لا خلاف بين الأمّة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، غير أنّ القاضي عبدالجبّار ، نسب إلى شرذمة من الاماميّة عدم وجوبهما (۲) والنسبة في غير محلّها ، فانّهم عن بكرة أبيهم ، مقتفون للكتاب والسنّة. وصريح الآيات وأحاديث العترة الطاهرة على الوجوب. روى جابر بن عبداللّه الأنصاري ، عن أبي جعفر الباقر ، أنّه قال : « إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سبيل الأنبياء ، ومنهاج الصلحاء ، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض و تؤمن المذاهب ، وتحلّ المكاسب ، وتردّ المظالم ، وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ، ويستقيم الأمر ». (۳)
وأمّا كلمة المحقّقين ، فيكفى في ذلك مراجعة كتبهم الكلاميّة والفقهيّة (٤).
۱ ـ وجوبهما عقلي أو شرعي
هل يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، عقلاً ، أو لا يجبان إلّا شرعاً ؟ القائلون بوجوب اللطف المقرّب يلزمهما القول بوجوبهما عقلا، لأنّ اللطف ليس إلا تقريب العباد إلى الطاعة و إبعادهم عن المعصية. ومن أوضح ما يحقّق تلك الغاية هو الأمر بالمعروف بعامة مراتبه.
وأورد عليه المحقّق الطوسي ما هذا توضيحه : لو وجبا عقلاً على الله تعالى ، فانّ كلّ واجب عقلي ، يجب على كلّ من حصل في حقّه وجه الوجوب ، ولو وجب عليه تعالى لكان إمّا فاعلاً لهما ، فكان يلزم وقوع المعروف قطعاً ، لأنّه تعالى يحمل المكلّفين عليه ، وانتفاء المنكر لأنّه تعالى يمنع المكلّفين عنه ، وهذا خلاف ما هو الواقع في الخارج ، وإمّا غير فاعل لهما ، فيكون مخلّاً بالواجب ، وذلك محال ، لما ثبت من حكمته تعالى. وإلى هذا المعنى أشار هذا المحقّق بقوله : « لو كانا واجبين عقلاً لزم ما هو خلاف الواقع ، أو الإخلال بحكمته سبحانه ». (٥)
يلاحظ عليه : إنّ وجوبهما عقلاً لا يلازم وجوبهما على الله سبحانه بعامّة مراتبهما ، لأنّه لو وجب عليه كذلك يلزم الاخلال بالغرض وإبطال التكليف ، وهذا يصدّ العقل عن إيجابهما على الله سبحانه فيما لو استلزم الإلجاء ، فيُكتفى فيهما ببعض المراتب ، كالتبليغ والانذار ممّا لا ينافي حريّة التكليف ، وهما متحقّقان. وإلى ما ذكرنا يشير شيخنا الشيهد الثاني بقوله : « لاستلزام القيام به على هذا الوجه ـ من وجوبه قولاً وفعلاً ـ الالجاء الممتنع في التكليف ، ويجوز اختلاف الواجب باختلاف محالّه ، خصوصاً مع ظهور المانع، فيكون الواجب في حقّه تعالى الانذار والتخويف بالمخالفة لئلّا يبطل التكليف. والمفروض أنّه قد فعل » (٦).
وهذا صحيح لو كان اللطف المقرّب واجباً ، ولكنّك عرفت أنّ وجوبه غير ثابت ، وانّما الثابت هو اللطف المحصّل للغرض. (۷)
۲ ـ شرائط وجوبهما
قد فصّل الفقهاء والمتكلّمون الكلام في شرائط وجوبهما ، وإليك بيانها.
أ ـ عِلْم فاعلهما بالمعروف و المنكر.
ب ـ تجويز التأثير ، فلو علم أنّهما لا يؤثران لم يجبا.
ج ـ انتفاء المضرّة ، فلو علم أو غلب على ظنّه حصول مفسدة له أو لبعض إخوانه في أمره ونهيه ، سقط وجوبهما دفعاً للضرر.
د ـ تنجّز التكليف في حقّ المأمور والمنهي ، فلو كان مضطراً إلى أكل الميتة ، لا تكون الحرمة في حقّه منجّزة ، فلا يكون فعله حراماً و لا منكراً ، وان كان الحكم في حقّ الآمر والناهي منجزاً.
