يوم عرفة ليس كأي يوم من الأيام ، وإنما هو يوم الميعاد لتلبية الدعوة الربانية الكريمة التي استحوذت بأشعتها الإلهية على النفوس والعقول ، وهيمنت على قلوب عباده المؤمنين ، فامتلكت جوارحهم حتى اجتذبتهم من كل فج عميق ، وانتشلتهم من مأمنهم وانتزعتهم من مواطنهم ومن بين أهليهم وذويهم من أنحاء هذه المعمورة ، بل ومن أقصى نقاطها ومناحيها .
ولا يعني هذا الميعاد أو الموقف مجرد اسم لوادٍ أو لصحراء أو لموعد يلتقي فيه المدعوّون فيتعرف بعضهم على بعض ، إذ إن ذلك أمرٌ يحصل تلقائياً ، بل هو في الواقع تحصيل حاصل من هذا التجمع العظيم ، لكنه في الحقيقة ميعاد للقاء العبد بربه الكريم ، حيث يتجلى الخالق لمخلوقه في يوم عرفة فيتعرف المخلوق على جلال خالقه وعظمته .
هنا لابد للعبد أن يُسائل نفسه عمّا اُعده وهيأه لهذا اليوم الجليل الرهيب ؛ الجليل بعظمة الخالق وقدرته ، والرهيب بجبروت الجبار ورحمته ، إذ من المرسوم لدى الناس عندما يدعون لمأدبة أو للقاء بشخص ذي منزلة ومقام مرموق ، أن يعدّوا أنفسهم لذلك اللقاء حساباً منهم وتحسباً ، فما بال من شملته الرحمة الربانية ليكون ضمن المدعوّين ومن الفائزين بلقاء رب العزة والعظمة ؟
لا ريب أن الرحمة الإلهية الواسعة سوف تعمّ الحاج وتشمل جميع الحاضرين في ذلك الموقف العظيم ، لأن الله سبحانه وتعالى كتب على نفسه الرحمة فلا شك أنه سبحانه وتعالى ينظر إلى أهل عرفة نظرة غفران وصفح عن الذنوب التي اقترفوها ، لأنه عز وجل يغفر الذنوب جميعاً ، ويفتح باب العفو فيعفوا عن عباده المدعوّين ليبدأ كل منهم ومن جديد حياتاً جديدة وكأنهم خلقوا لتوّهم .
فماذا بعد هذه المنحة الإلهية ، وبعد هذا اللطف الرباني ؟ وكيف يمكن العبد أن يستفيد من هذه الفرصة التي منحها الله إيّاه في يوم عرفة ، سيما والحديث الشريف يقول : ” الحج عرفة ” .
وماذا ينبغي لمن فاز بهذه النعمة الجليلة أن يفعل ؟ وكيف له أن يغتنم أيام الرحمة هذه ليستفيد منها بعد أن ولد من جديد ، وهو لم يزل في يوم الغفران الأكبر وفي وادي الرحمة ، بل وفي حضرة رب غفور ودود ، وقد تفتحت عليه أبواب الرحمة الإلهية ونوافذ الغفران الرباني فملك سمعه وبصره وكل جوارحه قبس من النور الرباني ، ليجتذب قلبه إلى خالقه وليطلب كل شيء ممن وسعت رحمته كل شيء . ها هنا ينبغي للعبد أن يطمئن لإجابة الرب فلا ينبغي له أن يبخل على نفسه بالتضرع والدعاء فيطلب منه المزيد والمزيد مما يجيش في خاطره ومما يطمح أن يناله في الدنيا والآخرة لأنه في ضيافة رحمان رحيم ، ولأنه العبد المدلّ على معبوده المحبوب لديه ، فليطلب إذن من الرب الذي يعطى من لا يسأله ، فكيف بمن يسأله ؛ الرب الذي يحب المتوسلين لديه ، الداعين بين يديه ، وهو سبحانه وتعالى الذي يقول : ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ … ﴾ 1 . فأي فرصة أفضل من هذه الفرصة يمكن للعبد أن يتوجه فيها إلى حبيبه بأنين وتضرع بل ونحيب ، سيما والمحبوب يحب أنين المستغفرين ، بل هو أحب إليه من ذكر الذاكرين . فليس على العبد إلا أن يطلب من ربه كل أمر كبير وصغير ، فيطلب العتق من النار مثلاً ، ويطلب أن يحشره مع الأبرار ، ويطهّر نفسه من العار والشنار ليكون لدى خالقه في عداد سلمان وأبي ذر والمقداد . . وفي منزلة الشهداء الأخيار الذين واسوا أبا الأحرار الإمام الحسين عليه السلام ، أولئك الطيبون الأولون الذين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل العقيدة وإعلاء كلمة الإسلام ، سيما وهو بمحضر رب كريم لا يفد الوافدون على أكرم منه .
