المراد من الولاية
أنّ الأحكام الإسلامية تنقسم أقساما ثلاثة:
فقسم منها هو الأحكام المبيّنة لآحاد المكلّفين سواء كانت من قبيل وظائفهم في قبال اللّه تعالى كالعبادات أو من قبيل وظائفهم بالنسبة إلى الآخرين كأحكام المعاملات بمعناها الأعمّ أو غير ذلك، و يدخل فيه الأحكام الخمسة و ما هو من قبيل الموضوع الاعتباريّ لها كالطهارة و النجاسة و الملكية و الزوجية و ما إليها.
و قسم آخر منها هو أحكام و هي مؤاخذات لمن ارتكب معصية و هي الحدود و التعزيرات.
و قسمها الثالث هي الأحكام و الامور المتعلّقة بأمر إدارة البلاد الإسلامية كتقسيم البلد الى نواح مختلفة و كلّ ناحية إلى نواح صغيرة و جعل أمير لكلّ من هذه النواحي و كجعل إدارات مختلفة تقوم كلّ منها بوظيفة خاصّة تحال عليها و كجعل مجلس تقنين الضوابط اللازمة الرعاية في جميع البلاد لمسؤولي المملكة أو الأفراد الاخر و جعل نوّاب للناس يختار عددا منهم كلّ جمع من الرعايا الموجودين في أطراف المملكة.
فالمراد بالولاية أن يجعل أمر إجراء هذه الاقسام الثلاثة بل و أمر جعل القسم الثالث منها بما له من موضوعاته الخاصّة بل و أمر جعل قسم خاصّ من التعزيرات إلى أحد أو جمع هو وليّ الأمر أو هم كلّهم وليّ الأمر، فمقتضى ولاية الأمر أن يراقب وليّ الأمر الامة و الرعية و يهيّئ لهم أرضية عملهم بالقسم الأوّل من الأحكام و يجعل لهم في ذلك ما يوجب علمهم بالأحكام و يقرّبهم من امتثالها و يأمرهم به و يحذّرهم عن مخالفتها.
كما انّ مقتضاها هو تصدّي أمر إجراء الحدود و التعزيرات في ما يتعلّق بأحكام اللّه محضا و في ما كان للعباد أيضا فيه نصيب كحدّ شرب الخمر و القذف و القصاص و كالتعزير على الكذب و توهين الغير بأقلّ ممّا يكون قذفا.
و كما أنّ بيد وليّ الأمر أمر إجراء جميع الحدود و التعزيرات سواء في ذلك ما يترتب على أحكام اللّه الابتدائية و ما كان مترتبا على عصيان الواجبات السلطانية و الحكومية. فهذه الولاية هي المقصودة من ولاية الأمر.
الولاية أمر مجعول من اللّه تعالى
فبعد ما عرفت في المقدّمة الاولى فهل شارع الإسلام لم يدخل و لم يتعرّض أبدا و بالمرّة لأمر الولاية و الحكومة؟ أم تعرّض لهما و دخل فيهما تبعا لورود الناس أنفسهم فيها بمعنى أنّ الناس أنفسهم إذا قاموا بصدد تعيين نائب عن أنفسهم فوّضوا إليه إدارة أمر جمعهم أي أمرهم في ما يتعلّق بكلّهم و بما هو مرتبط بمعاملتهم مع جماعات اخرى و فوّضوا إليه جميع ما ذكرناه في بيان المراد بالولاية فالشارع حينئذ يمضي هذه النيابة و الوكالة؟ أم إنّ تعرّضه أكثر من ذلك بأن يجعل الشارع من الامور الأصلية و الأحكام الركنية الإسلامية مسألة ولاية أمر المسلمين؟
هذه الاحتمالات الثلاثة احتمالات مهمّة بدوية لا بدّ في الجواب عن ايّ منها من مراجعة الأدلّة المعتبرة، و هو مقصودنا الأصيل في هذا الكتاب 1.
ولاية الأمر غير النبوّة و الرسالة
قد عرفت في المقدّمة الاولى المراد بالولاية فنقول: إنّك بالتدبّر فيها تعرف أنّ أمر الولاية هو إمامة الامّة بما عرفت، و لا محالة ليست هي مجرّد أمر بيان أحكام اللّه تعالى بل يتصوّر أن يكون إنسان نبيّا مرسلا إلى الناس ينبئهم بأحكام اللّه تعالى فيجب على الناس اتّباع هذه الأحكام، إلّا أنّ هذا النبيّ ربما تكون وظيفته مقصورة على مجرّد هذا الإنباء من غير أن يكون موظّفا بأمر إمامتهم و الولاية عليهم. و لعلّ أمر الامامة و الولاية يحتاج إلى كمالات و مؤهّلات خاصّة بل الدقّة في معنى الإمامة و النبوّة تعطي أن يكون بينهما عموم و خصوص من وجه، فربما يكون النبيّ إماما و وليّ أمر الامّة كإبراهيم الخليل و نبيّ الإسلام، و ربما يكون الإنسان نبيّا ليس بإمام كلوط النبيّ و كثير من الأنبياء عليهم السّلام، و ربما يكون الإنسان إماما و وليّ أمر الامّة الّا أنّه لم يبلغ مرتبة النبوّة كأئمّتنا الهداة المعصومين عليهم السّلام.
