نور العترة

السخاء…

1 – جاء إلى الإمام الحسين عليه‌السلام أعرابي، فقال: يابن رسول الله، قد ضمنت ديّةً كاملة وعجزت عن أدائها، فقلت في نفسي: أسأل أكرم النّاس. وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال له الحسين عليه‌السلام: «يا أخا العرب، أسألُكَ عن ثلاث مسائلٍ، فإنْ أجبتَ عَنْ واحدةٍ أعطيتُكَ ثُلثَ المالَ، وإنْ أجبتَ عَنْ اثنينِ أعطيتُكَ ثُلثَي المالِ، وإنْ أجبتَ عَنْ الكُلِّ أعطيتُكَ الكُلَّ». فقال الأعرابي: أمثلك يسأل مثلي، وأنت من أهل العلم والشرف؟! فقال الحسين عليه‌السلام: «بلى، سمعتُ جدِّي رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: المعروفُ بقَدرِ المعْرِفة». فقال الأعرابي: سلْ عمّا بدا لك، فإنْ أجبتُ وإلاّ تعلّمتُ منك، ولا قوّة إلاّ بالله. فقال الحُسين عليه‌السلام: «أيُّ الأعمالِ أفضل؟». فقال الأعرابي: الإيمان بالله. فقال الحسين عليه‌السلام: «فما النّجاة منَ الهَلَكة؟». فقال الأعرابي: الثقة بالله. فقال الحسين عليه‌السلام: «فما يزينُ الرَّجُلَ؟». فقال الأعرابي: عِلمٌ معه حِلم.
فقال عليه‌السلام: «فإنْ أخطأه ذلك؟». فقال: مالٌ معه مروءة. قال: «فإنْ أخطأه ذلك؟». فقال: فقرٌ معه صبر. فقال الحسين عليه‌السلام: «فإنْ أخطأه ذلك؟». فقال الأعرابي: فصاعقة تنزل من السّماء فتحرقه؛ فإنّه أهلٌ لذلك.
فضحك الحسين عليه‌السلام وأعطاه صرّة فيها ألف دينار، وأعطاه خاتمه وفيه فصّ قيمته مئتا درهم، وقال: «يا أعرابي، أعطِ الذَّهبَ إلى غُرمائِكَ، واصرفْ الخاتمَ في نفَقَتِكَ». فأخذ الأعرابي ذلك، وقال: (اللهُ أعْلَمُ حيْثُ يَجْعَلُ رسَالَتَهُ)1.
2- قال أنس بن مالك: كنتُ عند الحسين عليه‌السلام، فدخلتْ عليه جارية فحيَّته بطاقة ريحان، فقال لها: «أنتِ حُرّة لوجه اللهِ». فقلتُ تُحييك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها! قال: «كذا أَدَّبنا الله، قال:﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا … ﴾ 2وكان أحسنَ منها عتقُها»3.
3- وجاء إليه أعرابي – فأنشده مقطوعة شعرية بيَّن بها حاجته فقال:
لم يَخِبْ الآنَ مَنْ رَجاكَ ومَنْ *** حَرَّكَ من دونِ بابِكَ الحلقَهْ
أنتَ جوادٌ وأنتَ مُعتمدٌ *** أبوكَ قَدْ كانَ قاتلَ الفَسقَهْ
لولا الذي كانَ مِنْ أوائِلِكُمْ *** كانتْ علينَا الجَحيمُ مُنطَبقَهْ
وكان الحسين عليه‌السلام يُصلّي آنذاك، فلمّا فرغ من صلاته لفّ على طرف رداء له أربعة آلاف دينار ذهب، وناوله قائلاً:
خُذهَا فإنِّي إليكَ مُعتذرٌ *** واعلَمْ بأنِّي عليكَ ذُو شَفَقَهْ
لو كانَ في سَيرِنا الغداةَ عصاً *** كانتْ سمانَا عليكَ مُندفِقَهْ
لكنَّ ريبَ الزَّمانِ ذو غِيَرٍ *** والكفُّ منِّي قليلةُ النَّفقَهْ
فأخذ الأعرابي يبكي شوقاً، ثمّ تصعدت من أعماقه آهات حارة، وقال: كيف تبلى هذه الأيدي الكريمة؟!4.

