أطلق الباحث اللبناني الدكتور خالد زيادة مقولة فكرية مهمة تحددت بقوله: (لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب)، التي جاءت عنوانا لكتابه الصادر سنة 2013م، وفي طبعته الجديدة سنة 2015م، هذا العنوان الجاذب واللافت للانتباه يصلح أن نعطيه صفة المقولة، ونتعامل معه بهذا الوصف، وهي المقولة التي ستعرف بالمؤلف لاحقا، وسيعرف بها كذلك، وذلك لأهميتها وطرافتها وإثارتها للدهشة، علما أن المؤلف لم يعط عنوان كتابه هذه الصفة، ولم يتعامل معه بهذا الوصف.
إعطاء العنوان صفة المقولة لكونه أقرب من ناحيتي المبنى والمعنى إلى صفة المقولة، ولسعة حقله الدلالي، ولجعله في دائرة الفحص والتحليل، ولإعطائه فرصة الجدل والنقاش، ومن أجل النظر في صدقيته، والتثبت من حقيقته، وباعتبار أن أفق المقولة أكثر سعة من أفق العنوان.
لكن الملاحظ أن الدكتور زيادة لم يتعامل مع هذه المقولة بهذا الأفق، ولم يعطها هذا القدر من الدهشة، بل ولم يتوقف عندها كثيرا، كما هي تستحق، ولم يأت على ذكرها في جميع مداخل وفصول الكتاب، وأشار إليها في خاتمة الكتاب فقط، بطريقة عابرة لا تلفت الانتباه، وكأنه لم يكن بصدد تسليط الضوء عليها، ولو لم ترد في عنوان الكتاب لكان من الصعب التنبه إليها، ولأصبح مصيرها إلى الطمس والإهمال والنسيان.
أما المفارقة التي بحاجة إلى توقف، هي أن الكتاب من المقدمة إلى ما قبل الخاتمة جاء في سياق فكري وتحليل تاريخي مختلف، لا يقدم إثباتا على هذه المقولة ولا يبرهن عليها، وإنما يقدم إثباتا وبرهانا عكسيا عليها، فبنية الكتاب بفصوله الثمانية تتناول الحديث عن تاريخ العرب الحديث والمعاصر من جهة العلاقة بأوروبا بوصفها مصدر تأثير من جهة، ومصدر استلهام من جهة ثانية، ومصدر تهديد من جهة ثالثة.
وتأكيدا لهذا الرأي أعتبر الدكتور زيارة أن كل التطورات التي شهدها العالم العربي منذ بداية القرن التاسع عشر هي نتيجة للعلاقة المتوترة مع أوروبا، لهذا فإن العلاقة مع الغرب حسب قوله، ظلت تواكب هذا الكتاب في كل فصوله، طالما أن التطورات التي شهدها العالم العربي كانت بتأثير هذه العلاقة.
علما أن الدكتور زيادة كان مدركا لهذه المفارقة، ومتنبها لها، وبانيا ومرتبا عليها أثرا له علاقة بطبيعة المقولة التي توصل إليها، فقد أراد القول بأننا نحن العرب قد ربطتنا علاقات طويلة بأوروبا، واعتمدنا عليها وأخذنا منها كثيرا، وحان الوقت الذي نغير فيه المسلك والمسار، والاتجاه نحو الاعتماد على أنفسنا، والنظر إلى ذاتنا بعيدا عن سحر أوروبا والارتهان والتبعية لها.
من جانب آخر، إن هذه المقولة لو جاءت من شخص في غير منزلة الدكتور زيادة لكان من الممكن التغافل عن هذه المقولة، وعدم الاكتراث بها، لكن أن تأتي من الدكتور زيادة فإن شأنها سيكون مختلفا، وذلك لكونه صاحب دراية ومعرفة وخبرة في هذا الشأن.
