بسم الله الرحمن الرحيم
✍🏻 زكريا بركات
يتصور البعض أن نداء غير الله في الدعاء يعتبر مظهراً من مظاهر الشرك بالله..! وهذا التصور غير صحيح إلا إذا كان الداعي يعتقد أن الذي يدعوه ربٌّ ذو تأثير مستقل عن الله تعالى.. بينما المسلمون الذين ينادون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أحد أولياء الله، هم أناس يعتقدون بـ (لا إله إلا الله) وبناء عليه لا يصح القول بأنهم يعتقدون بربوبية أو ألوهية غير الله تعالى، بل يلزم القول بأن هؤلاء المسلمين إنما يذكرون غير الله في الدعاء بوصفهم أبواباً إلى الله، جعلهم الله وسيلة وطريقاً إلى تحصيل مرضاته.. فهناك فرق بين أن ينظر الإنسان إلى النبي بوصفه باباً وسبباً لطلب الحاجة، وبين أن ينظر إليه بوصفه رباً وإلهاً يعبده والعياذ بالله.. وهناك من يخلط بين الفكرتين من غير قصد لضعفه العلمي، وهناك من يخلط عن سوء قصد ليتسنى له تكفير المسلمين وإشعال نار الفتنة والحروب في المجتمع الإسلامي.
وهناك أحاديث صحيحة في كتب المسلمين تدل على جواز نداء غير الله تعالى في مجال الدعاء، نذكر منها ما يلي:
روى ابن خزيمة في صحيحه برقم (1219) عن رسول الله صلى الله عليه وآله ولم أنه علَّم الصحابي الضرير دعاءً يقول فيه: “اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبيِّ الرحمة، يا محمَّد إني توجَّهت بك إلى ربِّي في حاجتي هذه فتُقضي لي”.
فلاحظ عبارة “يا محمد” في قلب الدعاء الذي يخاطب فيه الداعي ربه الله تبارك وتعالى.
وقد صحح هذا الحديث غير واحد من علماء أهل السنة، منهم: الحاكم في المستدرك، والبيهقي في دلائل النبوة، وابن تيمية في مجموع الفتاوى، والشوكاني في تحفة الذاكرين، والألباني في صحيح ابن ماجة، ومقبل الوادعي في كتاب الشفاعة.
وقد يقول البعض إن هذا خاص بحياة النبي (ص) ، ولا يشمل ما بعد وفاته، فإن التوسل به بعد وفاته شركٌ..!
فنقول: هذا الكلام غير صحيح، والدليل على ذلك:
أولاً: أن الأحكام العقدية لا يصح تخصيصها بزمان دون آخر، فما كان توحيداً في زمان، فهو توحيد في كل الأزمان، وما كان شركاً في زمان، فهو شرك في كل الأزمان؛ والسبب في ذلك أن الأحكام العقدية أحكام عقلية، خصوصاً في مثل التوحيد والشرك، والأحكام العقلية لا تُخصَّص؛ لأنها عبارة عن حقائق ثابتة، وليست اعتبارات مجعولة يمكن تغيرها ونسخها أو تخصيصها.
وبناء عليه نقول: قد ثبت (بدلالة الحديث الصحيح) أن التوسل بالنبي (ص) ونداؤه في حياته، ليس شركاً؛ وإلا لما أمر به النبي (ص) ، فيثبت أنه كذلك في كل الأزمان.
ثانياً: ثبت بسند صحيح في المعجم الكبير للطبراني 9 : 30 ، أن الصحابي عثمان بن حنيف علَّم هذا الدعاء لرجل في زمن خلافة عثمان بن عفان، وهذا دليل على أن عثمان بن حنيف لم يكن يرى هذا الدعاء مختصاً بزمان حياة النبي (ص) ، ولا كان يرى أن هذا الدعاء يمثل ظاهرة شركيةً بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وإليك سند الحديث في معجم الطبراني مع محل الشاهد من المتن:
حَدَّثَنَا طَاهِرُ بْنُ عِيسَى بْنِ قَيْرَسٍ الْمِصْرِيُّ الْمُقْرِئُ، ثنا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ، ثنا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ الْمَدَنِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ عَمِّهِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ: أَنَّ رَجُلاً، كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِي اللهُ عَنْهُ فِي حَاجَةٍ لَهُ، فَكَانَ عُثْمَانُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلَا يَنْظُرُ فِي حَاجَتِهِ، فَلَقِيَ ابْنَ حُنَيْفٍ فَشَكَى ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ: “ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ، ثُمَّ ائْتِ الْمَسْجِدَ فَصَلِّ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قُلْ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فَتَقْضِي لِي حَاجَتِي، وَتُذَكُرُ حَاجَتَكَ” الخبر.
وفيما يلي بيان حال رجال السند:
طاهر بن عيسى: وثقه ابن ماكولا في إكمال الكمال، وبالرغم من حرص الوهابية على الطعن في السند إلا أنني لم أجد أحداً طعن في طاهر بن عيسى.
أصبغ بن الفرج: ثقة فقيه، من رجال البخاري.
وعبد الله بن وهب: ثقة حافظ من رجال الستة.
شعيب بن سعيد: وثقه غير واحد، وهو من رجال البخاري.
وروح بن القاسم: ثقة حافظ من رجال البخاري ومسلم.
وعمير بن يزيد، أبو جعفر الخطمي المدني: ثقة من رجال السنن الأربعة.
وأسعد بن سهل بن حنيف، أبو أمامة: ثقة من رجال الستة، اختلفوا في صحبته.
وعثمان بن حنيف، أبو عمرو: صحابي.
أقول: فالسند صحيح، رجاله رجال الصحيح إلا أبا جعفر الخطمي وهو ثقة.
خلاصة الموضوع:
1 ـ لا يوجد دليل صحيح للقول بأن من ينادي النبي (ص) أو الولي في الدعاء فهو مشرك.
2 ـ يوجد حديث صحيح أن النبي (ص) علَّم صحابياً أن يقول: “يا محمد” في الدعاء.
3 ـ لا يصح القول بتخصيص الدعاء بـ “يا محمد” في حياة النبي (ص) لسببين:
( أ ) أن التخصيص الزمني لا يصح في مجال الأحكام العقدية ومنها التوحيد والشرك.
(ب) أن التخصيص مناف لما رُوي بسند صحيح عن عثمان بن حنيف من أنه علَّم الدعاء بـ “يا محمد” لرجل في زمن عثمان بن عفان، أي بعد وفاة النبي (ص) بفترة طويلة.
والحمد لله رب العالمين.