ثم ماذا بعد الفوز بهذا الغفران الإلهي ؟ لعل أدل ما يتبادر للإنسان بعد أن يحضى بالمغفرة وينال العفو والصفح من لدن عفوّ غفور ، أن يعمل على إلغاء الحجب ورفع الحواجز التي أقامها فيما سبق بينه وبين الله تبارك وتعالى . تلك الحواجز والعقبات التي أوجدها هو نفسه بما كسبت يداه من المعاصي وما اقترف من الذنوب ، وليس عليه الآن إلا أن يعقد عزائم قلبه على أن لا يعود إليها مرة أخرى .
لكنّ الذي ينبغي التوجه إليه والتأكيد عليه هو أن تلك المعاصي والذنوب على اختلافها كبراً وصغراً تشكل معصية بحد ذاتها ، سواء استصغرها العبد أم لا ، استهان بها وبآثارها أم لا .
وفي المقام يجدر بنا أن نؤكد على تلك التي قد يستهين بها فاعلها فلا يتبادر إلى ذهنه أنها من المعاصي أصلاً ، لأننا نلحظ أن الإنسان عادة إنما يتوجه باستغفاره إلى الذنوب التي يعتقدها كبيرة . ولعل هناك من الذنوب مما يبدو صغيراً تافهاً لدى فاعله ، لكنه يكون بائساً لوقوفه منتظراً عشرة آلاف سنة يوم الحساب ، حتى لو كانت المعصية كلمة حق يراد بها باطل .
هناك من الأمور ما يتصورها العبد سهلة يسيرة ومن التصرفات التي يستهين بها ، وهي في الحقيقة تشكل حجاباً بينه وبين ربه . فليس التعصب القبلي مثلاً أو الأثرة والأنانية إلا أمثلة لتلك التصرفات التي تشكل بذاتها انحرافاً عن الحق وابتعاداً عنه ، غير أنها لا تبدوا لمقترفها إلا أموراً يسيرة وليست بذات أهمية تذكر .
والأفعال والأقوال التي تشكل الحواجز بين العبد وربه كثيرة ، خصوصاً تلك التي يستصغرها فاعلها وقائلها ، لكنها تشكل في الوقت نفسه حجاباً وربما تبدوا لفاعلها عين الحق والعدل ، وهي في الواقع إجحاف وظلم .
الحديث الشريف يقول : ” إن الذنوب ثلاثة ذنب يغفره الله تعالى وذنب لا يترك وذنب لا يغفر . أما الذنب الذي يغفره الله جلّ وعلا فهو الذي بين العبد وربه ، وأما الذنب الذي لا يغفر فهو الشرك بالله الواحد الأحد ، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعاً إلا الشرك به ، وأما الذنب الذي لا يترك فهو كل مظلمة من مظالم العباد التي تقع بينهم ، وهذه لا يترك مقترفها دونما حساب أو عقاب حتى يأذن المظلوم للظالم ” 2 وهي التي تشكل الذنوب التي تحجب النعم وتحجب الدعاء ، والمعاصي والذنوب التي تظلّم الأجواء على مرتكبيها وتمنع قطر السماء وتعجل الفناء لأن الله سبحانه وتعالى لا يصفح عن مثل هذه الذنوب أخذاً منه لحق عباده المظلومين ، ولا ريب أن آهات المظلوم لابد وأن تلاحق الظالم حتى يصفح المظلوم وصاحب المظلمة نفسه عن الظالم فيدخل حينئذٍ في رأفة الرؤوف الرحيم ؛ وحتى قيل :
تنام عيناك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تنم
ثم إن مظالم العباد فيما بينهم عديدة كثيرة ، تتكاثر بتكاثر الروابط الاجتماعية في مختلف المجتمعات البشرية وعلى مختلف أصعدتها ، وليس يهمنا في المقام إلا التعرض لبعض هذه المظالم باعتبار أهميتها وأثرها في حياة الإنسان المؤمن .