وقد كشفت عن ذلك أعماله ومؤلفاته التي جاءت وتتابعت واتصلت بهذا المنحى، منذ رسالته للدكتوراه التي ناقشها في جامعة السوربون الفرنسية سنة 1980م، وكانت بعنوان: (المؤثرات الفرنسية على العثمانيين في القرن الثامن عشر)، وصدرت لاحقا في كتاب سنة 1981م بعنوان: (اكتشاف التقدم الأوروبي)، وفي سنة 2010م صدر الكتاب في القاهرة بعنوان آخر هو (المسلمون والحداثة الأوروبية).
وفي سنة 1983م أصدر الدكتور زيادة كتابا له طابع الرصد والتتبع والتوثيق، حمل عنوان: (تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا)، وهذا الكتاب الجديد (لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب)، يتصل بهذا المنحى من الاهتمام، وينتمي إلى هذا الحقل البحثي، وجاء معبرا عن حصيلة وتراكم هذه الدراية والمعرفة والخبرة، وكاشفا عن تطور الرؤية عند الدكتور زيادة، ولعل المقولة المذكورة تمثل إحدى أبرز خلاصات القول عنده في هذا الموضوع.
المقولة التي أطلقها الدكتور خالد زيادة بقوله (لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب)، هذه المقولة التي لا تخلو من طرافة ودهشة، ماذا تعني؟ وما هي الحكمة منها؟
الذي يفهم من خطاب الدكتور زيادة أن هذه المقولة لا علاقة لها لا بتراجع أوروبا، ولا بتقدم العرب، لا بتراجع أوروبا حتى يقال إنها لم يعد لها ما تقدمه للعرب، ولا بتقدم العرب حتى يقال إن بفضل هذا التقدم لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب، فهذه المقولة تفسيرا وتحليلا وحكمة لا علاقة لها بمعادلة التراجع والتقدم.
وحسب أقوال الدكتور زيادة وتحليلاته حول هذه المقولة، يلاحظ غلبة الحس الرغبوي على الحس الموضوعي والتاريخي، أو امتزاج الحس الرغبوي بالحس الموضوعي والتاريخي، لكن بطريقة تظهر غلبة الحس الرغبوي، بمعنى أن هذه المقولة هي تعبير عن رغبة أكثر من كونها تعبيرا عن حقيقة موضوعية وفعلية، فالعرب ما زالوا يقصدون أوروبا لتحصيل العلم والمعرفة من معاهدها وجامعاتها، ويقصدونها لأشياء كثيرة لها علاقة بالعلوم والصناعات وبالتقدم والتمدن، وذلك على خلفية أن أوروبا ما زال لديها ما تقدمه للعرب.
وعند الفحص والتحليل يمكن القول إن الدكتور زيادة قد استند في تكوين هذه المقولة، إلى ثلاثة عناصر أساسية مثلت بنيتها الفكرية، وهي:
أولا: من ناحية الظرف التاريخي، يرى الدكتور زيادة أن أوروبا المستعمرة –يقصد أوروبا في زمن الاستعمار- كانت مصدرا للأفكار الكبرى من القومية إلى الاشتراكية إلى الليبرالية، إلا أن شيئا من هذا لا يتشابه في نظره مع ظروف البلدان العربية في الوقت الراهن، فالتحرر اليوم ليس من الاستعمار وإنما من الأنظمة الأحادية.
ثانيا: من ناحية الأفكار، يعتقد الدكتور زيادة أن أوروبا لم تعد مصدر الأفكار الكبرى، ولم يعد لها ما تقدمه للعرب في هذا الشأن، ومن جانب العرب يرى الدكتور زيادة أن الثورات التي حصلت حديثا في العالم العربي لا تدفعها الأفكار الكبرى، وإنما تدفعها قضايا العيش والكرامة والعدالة الاجتماعية بوصفها حقائق إنسانية شاملة، كما أننا في نظره قد أخذنا الكثير من الأفكار الأوروبية في القرن التاسع عشر، وبات على العرب أن ينشئوا أفكارهم، وألا يعتمدوا على أوروبا.
