بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم: زكريَّا بركات
27 أكتوبر 2022
روى الشَّيخُ الكليني في الكافي (5/ 12) برقم (3) ، بسند موثَّق على التَّحقيق، عن الإمام الصادق عليه السَّلام، أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعث سريَّةً، فلمَّا رجعوا قال: مرحباً بقومٍ قضوا الجهادَ الأصغر، وبقي الجهادُ الأكبر. قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : جهادُ النَّفس.
وروى الشَّيخُ الصَّدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه (4/410) برقم (5892) بسند صحيح عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنَّه قال ـ ضمن حديث ـ : واجعل نفسك عدوًّا تُجاهده.
اعترض بعضُ الباحثين على تقسيم الجهاد إلى أكبر وأصغر؛ متصوِّراً أنَّ في ذلك انتقاصاً من قدر الجهاد الأصغر الَّذي هو جهاد الأعداء في جبهات القتال المشروع الَّذي يُؤمِّن كرامة الأمَّة ويحميها..
وجواباً عن ذلك نقول:
أوَّلاً: لا وجه لما تصوَّره المعترض من أنَّ في التَّقسيم انتقاصاً من شأن الجهاد الظاهري، فوجوب الجهاد الأصغر ـ في الجملة ـ وأهمِّيته من ضروريات الدِّين الإسلاميِّ، ولا يوجد مؤمن مثقَّف ـ فضلاً عن فقهاء الإسلام ـ يمكن أن يخطر بباله انتقاصُ الجهاد الأصغر، ولا يجوز شرعاً إقحامُ التصوُّرات الشخصيَّة لردِّ الثابت من الحديث الشَّريف، بل لو كان الحديثُ ضعيفَ السَّند لما جاز تكذيبه بمثل هذه الظُّنون.
والتعبيرُ بـ (الأصغر) ليس المقصودُ منه التَّقليل من شأن الجهاد في حدِّ ذاته، وكيف يكون الواجب في الشِّريعة الإسلامية مُستصغراً؟! بل المقصود وصفه بالأصغر بالمقارنة والمقايسة إلى جهاد النَّفس، ولهذه الصِّفة (المبنيَّة على المقارنة) وجوهٌ أربعة سنبيِّنها لاحقاً إن شاء الله تعالى.
ثانياً: إنَّ الجهاد الأكبر مقدِّمة للإتيان بالجهاد الأصغر على الوجه الصحيح، بمعنى أنَّ الجهاد الأكبر يخدم الجهاد الأصغر، ومن لم ينجح في الجهاد الأكبر فإنَّه لن ينجح في الجهاد الأصغر؛ لأنَّه قد يفرُّ من الزَّحف أو قد يغُلَّ أو يرائي.. وغير ذلك من المعاصي والأخطاء الَّتي تمثِّل خللاً في الجهاد الأصغر ولا يرتكبها إلَّا من لم ينجح في مجاهدة نفسه وتهذيبها في الجهاد الأكبر.
ثالثاً: لا يوجد تنافٍ بين الجهادين الأكبر والأصغر كما قد يتوهَّم المعترض على التقسيم، بل هما منسجمان تماماً ويتحقَّقان في آن واحدٍ، فالمجاهد لنفسه يجاهدها في كُلِّ آن، وحين يشعر بأنَّ من واجبه الذَّهابَ إلى جبهات القتال للجهاد الأصغر فإنَّه يُبادر إلى ذلك ابتغاءَ مرضاة الله تعالى.. وكلما كان المؤمن أكثر نجاحاً في الجهاد الأكبر يكون شوقه للجهاد الأصغرِ أكبرَ، وكذلك اندفاعه وإصراره وشجاعته وإقدامه واستبساله.. وهكذا تكبر مكانة الجهاد الأصغر بقدر صدق الجهاد الأكبر.
رابعاً: نبيِّن الجهاتِ التي ذكر بعض العلماء أنَّها السبب في عدِّ جهاد النَّفس أكبرَ، وعدِّ جهاد العدوِّ أصغرَ؛ ليتَّضح وجه التَّقسيم وينتفي الاعتراض:
الجهة الأولى: أنَّ النَّفس والشيطان يمثِّلان العدوَّ الخفيَّ الَّذي يتقمَّص شخصيَّة الصديق النَّاصح، فيصعب اكتشافُه ومقاومته في الجهاد الأكبر، بينما يكون العدوُّ في الجهاد الأصغر متظاهراً بالعداء مما يُسهِّل التَّعامُلَ معه ومواجهتَهُ وقتالَه.
الجهة الثَّانية: أنَّ الإنسان في الجهاد الأكبر يتحرَّك بعكس تيار قُوى النَّفس ويُصارع الميولَ والأهواءَ والرَّغباتِ والشَّهواتِ الكامنةَ في نفسه والَّتي تُمثِّل عدوَّه الباطنيَّ، بينما معظم تلك القوى والرَّغبات تُوافقه وتساعده في الجهاد الأصغر وهو يواجه العدوَّ الظاهري.
الجهة الثَّالثة: أنَّ الإنسان إذا انهزم في الجهاد الأكبر فإنَّ خسارته تكون أُخرويَّة باقيةً، بينما إذا انهزم في الجهاد الأصغر فإنَّ خسارته تكون دنيوية فانية.
الجهة الرَّابعة: أنَّ الجهاد الأكبر مطلوب من الإنسان بشكل مستمرٌّ طوالَ عمره، وهو واجب عينيٌّ لا يسقط عنه بحال.. بينما الجهاد الأصغر قد لا يكون مطلوباً منه إلَّا مرَّة أو أكثر لفترات محدودة يقطعها الصُّلحُ والهدنة والنَّصر والهزيمة.. وهو ـ مع ذلك ـ واجبٌ كفائيٌّ قد يقوم به غيره ممن تحصل بهم الكفاية، فلا يجب على كلِّ مسلم، وقد يكون ذا واجب أولى وأهم بالنظر إلى ظروفه الخاصَّة وخصائص شخصيَّته ومواهبه وموقعه الاجتماعي، فيتوجَّب عليه عدمُ الخروج للجهاد الأصغر لأداء ما عليه من واجب يختص به.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.