نعم ، إنّ الشرط الثالث ، أيّ عدم المضرّة ، شرط في موارد خاصّة لا مطلقاً ، فربّما يجب على الآمر والناهي تحمل الضرر وعدم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذلك فيما اذا كانت المصلحة مهمّة ، كما لو استلزم سكوته خروج الناس عن الدين ، وتزلزلهم في العقيدة ، فيحرم عليه السكوت ، بل يجب عليه الاصحار بالحقيقة وان بلغ ما بلغ من ضرب أو شتم أو حبس ، حتّى القتل. قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « إذا ظهرت البدع في أُمّتي ، فليظهر العالم علمه والّا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » (۸).
وقال أمير المؤمنين علي ـ عليه السّلام ـ : « وما أخذ الله على العلماء أنّ لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم » (۹).
وبذلك يعلم أنّ التقيّة مشروعة ، ولكن لها حدود ولها أحكام ، فكما أنّها تجب ، فربّما تحرم ، والتفصيل موكول إلى محلّه (۱۰).
۳ ـ وجوبهما عيني أو كفائي ؟
الظاهر ، كما هو المعروف ، كون وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كفائيّاً ، لأنّ الغرض شرعاً هو وقوع المعروف وارتفاع المنكر ، من غير اعتبار مباشر معين ، وهذا آية كون الوجوب كفائيّاً ، فاذا حصلا ، ارتفع الوجوب. والاستدلال على وجوبهما عيناً بالعمومات ، مثل قوله سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) (۱۱) ، غير كاف ، لأنّ الواجب الكفائي ، يشترك مع الواجب العيني في كون الشيء واجباً على العموم ، إلّا أنّه يسقط بفعل واحد من المكلّفين ، بخلاف العيني. فتوجّه الخطاب إلى العموم ، مشترك بين العيني والكفائي.
٤ ـ مراتبهما
إنّ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب تبتدئ بالقلب فاللسان فاليد ، وتنتهي بإجراء الحدود والتعزيرات والجهاد. قال الامام الباقر : ـ عليه السّلام ـ « فأنْكروا بقلوبكم ، والفُظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم ، ولا تخافوا في الله لومة لائم » (۱۲).
وبهذا يصبح الأمر بالمعروف على قسمين : قسم لا يحتاج إلى جهاز وقدرة ، وهذا ما يرجع إلى عامة الناس ، وهو كالانكار بالقلب ، والتذكير أو النهي باللفظ. وقسم يحتاج إلى الجهاز والقوّة ، ويتوقّف على صدور الحكم من المحاكم القضائيّة وهذا يرجع إجراؤه إلى السلطة التنفيذيّة القائمة في الدولة الاسلاميّة بأركانها الثلاثة (۱۳).
هذا ، وقد كان على القاضي أن يؤاخذ الحنابلة والأشاعرة ، حيث إنّهم لا يرون الخروج على أئمّة الجور ، ويرون إطاعتهم واجبة ، ما لم يأمروا بمعصية ، وقد تقدّم نقل نُبذ من نصوصهم في ذلك.
الهوامش
۲. شرح الأُصول الخمسة : ص ۷٤۱.
۳. وسائل الشيعة ، ج ۱۱ ، الباب الأوّل ، من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث ۷ ، ص ۳۹۳.
٤. لاحظ أوائل المقالات ، ص ۹۸ وكشف المراد ، ص ۲۷۱ ، ط صيدا.
٥. كشف المراد ، ص ۲۷۱ ط صيدا.
٦. الروضة البهية ، ج ۱ ، كتاب الجهاد ، الفصل الخامس ، ص ۲٦۲ ، الطبعة الحجرية.
۷. راجع الدليل الخامس من أدلّة وجوب بعثة الأنبياء.
۸. سفينة البحار ، ج ۱ ، ص ٦۳.
۹. نهج البلاغة ، الخطبة الثالثة.
۱۰. لاحظ رسالة الاستاذ الفقهيّة في التقيّة ، فقد أثبت أنّ التقيّة ربّما تحرم اذا كان الفساد في تركها أوسع وسيوافيك بحث التقيّة في الخاتمة.
۱۱. سورة آل عمران : الآية ۱۱۰.
۱۲. الوسائل ، ج ۱۱ ، كتاب الجهاد ، الباب الثالث من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث ۲.
۱۳. لاحظ جواهر الكلام ، ج ۲۱ ، ص ۱۳.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : ٤ / الصفحة : ۳۷۸ ـ ۳۸۲