ثالثا: من ناحية التأثير، في تقدير الدكتور زيادة أن أوروبا ليس لها اليوم ذلك التأثير الكبير على العالم العربي، خاصة بعد سيطرة التيار الإسلامي بصورة كبيرة على ثورات العالم العربي، الثورات التي يرى أنها أدخلت العالم العربي في حقبة جديدة من تاريخه الحديث والمعاصر.
لا شك في أن هذه المقولة بهذه الرؤية وبهذا الأفق، فيها ما يحفز على الجدل والنقاش، وفي هذا النطاق يمكن مناقشتها من جهات عدة، فمن جهة أن هذه الرؤية كشفت عن تغير في الموقف عند الدكتور زيادة، فبعد أن كانت عنايته بهذا الموضوع سابقا بقصد الاقتراب من أوروبا والتواصل معها، والاكتساب منها، والتمازج معها، لأن لديها ما تقدمه للعرب، هذا الموقف تغير بقدر ما وذلك بعد أن أصبحت أوروبا في نظره ليس لديها ما تقدمه للعرب، فهذه المقولة من هذه الجهة جاءت بقصد المطالبة بإعادة بناء وتشكيل العلاقة مع أوروبا بطريقة مختلفة عما كانت عليه من قبل.
ومن جهة ثانية، إن هذه الرؤية كشفت وعبرت عن حالة من التفاؤل بما حصل في العالم العربي من ثورات وانتفاضات حسب وصف الدكتور زيادة، وفي حالة التفاؤل نكون عادة أقرب إلى هذه النمط من الأفكار والمقولات، لكن هذا التفاؤل سرعان ما أنقلب وارتد إلى وضع يبعث على الكآبة والإحباط، وتحول الحال إلى ما يشبه الكابوس المرعب، وبات من الصعب التفاؤل مع الدكتور زيادة الذي ظن أن الأحداث التي شهدها العالم العربي منذ سنة 2011م، لن تشهد استقرارا قبل أن يتغير العالم العربي تغييرا جذريا يضعه على طريق الحداثة.
لكن المآلات التي وصل إليها العالم العربي تقدم صورة مغايرة تماما، لا تضع العالم العربي على طريق الحداثة، وإنما على طريق ما قبل الحداثة، هذا واقع الحال حتى لو اعتبرنا أن المشهد ما زال في حالة تحول وصيرورة ولم يصل إلى حد الاكتمال.
ومن جهة ثالثة، نتفق مع الدكتور زيادة في مسألة أن على العرب أن ينشئوا أفكارهم وألا يعتمدوا على أوروبا، لكن السؤال كيف يتحقق ذلك؟ هل يتحقق إذا قلنا أو اعتبرنا أن أوروبا لم يعد لها ما تقدمه للعرب؟ وهل أن انسداد طريق الأفكار من أوروبا يكون باعثا أو يصلح أن يكون باعثا على أن نبتكر أفكارنا ونتوقف عن الاعتماد على أوروبا؟ من ناحية الحس الرغبوي هذا ممكن، لكن من ناحية الحس الواقعي فهذا ليس بالضرورة ممكنا.
من جهة رابعة، إن المشكلة ليست في أوروبا، وفيما إذا كان لديها ما تقدمه لنا أم لا! وليست المشكلة بالنسبة إلينا في توقف الأفكار في أوروبا وأنها لم تعد تقدم الأفكار الكبرى، كما أن ليست المشكلة كذلك في كم أخذنا وماذا أخذنا من أفكار أوروبا!
وإنما المشكلة فينا نحن، في تأخرنا وتراجعنا وتخلفنا، ولن تتغير صورة العلاقة مع أوروبا وأفكارها إلا إذا تغير حالنا، وسلكنا طريق التقدم والنهوض، فالقضية كانت وما زالت في كيف نتقدم؟ وكيف نخرج من وضعية التراجع وننتقل إلى وضعية التقدم!1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة اليوم، محرم 1437هـ / أكتوبر 2015م، العدد 15472 و 15465.