ولما كانت الأسرة الإسلامية هي قاعدة المجتمع الإسلامي ونموذجاً مصغراً له بما يربطها من روابط اجتماعية إنسانية قائمة على أسس وقوانين ربانية سليمة ، فإننا نجد لزاماً أن نبدأ أول ما نبدأ بتلك المظالم التي تقع بين أفراد الأسرة الواحدة ، وعلى الرغم من كون الروابط العائلية هي من أحكم أنواع الروابط الاجتماعية وأوثقها سيما في المجتمع الإسلامي ، إلا أننا لا يمكننا إنكار وقوع الكثير من المظالم بين أفراد العائلة المسلمة .
فمنها ؛ ظلم الولد لوالده ، إذ من المعلوم أن للابوّة بالذات معانٍ سامية في العائلة المسلمة ، وتلك المعاني قلّما نلحظها أو نقف عليها في كثير من العوائل غير المسلمة ، وهي في العائلة المسلمة أيضاً لا يدركها إلا من كان هو أباً فعلاً . ومعرفة مقام الأب ومنزلته وأهمية الأبوّة بالنسبة لأفراد العائلة لا تتجلى بكامل أبعادها إلا لمن هو أب فعلاً ، والولد لا يدرك مصاديق الأبوّة ولا ماهية روابط الأب بأفراد العائلة وحقائقها الكامنة في وجدانه وتصرفاته تجاه أبنائه ، ما لم يكن هو أباً ، فإذا صار أباً في المستقبل أدرك حينها معنى الأبوة وحقيقتها ، وخاصة عندما يمارس ما مارسه أبوه قبل ذلك معه وعندما يقوم بما تمليه عليه الأبوّة من الوظائف والواجبات . وهنا يكون الخروج عن طاعة الأب عقوقاً ، وما نلحظه اليوم من أنواع العقوق ليس إلا دليل على عدم التزام الأبناء بالضوابط والقوانين السرية الإسلامية . ولعل هذه الظاهرة تكاد تبدو جلية وبشكل واسع لدى بعض أبناء هذا الجيل الجديد ، الجيل الذي يريد له أعداء الإسلام أن يعيش خارجاً عن نطاق الإسلام متحدياً آدابه ورسومه ليكون مغايراً كل التغاير لحياة العائلة الإسلامية . وهذه ولا ريب مؤامرة واسعة النطاق على الأبناء اتخذت أشكالاً وأساليب مختلفة ، جاء البعض منها على شكل ترغيب وتشويق ، بل وإغراء بانفصالهم عن آبائهم وذويهم . والأعتى والأمر من ذلك الترغيب بعدم البرّ بالأمهات ، وهذا هو العقوق الحقيقي ، بل وهو الظلم بعينه .
ومنها ظلم الزوجين أحدهما الآخر ، فإن من مصاديق الظلم أن نمنع الآخرين حقوقهم ، وهذا النوع من الظلم شائع في أوساطنا وبين أفراد الكثير من العوائل عندما يتخذ التعامل بين الزوجين طابع الظلم ، لعلل كثيرة وربما من أهم علله عدم معرفة ماهية الحقوق التي يتمتع بها كل من الزوجين قبالة صاحبه ، والواجبات والمسؤوليات الملقاة على عاتق كل منهما تجاه الآخر . وقد يكون من العوامل أيضاً عدم إدراك فحوى الرابطة الزوجية المقدسة ، ومتانة الآصرة التي تربط كل منهما بالآخر .
ولسنا هنا يصدد استقراء تلك العوامل والعلل والوقوف على أفرادها بالتفصيل ، لكنها وبالإجمال ترجع في الغالب إلى الخلفيات السابقة في حياة كل من الزوجين ، وإلى المستوى الإيماني والثقافي الذي يتمتع به كل منهما ، ومدى تمسكهما أو أحدهما بالضوابط والأسس الأخلاقية التي تنظم الحياة الأسرية ، وكذلك العلاقات الروحية والعاطفية التي تجمع بين الزوجين وأنهما سكن لبعضهما البعض . فمن المعلوم أن افتقار كلا الزوجين أو أحدهما لتلك الأسس أو لبعضها ، وإلى القواعد التي جاء بها الدين الحنيف ، والأسس التي اعتمدها في تنظيم حياة الأسرة ، ربما يكون منشأ للظلم الذي يقع بين الزوجين .
