تعد المشاركة الشعبية في صناعة القرار من اهم عوامل الاستقرار في المجتمعات المتقدمة، ذلك لان الناس تدرك انها جزء اساس في تشكيل الاوضاع السياسية، وصياغة القرارات العامة، ضمن اروقة صناعة القرار في تلك المجتمعات الديمقراطية، فالشعب يقرر والحكومة باعتبارها السلطة التنفيذية تعكس تلك القرارات على ارض الواقع، تلك هي حقيقة الامر ببساطة، وذلك هو سر الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي في تلك المجتمعات.
فمتى ما شعر الناس ان لهم كلمة الفصل في اتخاذ القرارات، فسيكونون اول المندفعين نحو تطبيقها، ومتى ما حدث العكس واستبد آخرون بالرأي، فسوف لا يشعر الناس بطبيعة الحال بذات الحماس والاندفاع وستختلف تلقائيا درجة الاستجابة لديهم، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فإن القرار الذي تشترك فيه العقول لا شك ولا ريب يكون اكثر نضجا، واقرب الى الصواب من الرأي الذي يتخذه فرد واحد، او افراد معدودون، اضف لذلك ان القرار اذا كان قرارا شعبيا فسيصنف كل من يقف في طريقه كمن يعمل ضد مصلحة الجمهور، فلابد حينها من ان يقف هذا الجمهور في وجهه، والعكس صحيح، اذ سيتنصل الجميع من مسئولية مخالفة اي كان لأي قرار لا يد ولا دخل لهم في اتخاذه وتقريره.
وقد تابع العالم مؤخرا الخلاف والانقسام الذي نشب حول نتائج الانتخابات العامة في اوكرانيا، والذي هدد بأزمة كادت تعصف بالبلاد وتلقي بها في اتون حرب اهلية، بيد ان احتكام الشعب الى مرجعية مقبولة ساعد بشكل كبير في تحجيم حدة الانقسام، وتضييق شقة الخلاف، ووأد نوايا الانفصال التي برزت لدى بعض فئات الشعب، وكل ذلك لم يكن ليحصل لولا ان اتخذت الشرعية والقانون طريقها في سبيل ايجاد حلول مقبولة لجميع اطراف الازمة.
الإسلام والمشاركة الشعبية
وقد شرع الاسلام امر المشاركة الشعبية وفسح الطريق واسعا امامها، وقد جاء ذلك نصا في الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه اذ قال عز من قائل ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ … ﴾ 1 فالشئون العامة والهموم المشتركة هي من مواضع الشورى بين الناس، فهم يتشاورون ومن ثم يقررون، وبالتأكيد حينما تقول الآية ﴿شورى بينهم﴾ ﴿ … شُورَىٰ بَيْنَهُمْ … ﴾ 1فمعنى ذلك ان هذه الشورى هي مصدر القرار، والا فلا معنى حينها للشورى بينهم اذا كانت القرارات بيد جهة اخرى، فلابد اذا من ان تكون الشورى هي مصدر القرار.
وقد امر الله تعالى نبيه الاعظم محمدا مع عصمته واتصاله بالوحي ومكانته ورجاحة عقله وعظمة فكره واكتمال كل الصفات في شخصه الكريم، ان يستشير الناس اذ قال عز وجل ﴿ … وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ … ﴾ 2، ذلك لتكون بعده نهجا وسيرة تقتدى، وقد ورد في السيرة النبوية انه ما من احد اكثر مشاورة من رسول الله فقد كان يستشير الناس في كل شيء، حتى في موضوع بسيط كصنع منبر يخطب عليه في المسجد، لم يقرر ذلك الا بعد عرضه على الناس واخذ رأيهم. جاء في طبقات ابن سعد: كان رسول الله ، ويم الجمعة يخطب الى جذع في المسجد قائماً، فقال: ان القيام قد شق علي، فقال له تميم الداري، ألا أعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور رسول الله المسلمين في ذلك، فرأوا ان يتخذه. 3
بل حدث اكثر من ذلك حين كان للرسول رأي وللناس رأي آخر مغاير، فيتنازل الرسول عن رأيه الى رأي الناس، كما حصل في غزوة احد، فقد كان رأي الرسول وبعض اصحابه البقاء في المدينة كما حصل في غزوات اخرى، لكن بعض الاصحاب قالوا: اخرج بنا الى عدونا! وقال رجال من اهل السن واهل النية، فيهم حمزة بن عبدالمطلب، وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك بن ثعلبة، وغيرهم من الاوس والخزرج: انا نخشى يا رسول الله ان يظن عدونا انا كرهنا الخروج اليهم جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، ومالت مجموعة كثيرة تساند هذا الرأي، وبعد المشورة والمناقشات اتضح ان الاغلبية ترى الخروج الى العدو وهو خلاف رأيه ، فاستجاب الرسول لرأيهم. 4
وبالرغم من الانتكاسة التي حصلت للمسلمين في واقعة احد، الا ان الله تعالى امر رسوله بالالتزام بمبدأ الشورى مع اصحابه، كي لا تكون تلك الانتكاسة سببا للعزوف عن الشورى، يقول تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ 2.
وحقا ما قاله ابو هريرة فيما روي عنه: «ما رأيت رجلا احدا اكثر مشاورة لاصحابه من رسول الله (ص)» 5.
ومثله ما رواه عروة عن ام المؤمنين عائشة قالت: «ما رأيت اكثر استشارة للرجال من رسول الله » 6.
اذا فمسألة الشورى هي مبدأ، والديمقراطية الموجودة الآن في بعض المجتمعات هي صيغة وطريقة لتنفيذ هذا المبدأ 7.
- 1. a. b. القران الكريم: سورة الشورى (42)، الآية: 38، الصفحة: 487.
- 2. a. b. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 159، الصفحة: 71.
- 3. ابن سعد: الطبقات الكبرى ج١ ص ٠٥٢، دار بيروت ٠٦٩١م.
- 4. باشميل: محمد احمد، موسوعة الغزوات الكبرى، ج ٢ ص ٦٦، الطبعة الثانية ٥٨٩١م، المكتبة السلفية ومطبعتها، القاهرة.
- 5. ابن حبان: محمد، صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، ج ١١ ص ٧١٢، الطبعة الثانية ٣٩٩١م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- 6. البغوي: الحسين بن مسعود، تفسير البغوي «معالم التنزيل» ج ٢ ص ٤٢١، الطبعة الثالثة ٥٩٩١م، دار طيبة، الرياض.
- 7. الأيام البحرينية: مكتب الشيخ حسن الصفار 1 / 1 / 2005م.