عون الضعفاء

وهذه صفة تأتي كالفرع الذي سبقها من سجيّة الكرم؛ فإنّ النّفس إذا بلغت رفعتها المأمولة حنَّت على الآخرين حنان السّحابة على الأرض، والشمس على الكواكب.
1 – وُجِد على كاهله الشريف بعد وقعة الطَّفِّ أثرٌ بليغٌ كأنّه من جُرح عدّة صوارم متقاربة، وحيث عرف الشاهدون أنّه ليس من أثر جُرح عادي، سألوا علي بن الحسين عليه‌السلام عن ذلك، فقال: «هذا ممّا كانَ ينقلُ الجرابَ على ظهرِهِ إلى مَنازلَ الأرامِلِ واليَتامَى والمساكين»5.
2 – ويذكر بهذه المناسبة أيضاً أنّ مالاً وزّعه معاوية بين الزعماء والوجهاء، فلمّا فصلت الحمّالون، تذاكر الجالسون بحضرة معاوية أمر هؤلاء المرسَل إليهم الأموال حتّى انتهى الحديث إلى الحسين عليه‌السلام، فقال معاوية: وأمّا الحسين فيبدأ بأيتام مَن قُتلَ مع أبيه بصفيِّن، فإنْ بقي شيء نحر به الجزر وسقى به اللبن3.
ومعاوية كان من ألدِّ أعداء الحسين عليه‌السلام، ولكنّه يضطرّ الآنَ إلى أنْ يعترف بكرمه وسخائه؛ حيث لا يجد دون ذلك مهرباً.
وإلى هذا المدى البعيد يبلغ الحسين عليه‌السلام في الكرم، حتّى لَيقف عدوّه الكذّاب الذي لَم يترك أحداً من الزعماء الأبرياء إلاّ وكاد له بتهمةٍ، ووصمه بها وصمة حتّى إنّ عليّاً سيّد الصالحين، والحسن الزكي الأمين عليهما‌السلام، فإنّ معاوية هذا يقف على منبرٍ يشيد بهما وبسجاياهما المباركة.
3 – وقال عليه‌السلام يُرغّب النّاس في الجود:

إذا جادَتْ الدُّنيا عليكَ فجُدْ بهَا *** على النَّاسِ طُرّاً قبلَ أنْ تتفلَّتِ
فلا الجودُ يُفنيهَا إذا هي أقبَلَتْ *** ولا البُخلُ يُبقيهَا إذا هيَ ولَّتِ
وفعلاً كان الحسين عليه‌السلام العامل قبل أنْ يكون القائل، وسأتلو عليكم هذه القصّة.
4 – دخل عليه‌السلام على اُسامة بن زيد وهو على فراش المرض، يقول: وا غمَّاه! فقال عليه‌السلام: «وما غمَّكَ يا أخي؟». قال: دَيني، وهو ستّون ألف درهم. فقال عليه‌السلام: «هو عَليَّ». قال: إنّي أخشى أنْ أموتَ قبل أنْ يُقضى. قال: «لَنْ تموتَ حتّى أقضيها عنكَ». فقضاها قبل موته6.