و لا بأس بذكر بعض الأخبار الواردة في هذا المضمار ليتبيّن مرادنا أكثر من ذلك.
فقد روى في الكافي بإسناد لا يبعد اعتباره عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: الأنبياء و المرسلون على أربع طبقات: فنبيّ منبّأ في نفسه لا يعدو غيرها، و نبيّ يرى في النوم و يسمع الصوت و لا يعاينه في اليقظة و لم يبعث إلى أحد و عليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط عليهما السّلام، و نبيّ يرى في منامه و يسمع الصوت و يعاين الملك و قد ارسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا كيونس، قال اللّه ليونس: ﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ 2 قال: يزيدون ثلاثين ألفا، و عليه إمام، و الّذي يرى في نومه و يسمع الصوت و يعاين في اليقظة و هو إمام مثل اولي العزم، و قد كان إبراهيم نبيّا و ليس بإمام حتّى قال اللّه: ﴿ … إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي … ﴾ 3 فقال اللّه ﴿ … لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 3 من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما 4.
و روى فيه أيضا عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر عليه السّلام. قال: سمعته يقول: إنّ اللّه اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيّا، و اتخذه نبيّا قبل أن يتخذه رسولا، و اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، و اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما، فلمّا جمع له هذه الأشياء و قبض يده قال له: يا ابراهيم إنّي جاعلك للناس إماما، فمن عظمها في عين إبراهيم عليه السّلام قال: يا ربّ و من ذرّيتي، قال: لا ينال عهدي الظالمين 4.
و روى فيه أيضا عن زيد الشحّام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام نحوه، إلّا أنّه عليه السّلام زاد في آخره: «لا يكون السفيه إمام التقي» 4.
و قد صرّح أبو الحسن الرضا عليه السّلام في رواية عبد العزيز بن مسلم بقوله عليه السّلام: إنّ الإمامة خصّ اللّه عزّ و جلّ بها إبراهيم الخليل بعد النبوّة، و الخلّة مرتبة ثالثة، و فضيلة شرّفه بها و أشار بها ذكره فقال: ﴿ … إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا … ﴾ 3 الحديث 5.
أقول: و الظاهر أنّ عدّها مرتبة ثالثة لمكان أنّه عليه السّلام لم يعد كونه عبدا مرتبة أصلا كما أنّه عليه السّلام لم يعد النبوّة مرتبتين مرتبة مجرّد النبوّة و مرتبة الرسالة. و بالجملة:
فلا منافاة بين هذه الأخبار، و هي دالّة بحدّ الصراحة على أنّ الإمامة مقام فوق مقام النبوّة و الرسالة و على أنّ النبيّ و الرسول مع علوّ الرسالة عن النبوّة ربما كان عليهما أيضا إمام كما كان إبراهيم عليه السّلام إماما للوط و يونس على نبيّنا و آله و عليهم السلام.
إذا عرفت هذه المقدّمات فلا ينبغي الريب في أنّ المستفاد من الأدلّة المعتبرة الكثيرة هو انّ الشارع الأقدس قد داخل في أمر ولاية الامّة الإسلامية ابتداء و جعل الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة المعصومين عليهم السّلام أولياء منصوبين لإدارة أمر الجامعة الإسلامية 6.
- 1. الولاية الالهية الاسلامية او الحكومة الاسلامية.
- 2. القران الكريم: سورة الصافات (37)، الآية: 147، الصفحة: 451.
- 3. a. b. c. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 124، الصفحة: 19.
- 4. a. b. c. الكافي: باب طبقات الأنبياء و الرسل و الأئمّة، ج 1 ص 175 الحديث 1 و 4 و 2.
- 5. الكافي: باب نادر جامع في فضل الإمام و صفاته ج 1 ص 199 الحديث 1.
- 6. المصدر: كتاب الولاية الالهية الاسلامية او الحكومة الاسلامية، لآية الله الشيخ محمد مؤمن القمي رحمه الله.