وحين لا يدرك كل طرف مسؤولياته وواجباته تجاه الطرف الآخر ، ولا ينظر إلى عمق الرابطة التي تربطه بالطرف الآخر إلا بمنظاره الخاص ومن زاوية محدودة ، تنشأ له مبررات لإغماز حق الطرف الآخر . ومنع حقوق الآخرين في هذا الحقل كثيرة متعددة ، تتكاثر بتكاثر متطلبات الحياة المادية والمعنوية ، وتزداد وتنقص بازدياد ونقصان مستوى الإدراك لكل من الزوجين ، كل منهما لموقف الآخر ولحدود وواجباته وحقوقه ، وذلك مما يؤدي إلى أن ترقى بعض الأمور التافهة اليسيرة إلى مصاف المشكلات والمعضلات العسيرة التي يصعب حلّها .
ولا ريب أن في قبالة هذه السلبيات هناك عوامل إيجابية لابد من توافرها بين أفراد الأسرة الواحدة ، وخاصة الزوجين نفسهما كي يستقيم الكيان العائلي على أسس رصينة وروابط متينة ؛ فالثقة المتبادلة بين الزوجين من أهم تلك العوامل ، وحيث تكون هناك ثقة بينهما تسقط من كل منهما كثير من الأسباب والمبررات الملجئة إلى الظلم والحرمان من الحقوق . فعندما تثق المرأة بزوجها فتدرك وتقدر مدى المعاناة والجهد الذي يبذله الزوج خلال حياته اليومية لطلب المعاش وللقيام بما تتطلبه الحياة الأسرية ، وسيكون ذلك رادعاً لها من ممارسة الظلم فلا تقدم على إيقاعه على زوجها ، بل تمتنع عن استغلال حبه ومودته لها ولأفراد الأسرة فتتحاشى الملامة والمطالب الملحة المثقلة لأعبائه والخارجة عن قدرته حال قدومه إلى البيت متعباً منهك القوى ، لأنها تدرك أن مثل هذه الأعمال ستكون سبباً للكدورة وزوال الصفاء الباعث لتحقق الظلم بين أفراد الأسرة الواحدة ؛ بل لعلها تستقبله بالتهليل والترحيب لتخفف عن كاهله وتزيل من دواخله كثيراً من المتاعب والمشاكل التي ربما كان قد واجهها أثناء القيام بعمله .
وكذا الحال بالنسبة للزوج حين يثق بزوجته ويعتمد عليها ويطمئن لتصرفاتها ، فيدرك مدى معاناتها في إدارة شؤون البيت . عندها تتلاشى كافة عوامل الظلم والاجحاف ، وتحل محلها مسببات العدل والأنصاف ، وبالتالي تقل توقعاته وتحسن تصرفاته ، فلا ينال من شخصيتها وكرامتها بل ينظر إليها بمنظار الشريك المتفاني والإنسان المخلص . وهذا المنظار السليم لابد وأن يصاحبه نوع من التسامح في التعامل بين الزوجين ، ذلك التعامل المقرون بالقناعة والرضى بالتقدير الإلهي ، فلا تتأثر الزوجة بعد ذلك بالمظاهر المادية المغرية التي يتمتع بها الآخرون ، سيما الأقربون منهم ، والباعث على الغيرة والحسد ؛ بل لابد للزوجين والحال هذه أن يترفعا عن تلك الفوارق الطبقية والاجتماعية على الصعيدين المادي والمعنوي ، كي تزول الأسباب وتتلاشى العوامل المغرية التي تقودهما إلى إيقاع الظلم على بعضهما البعض ؛ ومن أمثلة ذلك هو الظلم الواقع نتيجة المشاكل السائدة اليوم في المجتمعات ، سيما مشكلة العدلاء ، حين يكون زوج أحد الأختين غنياً مرفهاً ذا إمكانيات مادية وزوج الأخرى ذو دخل محدود لكنه ذو عفاف وأخلاق ، لكن زوجته تتوق إلى الحياة التي تحياها أختها المرفهة . وهذا الطموح يكون سبباً لإيقاع الظلم على زوجها نتيجة الإلحاح وكثرة الطلبات وتعددها ، فتكيل إلى زوجها بالكلمات الجارحة . وكذلك هو الحال في الزوج عندما ينساق فيقع تحت طائلة الكثير من العادات والتقاليد البائدة الممقوتة التي لا ترتبط بالإسلام بحال ؛ ومن أمثلته اتخاذه الزوجة بضاعة وأنها أجيرةً له لتقوم بأعمال البيت قسراً وإجباراً ، فيكون ذلك منفذاً لإيقاع الظلم على زوجته .