الشجاع البطل

نعتقد نحن الشيعة أنَّ الأئمّة الاثنى عشر عليهم‌السلام قد بلغوا القمّة من كلِّ كمال، ولم يَدعوا مجالاً للسموّ إلاّ ولجوه، فكانوا السّابقين، بَيد أنّ الظروف التي مرّوا بها كانت تختلف في إنجاز مؤهّلاتهم بقدرها، وطبقاً لهذه الفلسفة؛ فإنّ كلّ واحد منهم اختصّ بصفة مميَّزة بين الآخرين، وإنّ ميزة الإمام الحسين عليه‌السلام هي الشجاعة والبطولة بين سائر الأئمّة عليهم‌السلام.
وكُلّما تصوّر الإنسان واقعة كربلاء ذات المشاهد الرهيبة، التي امتزج فيها الدمع بالدَّمِ، ويلتقي بها الصبر بالمروءة، والمواساة بالفداء، لاحت بسالة أبرز أبطالها الإمام الحسين عليه‌السلام في أروع وأبهى ما تكون بطولة في التاريخ. ولولا ما نعرفه في ذات الإمام عليه‌السلام من كفاءاته البطوليّة التي ورثها ساعداً عن ساعد، وفؤاداً عن فؤاد، ولولا الوثائق التاريخيّة التي لا يخالجها الشكّ، ولولا ما نعتقده من أنّ القدوة الروحيّة لا بدّ أنْ تكون آية الخلق ومعجزة الإله، فلربمّا شككنا في كثير من الحقائق الثابتة التي يذهل دونها العقل والفكر والضمير.
كان الإمام الحسين عليه‌السلام يوم الطَّفِّ ينزل إلى المعركة في كلِّ مُناسبة، فيكشف إسراف الخيل لتفصح عن جثمان صحابيٍّ أو هاشميٍّ يُريد بلوغَ مصرعه. ولربمّا احتدم النّزاع عنيداً شديداً بينه وبينهم وهو يحاول بلوغ مصرع مَن يريده، فكانت تعدّ كلَّ محاولة له من هذا النّوع هجمة فريدة، ومع ذلك كان يُكرّر ذلك كلَّ ساعة حتّى قُتل أصحابُه، وأبناؤه وإخوانه جميعاً.
والمصيبة ذاتها كانت ممّا ينيل من قوّة الإنسان كما تفلّ من عزيمته، والعطش والجوع يُضعفان المرء ويذهبان بكلّ طاقاته، والحَرُّ سببٌ آخر يأخذ جهداً من المرء كثيراً.
ويجتمع كلّ ذلك في شخص الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء، ومع ذلك فإنّه يلبس درعاً منصفاً ذو واجهة أماميّة فقط، ويهجم على الجيش الضاري، فإذا به كالصاعقة تنقضّ، فيتساقط على جانبَيه الأبطال كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف.
فيقول بعض مَن حضر المشهد: إنّه ما رأيت أشجع منه، إذ يكرّ على الجيش فيفرّ أمامه فرار المعزى عن الأسد، وذلك في حين أنّه لم يكن آنذاك أفصح منه إنساناً.
وحينما نرجع بالتاريخ إلى الوراء نجد من الإمام الحسين عليه‌السلام بطولات نادرة في الفتوحات الإسلاميّة، ثمّ في حروب الإمام علي عليه‌السلام، إلاّ أنّها مهما بلغت من القوّة والأصالة فإنّها لا تبلغ شجاعته عليه‌السلام يوم عاشوراء، تلك التي كانت آية رائعة في تاريخ الإنسانيّة بلا شك.
يقول العقّاد: وليس في بني الإنسان مَن هو أشجع قلباً ممَّن أقدمَ على ما أقدم عليه الحسين عليه‌السلام في يوم عاشوراء7.

الزاهد العابد

كان الحسين عليه‌السلام يحجّ كلّ سنة، إلاّ إذا حالت دون ذلك الظروف، وكان يمشي على قدمَيه إذا حجّ، وتُقاد بجانبيه عشرات الإبل بغير راكب، فيتفقّد كلّ مسكين فقير صفرت يداه عن تهيئة راحلةٍ للحجِّ، فيسوق إليه الراحلة من الإبل التي معه.
وكان يُصلّي كلَّ ليلة ألف ركعة، حتّى سُئل نجله الإمام زين العابدين عليه‌السلام:
ما بال أبيك قليل الأولاد؟ فأجاب: «إنّهُ كان يُصلِّي في كلِّ ليلةٍ ألفَ ركعة، فمَتى كان يتفرغُ للنِّساء».

الصابر الحكيم

1 – الصبر: هو استطاعة الفرد على ضبط أعصابه في أحرج موقف. ولا ريب أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام كان يوم عاشوراء في أحرج موقف وقفه إنسان أمام أعنف قوّة وأقسى حالة، ومع ذلك فقد صبر صبراً تعجَّبت ملائكة السّماء من طول استقامته، وقوّة إرادته، وامضاء عزيمته.
2 – جنى عليه غلامٌ جناية توجب العقاب، فأمر به أنْ يُضرب، فقال: يا مولاي، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ). قال عليه‌السلام: «خَلُّوا عنه». فقال: يا مولاي، (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ). قال عليه‌السلام: «قد عفوتُ عنكَ». قال: يا مولاي، (وَالله يُحِبُّ الْمحْسِنِينَ). قال عليه‌السلام: «أنتَ حُرٌّ لوجه اللهِ، ولك ضعْفُ ما كُنتُ أعطيكَ»8.

