هذا السؤال بمنطق التحليل له صورتان، صورة تتصل بالفكر، وصورة تتصل بالدين، في نطاق صورة الفكر يمكن التساؤل: هل الفكر في أي مرحلة من مراحله المتدرجة الأولى أو الوسطى أو العليا، يقود الإنسان إلى الخروج عن الدين أو الابتعاد عنه، بشكل لا يمكن الجمع بين الفكر والدين! وهل يصح القول إنه كلما قوي الفكر عند الإنسان ضعف الدين، حتى يصل إلى مرحلة يبقى فيها الفكر ويغيب الدين؟!
وفي نطاق صورة الدين يمكن التساؤل: هل الدين يحجب الإنسان عن الفكر ويمنعه من أن يكون مفكرا؟ أو يحد من أطوار نموه الفكري؟ أو يفضل له حدا محدودا طلبا لنجاته وسلامة دينه! وهل يصح القول أنه كلما قوي الدين عند الإنسان ضعف الفكر، حتى يصل إلى مرحلة يبقى فيها الدين ويغيب الفكر؟!
أمام هذه القضية الإشكالية، سوف أشير إلى ثلاثة مواقف جاءت في أزمنة متعاقبة، وصدرت من أشخاص ينتمون إلى بيئات عربية متنوعة، وتعلقت بمناسبات رجعت بعضها إلى الأزمنة الإسلامية الوسيطة زمن ابن رشد وجدل العلاقة بين الفلسفة والدين، وبعضها رجعت إلى هذه الأزمنة المعاصرة.
هذه المواقف الثلاثة بحسب تعاقبها الزمني هي:
أولا: في كتابه (دراسات في الفكر العربي) الصادر سنة 1970م، تساءل الباحث اللبناني الدكتور ماجد فخري: هل باستطاعة المرء أن يكون مسلما أصيلا وفيلسوفا أصيلا في الوقت ذاته؟
هذا السؤال العام جاء متفرعا من سؤال خاص تعلق بابن رشد وتحدد بهذا النحو: كيف استطاع ابن رشد كفيلسوف أصيل أن يبقى مسلما أصيلا؟
أمام هذا السؤال لا يرى الدكتور فخري أي مبرر للشك في أن ابن رشد بقي حتى آخر رمق فيه فيلسوفا أصيلا ومسلما أصيلا، ولا يستطيع الدكتور فخري حسب قوله، الأخذ بالافتراض الذي راج زمنا في العصور الوسطى، وزعم أصحابه أن ابن رشد استطاع أن يفعل ذلك بحكم ضرب من المراءاة أو المداهنة.
ومنشأ هذا السؤال، أن ابن رشد أثار دهشة الغربيين بشدة باحثين ومفكرين ومستشرقين، وذلك حين أصبح أعظم شارح لأرسطو، حتى عرف بوصف الشارح الأكبر والشارح الأعظم، وبات من المعروف عند هؤلاء وغيرهم أن لا سبيل لمعرفة أرسطو وتراثه الفلسفي، إلا عن طريق ابن رشد الذي قدم أوضح وأصدق وأشمل شرح لمؤلفات أرسطو.
الوضع الذي جعل الغربيين يتساءلون: ما الذي جعل ابن رشد الفقيه المسلم يبدي كل هذا الاهتمام الواسع والكبير لأرسطو مع أنه لا ينتمي لملته ولا لثقافته وتاريخه وتراثه!
وحين اقترب ابن رشد بهذا المستوى من أرسطو وعد شارحه الأكبر والأعظم فهل بقي على دينه وإيمانه!
وكان في تقدير هؤلاء أن من يقترب من أرسطو بهذا المستوى المدهش الذي وصل إليه ابن رشد، لا يمكن أن يبقى على دينه وإيمانه القويم، مع ذلك بقي ابن رشد على دينه وإيمانه وأصبح ابن رشد الفيلسوف كما أصبح ابن رشد الفقيه، وضرب مثلا ساميا في أن المفكر يمكن أن يكون دينيا.
ثانيا: في سنة 1951م نشر الباحث المصري الدكتور زكي نجيب محمود كتابا حمل عنوانا مثيرا (شروق من الغرب)، وفي سنة 1953م نشر كتابا حمل عنوانا صادما (خرافة الميتافيزيقا)، وراجعه لاحقا وأعاد إصداره سنة 1983م بعنوان (موقف من الميتافيزيقا)، وإلى فترة من الزمن كان الدكتور محمود يرى أن (لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بترا، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علما وحضارة ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم).
بعد هذه السيرة الفكرية الطويلة مع الفلسفات الغربية تعلما وتعليما، تأليفا وتصنيفا، تحول الموقف الفكري عند الدكتور محمود واكتشف ما سماه بالوهم العجيب الذي أوهمنا به أنفسنا، وشرح هذا الموقف في كتابه (رؤية إسلامية) الصادر سنة 1987م، بقوله في مقدمة الكتاب (لقد أوهمنا أنفسنا وهما عجيبا، قيد خطواتنا على طريق التقدم، وهو أننا توهمنا أن ثمة تناقضا بين أن يكون الإنسان مسلما بعقيدته الدينية، وأن يكون في الوقت نفسه ساعيا إلى ما يسعى إليه أهل الغرب، من إيجاد لعلم جديد).
وبحسب هذا النص البديع فإن العالم بعلوم العصر يمكن أن يكون دينيا؟ ومن ثم فلا جدال ولا نزاع في أن المفكر يمكن أن يكون دينيا!
ثالثا: في كتابه (مدخل إلى التنوير الأوروبي) الصادر سنة 2005م، وعند حديثه عن الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، اعتبر الباحث السوري هاشم صالح، أن إيمان بول ريكور لم يمنعه من أن يكون فيلسوفا كبيرا ملما بكل علوم العصر، ومتمما صالح كلامه بقوله: إذا ليس من الضروري أن تكون ملحدا لكي تكون فيلسوفا كبيرا، كما توهم بعض المثقفين العرب التقدميين.
وقد توهم بعض المثقفين في المجال العربي، أن المفكر لا يمكن أن يكون دينيا، الوهم الذي سكن أذهان هؤلاء ورتبوا عليه أثرا فكريا ومعرفيا، إلى جانب من يرى متوهما كذلك، أن المفكر يمكن أن يكون دينيا لكنه يتعين ضمن أفق محدود، ويتأطر ضمن حدود صارمة لا يستطيع تجاوزها والخروج عليها أو التفلت منها، ومن ثم فهو محكوم بسقف معين وبقيود مفروضة، وعلى هذا الأساس لا يمكن النظر إلى المفكر الديني عند هؤلاء بعيدا عن هذه الحدود، فهو في النهاية مفكر لكن بسقف محدود.
وهذا مجرد كلام هو أقرب للتباهي والتفاخر والتفاضل، ولا يمت إلى الحقيقة وعالم الحقيقة بصلة، كما أنه لا قيمة له من جهة المعرفة جودة وابتكارا واستكشافا، فليس الدين الذي يفرض حدودا فحسب، بل حتى العقل يفرض حدودا، والعلم يفرض حدودا، والضمير يفرض حدودا، والتجربة تفرض حدودا، والتاريخ يفرض حدودا.
وهذه الحدود في حقيقتها لا تعيق العلم عن التطور، ولا تعيق الفكر عن التقدم، ولا تعيق المعرفة عن التراكم، وإنما هي لتسديد الطريق، وتصويب السبيل، وتخليق العمل، فالانطباع بأن المفكر لا يمكن أن يكون دينيا هو مجرد وهم لا غير1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة اليوم، الأحد 4 سبتمبر 2016م، العدد 15787.