ومنها ظلم الأبوين للأبناء ، ولعلنا نستخدم لفظ الظلم ها هنا مجازاً لأننا نعلم أن للأبوّة في المجتمع الإسلامي منزلتها الخاصة ومقامها المرموق اللائق بلفظها ، بما تتضمنه من معاني الرأفة والعطف ، بل التفاني الذي يبديه الآباء تجاه أبنائهم . وما أطلقنا عليه لفظ الظلم في المقام نريد به الإهمال والقصور اللإرادي الذي ربما يبدو من بعض الآباء تجاه أبنائهم ، كالتقصير في تربيتهم الدينية ، وفي توجيههم الوجهة السليمة ، وفي تهيئة الظروف المناسبة لهم ليشقوا طريقهم في معترك هذه الحياة التي تزداد صعوبة وتكثر مشاكلها يوماً بعد يوم ؛ وهذا التقصير أو القصور قد يتخذ طابع الظلم ، سيما إذا أهمل الآباء هذا الجانب من حياة أبنائهم فيتوجهون إلى حياتهم الشخصية الخاصة بهم ، فيتركون تربية الأبناء والاهتمام بهم وتوفير متطلبات أمورهم ، بل ينشغلون بأنفسهم خاصة ، فيكون ذلك شكلاً من أشكال الظلم الذي يمارسه الآباء تجاه أبنائهم .
أمثال تلك الأمور والمواقف تشكل أنواعاً من المظالم التي قد تبدوا لمرتكبيها أنّها أمور تافهة يسيرة ، لكنها في الحقيقة توجب الوقوف لآلاف السنين يوم الحساب ، والإنسان المؤمن القاصد إلى عرفة ، المجيب لدعوة الرب الكريم ، جدير به أن يتلافى الموقف يوم الحشر بموقف عرفة ليغفر الله له ، فلا يطول وقوفه هناك ، بأن يطلب العفو والمغفرة بعزم أكيد على أن لا يعود ثانية لاقتراف الآثام والذنوب . أما إذا لم تكن لدى الإنسان المدعوّ إلى عرفة نية وعزيمة على إعادة النظر في حياته المقبلة بعد عرفة وبعد العود من الحج ، فلا ريب أن الحجب السابقة سوف تعود ثانية دونما أي تأخير ، لأنه لم يعقد العزم على إنهاء الحواجز ورفع المظالم التي تفصله عن الرب سبحانه وتعالى .
وعندما يرجع الإنسان من عرفة وقد عقد العزم على الترفع عن ارتكاب الذنوب والآثام ، يرجع طاهراً مطهراً من العيوب والذنوب . وبذاك يكون الحاج حاجاً حقيقة ، لأنه فاز بالرحمة الإلهية والمغفرة والصفح الرباني ، فيكون ذلك الحج هو الحج المقصود الذي يأخذ بيد الحاج يوم القيامة ، بل هو العمل الذي ينفع الإنسان إبّان سكرات الموت ، ويكون كالرفيق المصاحب للإنسان في البرزخ يعالج به أسئلة منكر ونكير ، فيكون كغيره من العبادات الأخرى نوراً يرافق الإنسان حين يبعث من في القبور ، وعندما يخرج الإنسان من مثواه مؤتزراً بكفنه ينظر يمنة ويسرة فلا يجد ناصراً ولا معيناً إلا أعمال الخير والحج والصلاة والزكاة وكل العبادات التي تأتيه آنذاك على صورة إنسان جميل مزين معطر يبشرونه بالجنة .
من هنا كان لزاماً على الحاج أن يستعد ليكون لقاؤه بربه يوم عرفة ، لقاء محبة وود ووفاء ، لقاء عبد فقير برب غني حميد ، لقاء عبد بائس برب كريم . . كي يرجع إلى بلده بحج مقبول وسعي مشكور وقد شملته الرحمة الربانية ، ناجحاً مفلحاً 3 .
- 1. القران الكريم : سورة الفرقان ( 25 ) ، الآية : 77 ، الصفحة : 366 .
- 2. بحار الأنوار : 6 / 29.
- 3. كتاب : ” في رحاب بيت الله ” لآية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي ، الفصل الأول : نور المعرفة . و هذا الكتاب مجموعة من خطب و كلمات ألقاها سماحته في سفرة الحج على حملات الحجاج من أطراف الأرض وأكنافها .