عليه السلام» لم يستطيعوا أن يتحملوا أن يروا هذه الكرامة له، ولا سيما بعدما أثبت صحتها بمبيته على فراش النبي «صلى الله عليه وآله» ليلة الهجرة.
وكما كان يبيت على فراش رسول الله «صلى الله عليه وآله» مدة ثلاث سنين، يقيه بنفسه حينما كانوا محاصرين في شعب أبي طالب «رحمه الله».
فلما لم يكن إلى إنكارهم مبيته على الفراش سبيل أغاروا على فضيلته الأخرى ـ كعادتهم ـ فاستولوا عليها، ونسبوها إلى غيره ـ وعظموا من شأن أبي بكر في الغار ـ كما سيأتي حين الكلام على الهجرة إن شاء الله تعالى.
بل إنهم لم يرضوا إلا أن تكون فضيلة عمر على لسان عليٍّ نفسه، كما عودونا في مناسبات كهذه، فإن ذلك أوقع في النفس، وأبعد عن الشبهة، وأدعى إلى القبول. ولكن الله تعالى يقول: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ … ﴾ 2، وهكذا كان 3.

  • 1. مغازي الواقدي ج2 ص821 وعن كنز العمال ج5 ص295 عن ابن عساكر من طريق الواقدي.
  • 2. القران الكريم: سورة الأنبياء (21)، الآية: 18، الصفحة: 323.
  • 3. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله)، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الخامسة، سنة 2005 م. ـ 1426 هـ. ق، الجزء الرابع.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى