كان الإمام علي الهادي عليه السلام قد طوّر نظام الوكلاء في عصره تطويراً مبرمجاً اعتاد معه أولياء أهل البيت عليهم السلام التعامل مع وكلاء الإمام نيابة عنه.
وفي ضوء هذا النظام المتطوّر كان الوكلاء يلبّون احتياجات اتباع الإمام، ويحملون إليهم رسائلهم، ويسألون الإمام بدلهم، وبذلك أخذت التجربة الغيبية بالتفاعل مع أولياء أهل البيت عليهم السلام تعويضاً عن التجربة الحضورية.
وكان الأداء غير المباشر ينوب عن الأداء المباشر في شتّى شؤون الإمامية، وكان الالتقاء الفعلي بالإمام عليه السلام، والارتباط الحاضر به يضفي هيبة وقدسية بين صفوف اتباعه، ويزيد في التفاعل في عملية الأخذ والتلقي عندهم، دون حواجز ووسائط، ولكن الدربة على عوالم الغيبة تحتاج إلى عمل مكثّف وشعور معمق عند الاستجابة لها، كما تتطلب الصبر على المتابعة الواعية التي قد تشق على جملة من الأولياء لانّهم ليسوا سواسية في التفكير والقابلية، ولابد للإيمان أنْ يكون متفاوتاً فيما بينهم شدة وضعفاً.
إلاّ أنّ الجهود الجبارة التي قام بها الإمام علي الهادي عليهم السلام، قد أثمرت في تذليل الصعاب في عهد ولده الإمام الحسن العسكري عليه السلام، فقد استقبل اتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام نظام الوكلاء متناوباً منذ عهد الصادقين حتى عهد العسكريين، حتى بدا مقبولاً مع شدة الأمر وصعوبة المبدأ، إلاّ أنّ الطبقة المختارة قد تلقته بالتسليم والمباركة والامتثال، فهم الصفوة، وكان على هذه الصفوة استقبال تعليمات الإمام ونشرها بين صفوف الأمّة على الوجه الأكمل، وكان عدد وكلاء الإمامين العسكريين في تصاعد مستمر بحيث شمل المساحة الإسلامية التي تدين بالولاء لأهل البيت عليهم السلام في شرق الدولة وغربها ، وكانت الأوامر من قبل الإمام الحسن العسكري عليه السلام صريحة بضرورة الارتباط المبدئي بهؤلاء الوكلاء.
وكانت طبيعة الاندماج بهذا التنظيم الجديد تقتضي وجود طبقتين من الوكلاء هما:
الطبقة العلنية المعروفة لدى عموم الشيعة مع التكتّم عليهم، والطبقة السرية المجهولة لدى الكثيرين، باستثناء أماثل الشيعة، ومع هذا قام كلّ بتأدية واجباته متكاملة، وشكلوا بذلك بؤرة الإشعاع الفكري والروحي لتوجيهات الإمام سواء أكان طليقاً أم سجيناً ام محتجباً.
وعلى الرغم من التشديد في اختيار الوكلاء، فقد خان الأمانة جملة من الوكلاء يعدون بأصابع اليد، وذلك لأسباب مادية أو اجتماعية أو انحراف عقائدي عن خط أهل البيت عليهم السلام، وقد تبرأ منهم الإمامان العسكريان على حد سواء، وآذنوا أولياءهم بتلك البراءة تصريحاً باسمائهم، وتجريحاً بهم، وإنذاراً بالابتعاد عنهم مما يعني انّ هذا الجهاز الضخم يخضع في تشكيلاته إلى رقابة الإمام مباشرة، وكانت تلك البراءة من هذا الصنف تتبعها اللعنة من الإمام، ويتلوها الإعلان عن إلغاء وكالة كل منهم، والتحذير من نزعاتهم.
أما حديث الإمام العسكري عليه السلام عن أساطين هؤلاء الوكلاء، فكان مطمئناً لقلوب أوليائه، ومعبراً عن ثقته بوكلائه، ومعززاً لمواقفهم عملياً، فقد حدث محمد بن إسماعيل وعلي بن عبد الله الحسنيان، انهما دخلا على الإمام العسكري عليه السلام في سامراء وبين يديه جملة من أوليائه وشيعته، إذ دخل بدر الخادم، وقال للإمام يا مولاي بالباب قوم شعث، فقال الإمام: هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن.. ثم قال لبدر: فامضِ فأتنا بعثمان بن سعيد العمري، فما لبثنا إلاّ يسيراً حتى دخل عثمان، فقال له سيدنا أبو محمد عليه السلام:
(امض يا عثمان، فانك الوكيل والثقة والمأمون على مال الله، واقبض من هؤلاء اليمنيين ما حملوه من المال… حتى قالا: ثم قلنا بأجمعنا يا سيدنا والله انّ عثمان لمن خيار شيعتك، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك، وأنه وكيلك وثقتك على مال الله تعالى).
قال: (نعم واشهدوا علي ان عثمان ابن سعيد العمري وكيلي، وانّ ابنه محمداً وكيل ابني مهديكم).
ويلحظ انّ الإمام عليه السلام ما اكتفى بالانباء عن وكالة عثمان بن سعيد له، وانه الثقة المأمون، حتى مهد لولده الإمام المهدي بالإخبار أن عثمان هذا وكيل له وأن ولده محمداً وكيل المهدي، هكذا كان عثمان بن سعيد الوكيل الأول للإمام المهدي عليه السلام، ثم كان ولده محمد بن سعيد وكيله الثاني.
وبدأ نظام الوكلاء في عصر الإمام العسكري عليه السلام يشق طريقه بمباركة الإمام وتخطيطه لعوالمه المترامية في الإفتاء وإدارة الأموال، وتنفيذ المشاريع، ورعاية القاصرين، وإغاثة الملهوفين، وما يترتب على حمل ذلك من خطوات إجرائية تهيئ أسبابه، وتبعث فيه روح النشاط والحيوية.
وكان الإمام الحسن العسكري عليه السلام يثري هذا النظام ويدعم تلك النيابة بثلاثة مؤشرات:
الأول: تأكيد الثقة العالية المطلقة من قبله بصفات هؤلاء الوكلاء الأمناء والإعلاء من شانهم باعتبارهم البديل المشروع لنيابة الإمام والإلفات إلى مساس الحاجة إلى عملهم وافاضاتهم كلما اشتدت الأزمات السياسية، وكلما اقترب موعد الظهور المبارك، وكلما اقترب اجل الغيبة، لهذا أوحى الإمام لاتباعه انّ نيابة هؤلاء عنه ضرورة شرعية تتطلبها المرحلة الانتقالية من الحضور إلى الغيبة، ومن اللقاء المباشر بالإمام إلى اللقاء غير المباشر عن طريق هذه العصبة.
الثاني: التوجيه العام لأولياء الإمام بالأخذ عن هؤلاء الوكلاء معالم دينهم، وشؤون شريعتهم، والاتصال بهم لقبض حقوقهم، والطلب إليهم عند احتياجهم، والعمل معهم يداً بيد لإنعاش الطبقات المحرومة، وتهيئة سبل العيش الكريم للفقراء والمضطهدين، لتكون الحالة الجديدة في إطارها هذا تعويضاً نسبياً عن لقاء الإمام في شؤونهم، حتى تم لدى عموم الشيعة الاعتياد على هذه الظاهرة، وقبول ما تقرره، وقد أعطت ثمارها الغراء في تجربة دقيقة، فقد خففت متابعة الإمام جزئياً، وقد مهدت لصاحب الأمر كلياً، وقد صانت الأولياء من الملاحقة المستمرة، وقد أدت الأمانة في مسؤوليتها بيسر وسماح قدر المستطاع.
الثالث: حسن التأني من قبل الإمام مع هؤلاء النواب في تطوير شؤونهم الإدارية التي تناسب هذا المنصب المهم، فالإمام لا ينفك من التبليغ الاستمراري لوكلائه كتابة ومشافهة، ولا يفتأ من تحصينهم العلمي أداء ورسالة، وذلك من خلال التوقيعات الشريفة او المراسلات الأمنية بخطه مباشرة.
كانت هذه المؤشرات ابرز العوامل في تركيز نظام النيابة عن الإمام وكانت وظيفة الإمام في نصب الوكلاء عنه تستدعي إشعار أوليائه بهذا المنصب والتوكيل، ووصف الوكيل في دينه وتوثيقه، وبيان واجباته ومستحقاته، والأمر بتنفيذ أوامره وعدم خذلانه، والدعاء للأولياء في خلال ذلك.
فقد وكل الإمام إبراهيم بن عبدة في بعض النواحي، فاختار علماً من أعلامها، ووجه إليه بالرسالة الآتية:
(وبعد فقد بعثت إليكم إبراهيم بن عبدة، ليدفع (أهل) النواحي، وأهل ناحيتك حقوقي الواجبة عليكم إليه، وجعلته ثقتي وأميني عند موالي هناك، فليتقوا الله، وليراقبوا، وليؤدوا الحقوق، وليس لهم عذر في ترك ذلك، ولا تأخيره، ولا أشقاهم الله بعصيان أوليائه، ورحمه الله وإياك معهم برحمتي لهم، إن الله واسع كريم).
ويبدو ان الإمام عليه السلام قد زود إبراهيم بن عبده بوكالة خطية ثم انبأهم بصحة بذلك الكتاب، فكتب لهم: (وكتابي الذي ورد على إبراهيم بن عبده بتوكيلي إياه بقبض حقوقي من موالينا هناك، نعم هو كتابي بخطي إليه، أقمته لهم ببلدهم حقاً غير باطل، فليتقوا الله حق تقاته، وليخرجوا من حقوقي، وليدفعوا اليه، فقد جوزت له ما يعمل به فيها وفقه الله، ومن عليه بالسلامة من التقصير).
وهذا نموذج فيه نوع من التفصيل عن كيفية نيابة الوكلاء عن الإمام، وذلك في نقطتين:
الأولى: إشعار من يبعث إليهم بالوكيل.
الثانية: تزكية الوكيل وتوثيقه من قبل الإمام عليه السلام.
وفي ضوء ما تقدم فان نظام الوكلاء من أرقى ما توصل إليه الفكر الإمامي في الدعوة والتبليغ، ويرى فيه البديل الأمين عن حضور الإمام في الواجهة الأمامية، لانه الوسيط الموثوق به بين الإمام وأوليائه، والقائم على مشاريع الإمام في قبض المال وتوزيعه في مظان استحقاقه ومشروعيته طبق الموازين، وهو سبيل الإجابة عن الاستفتاءات في شؤون الأحكام، وهو نوع من التناوب على القيام بالمسؤولية الشرعية بما يخفف ولو جزئياً من أعباء الإمام الفادحة، وفيه ضمان للسلامة من الهزات الأمنية والاحتقان السياسي، والابتعاد عن الأضواء التي تثير حساسية السلطان.
ومن هنا كان هذا التخطيط الأمثل هو الأصل في قيام مرجعية فقهاء أهل البيت عليهم السلام فيما بعد، إذ اعتاد أولياء الأئمة على تلقي أحكامهم عن طريق نيابة الوكلاء، وقد قام على أساسه نظام آخر يمتد مع أهل البيت في الارتباط بأوليائهم حتى الظهور وقيام الدولة العالمية للإسلام على يدي الإمام المنتظر عليه السلام، ذلك النظام العريق هو نظام (المرجعية الدينية) المنطلق من التوقيع الرفيع لصاحب الأمر: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فانهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم)1.
- 1. صحيفة صدى المهدي عليه السلام الشهرية التابعة لمركز الدراسات التخصصية في الامام المهدي عليه السلام العدد: 56 بتاريخ: 23/3/2014 م.