الفصيحُ البديه

لقد زخرت الكتب التاريخيّة بنوادره الرائعة من كلمات فصيحة يحسدها الدرُّ في ألمع نضارته وآلق روعته، وقد جُمع ذلك في كتب برأسها، إلاّ أنّي ذاكر لك الآنَ شيئاً قليلاً منها:
1 – أبعد عثمانُ الصحابيَّ الكبيرَ أباذر (رض)، فشيَّعه عليٌّ وابناه عليهم‌السلام، فقال الإمام الحسين عليه‌السلام بالمناسبة: «يا عمَّاه، إنّ اللهَ قادرٌ أنْ يُغيّرَ ما قد ترَى، واللهُ كلُّ يومٍ في شأن، وقد منعكَ القومُ دُنياهُمْ ومنعتَهُمْ دِينَكَ، وما أغناكَ عمَّا مَنعُوكَ، وأحوجَهُمْ إلى ما منعْتَهُمْ! فاسأل اللهَ الصَّبرَ والنَّصر، واستَعنْ بهِ منَ الجشَعِ والجزَعِ؛ فإنّ الصبرَ مِنَ الدِّينِ والكرَمِ، وإنَّ الجشعَ لا يُقدِّمُ رزْقَاً، والجزَعُ لا يُؤخِّر أجلاً»9.

2 – جاء إليه أعرابي، فقال: إنّي جئتك من الهرقل والجعلل، والأنيم والمهمم. فتبسّم الحسين عليه‌السلام، وقال: «يا أعرابي، لقد تكلَّمتَ بكلامٍ ما يعقلُهُ إلاّ العالِمون». فقال الأعرابي: وأقول أكثر من هذا، فهل أنت مُجيبي على قدر كلامي؟ فأذِن له الحسينُ عليه‌السلام في ذلك، فأنشد يقول:
هفا قلبِي إلى اللَّهوِ *** وقدْ ودَّعَ شَرْخَيْهِ
إلى تسعة أبيات على هذا الوزن.
فأجابه الحسين عليه‌السلام مثلها متشابهات، منها:
فما رسمٌ شجانِي قدْ *** مُحتْ آياتُ رَسْمَيهِ
سفورٌ درَّجَتْ ذيليْـ *** ـنِ في بوغاء قاعَيْهِ
ثمّ أخذ يُفسر ما غمض من كلامه، فقال: «أمّا الهرقلُ: فهو ملكُ الرُّومِ. والجعللُ: فهو قصارُ النَّخلِ. والأنيمُ: بعوضُ النَّباتِ. والمهممُ: القليبُ الغزيرُ الماءِ». وهذه كانت أوصاف الأرض التي جاء منها.
فقال الأعرابي: ما رأيت كاليوم أحسن من هذا الغلام كلاماً، وأذرب لساناً، ولا أفصح منه منطقاً10.
ومن روائعه المأثور قوله: «شرُّ خصالِ الملوكِ الجُبنُ عَنْ الأعداءِ، والقسوةُ على الضُّعفاءِ، والبُخلُ عَنْ الإعطاءِ» 11.
ومن حكمِهِ البديعة: «لا تَتكلّف ما لا تطيقُ، ولا تَتعرّض لما لا تُدركُ، ولا تَعِد بما لا تقدرْ عليهِ، ولا تُنفق إلاّ بقدَرِ ما تستفيدُ، ولا تطلب منَ الجزاءِ إلاّ بقَدَرِ ما صنعتَ، ولا تفرح إلاّ بما نلتَ مِنْ طاعةِ اللهِ، ولا تتناول إلاّ ما رأيتَ نفسَكَ له أهلاً» 12.
ومن بديع كلامه لما سُئل: ما الفضل؟ قال: «ملكُ اللسانِ، وبذلُ الإحسانِ». قيل: فما النّقص؟ قال: «التكلّفُ لما لا يُعنيكَ»13.

  • 1. أعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين 4 / 29.
  • 2. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 86، الصفحة: 91.
  • 3. a. b. أبو الشهداء لعبّاس محمود العقّاد.
  • 4. المعصوم الخامس لجواد فاضل، وفي المناقب 4 / 66.
  • 5. أعيان الشيعة 4 / 132.
  • 6. أعيان الشيعة 4 / 126.
  • 7. أبو الشهداء لعبّاس محمود العقّاد / 46.
  • 8. الفصول المهمّة / 159، والمقاطع القرآنية المذكورة هي من سورة آل عمران / 134.
  • 9. روضة الكافي / 207.
  • 10. أبو الشهداء لعبّاس محمود العقّاد، نقلاً عن كتاب مطالب السّؤول لمحمّد بن طلحة الشافعي / 73.
  • 11. بلاغة الإمام الحسين عليه‌السلام / 128.
  • 12. بلاغة الإمام الحسين عليه‌السلام / 154.
  • 13. من كتاب الإمام الحسين عليه‌السلام قدوةٌ واُسوة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى