د. احمد الطفيلي
شهد التاريخ البشري ألوان الإنحرافات عن خط التوحيد, والصفة البارزة في هذه الإنحرافات هو الاعتقاد بوجود آلهة متعددة لهذا العالم, وفكرة التعدد أنطلقت من ضيق نظرة أصحابها الذين راحوا يعيّنون لكل جانب من جوانب الكون والحياة إلاهاً ,وراحت بعض الأمم تصنع الألهة لأمور جزئية , كالحب والعقل والحرب والتجارة والصيد والماء وغيرها.
اليونانيون مثلاً: كانوا يعبدون أثني عشر آلها وضعوها على قمة (أولمب), وكل واحدة منها تمثل جانباً من صفات البشر، والكلدانيون: اعتقدوا بإله الماء وإله القمر وإله الشمس وإله الزهرة وأطلقوا على كل منها اسماً معيناً, واتخذوا فوق ذلك إلهاً أكبر لهم يسمى (مردوخ) .
والروم تعددت آلهتهم أيضاً وراجت نظرية الشرك عندهم أكثر من أية أمة أخرى, فقد قسموا الآلهة إلى مجموعتين : آلهة الأُسرة وآلهة الحكومة, ولم يكونوا يكُنونَ ولاءً لآلهة الحكومة لعدم إرتياحهم من حكومتهم.
وقد ورد في التاريخ أنّ الروم اتخذوا لهم ثلاثين ألف إلهٍ وكل واحد منها يشير إلى مظهر من مظاهر الكون والحياة مثل إله الزراعة وإله المطبخ وإله مستودع الطعام وإله البيت وإله النار وإله الفاكهة وإله الحصاد وإله شجرة العنب وإله الغابة وإله الحريق وإله بوابة روما وإله بيت النار وغيرها.
والحاصل: إنّ البشرية كانت غارقة في وحل الخرافات كما أنّها تعاني اليوم أبضاً من ذلك الموروث السقيم كعبادة بعض الرموز والحكام والأفراد .
وفي عصر نزول القرآن الكريم كان في الجزيرة العربية وفي كثير من مناطق العالم آلهة تعبد من دون الله تعالى إذ كانت عبادة الأفراد رائجة وإلى ذلك يشير القرآن الكريم في خطابه لليهود والنصارى بقوله: (اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أرباباً من دون الله)(1).
بعبارة موجزة: حين تنحرف البشرية عن خط التوحيد وتقع في شراك الإنحرافات والخرافات وفخاخ الأوهام فمضافاً إلى أنّها تسهم في غياب العقل وانحطاط الفكر تؤدي إلى تشتت المجتمع وتعمل على تمزيقه وتفريقه, ولكن خط التوحيد الذي دعا إليه الأنبياء وكان هدفهم الرئيس الذي يتميز بنبذ الآلهة المتعددة وهداية البشرية نحو الإله الواحد الأحد ولهذا رسم القرآن الكريم خط البطلان على جميع الآلهة المزيفة وغرس محلها التوحيد وأزهار الوحدة والاتحاد بين الناس.
إذ يغرس التوحيد الذاتي وتوحيد الطاعة لله تعالى وحده لا شريك له, وكما يغرس توحيد الأفعال الذي هو الإيمان بأن الله عز وجل هو المؤثر الحقيقي في العالم ( لا مؤثرَ في الوجود إلاّ الله ) وهذا لا يعني إنكار عالم الأسباب وتجاهل المسببات؛ بل يعني الإيمان بأنّ تأثير الأسباب إنّما يكون بأمر الله تعالى فالله تعالى هو الذي يمنح النار خاصية الإحراق, والشمس خاصية الإنارة والماء خاصية الإحياء وهكذا فتكون ثمرة هذا الاعتقاد أنّ الإنسان يصبح معتمداً على الله دون سواه ويرى أنّ الله هو القادر القهار فقط في كل شيء ويرى ما سواه لا حول له ولا قوّة وهو وحده سبحانه وتعالى المدبر في كل الأمور, وهذا التفكير يحرر الإنسان من الإعتماد والإنشداد بأي موجود من الموجودات فهو يتحرك بأمر الله تعالى ليرى في الأسباب تجلّي قدرة الله الذي هو وحده مُسبب الأسباب, اللهم إليك توجهت وبك اعتصمت وعليك توكلتُ ,هذا المعتقد يسمو بروح الإنسان ويوسّع آفاق فكرة, ليرتبط بالأبدية واللانهاية, ويحرر البشرية من الخرافات والإنحرافات وهذا هو الهدف الاول من بعثة الأنبياء .
أما الهدف الثاني من بعثة الانبياء فهو: إيقاظ الأفكار والأرواح في ظل الآيات الإلهية المبشرة والمنذرة بمعنى تلاوة آيات الله على الناس لكي يتبيّن لهم الحق كي يُتبع, ثم يتحقق التعليم والتربية.
الهدف الثالث: تعليم الكتاب والحكمة, ولا تتحقق التربية إلاّ بالتعليم فلابد أنْ يقول المسلمون : (قولوا آمنا بالله وما أُنزل إلينا وهو التوحيد الخالص والحق والعدالة).
الرابع : التزكية : والتزكية في اللغة هي الإنماء, وهي التطهير أيضاً, وبذلك يتلخص الهدف من بعثة الأنبياء في دفع الإنسان على مسيرة التكامل العلمي والعملي, فهنا يتبيّن أنّ معلومات الإنسان محدودة ومقرونة بالخطاء والانحرافات, ومن هنا كان من الضروري مجيء الأنبياء بعلومهم الحقّة الخالية من الأخطاء المستمدة من مبدا الوحي إلى الناس؛ ليزيلوا أخطاءهم ويملأوا فراغات جهلهم ويبعثوا فيهم إطمئناناً بعلمهم .
ويلزم التأكيد أيضاً على أنّ الشخصية البشرية تتكون من عقل وغرائز ولذلك كان الإنسان بحاجة إلى التربية ليكتسب الاخلاق, كما أنّ الإنسان بحاجة إلى التربية بقدر حاجته إلى العلم وينبغي أن يتكامل عقله وأن تتجه غرائزه نحو هدف صحيح ؛ولذلك قال الرسول الأعظم: إنمّا بعثتُ لأُتمم مكارم الأخلاق, وعلى هذا فلأنبياء معلمون ومربون, يزودون الناس بالعلم والتربية.
لذا فان النبي من الناس لقوله تعالى : (وابعث فيهم رسولاً منهم)(2) , فإنّ قادة البشرية ينبغي أن يكونوا بشراً بالصفات البشرية الغريزية نفسها, كي يكونوا قدوة لائقة في الجوانب العلمية والعملية, ولو كانوا من غير البشر ما استطاعوا إدراك حاجات الناس والمشكلات العويصة الكامنة لهم في حياتهم ولا أمكنهم أنْ يكونوا قدوة وأُسوة لهم ؛ لكي يتم إتباع الحق والإخلاص في العمل حتى تتم هداية الناس في ظل التوحيد الخالص ؛ كي نستأصل جذور الشرك والنفاق والتفرقة كما يأمر التوحيد بالتخلي عن الصبغات العنصرية والطائفية والذاتية وعن كل الصبغات المفرّقة والإتجاه نحو صبغة الله تعالى .
فالأمة الحية ينبغي أنْ تعتمد على أعمالها لا على ذكريات تاريخها والإنسان يجب أنْ يستند إلى أعماله وأخلاقه, لا أنْ يجتَرّ مفاخر الآباء والأجداد .
الخامس : حل المشاكل والشُبهات التي تطرح ضد عقائد المسلم ؛ كي يتمسكوا بالإسلام ,فنرى الأنبياء يدافعون عن الإسلام ويردون الشبهات بالأدلة والبراهين والحجج لا سيما دفاعهم عن التوحيد الخالص .
السادس: أن يعلم الجميع عدم وجود أي تمييز بين الناس في إطار القوانين الإلهية , وحتى الأنبياء مشمولون بهذه القوانين , الناس سواء أمام القانون الإلهي إذ الدين يبعث فيهم الإستسلام للحق على السواء .
السابع : العبادة الخالصة لله تعالى والخضوع والتذلل والخشوع الذي به تستعد الجوانح والجوارح لطاعة الله تعالى، فالعبادة هي الخضوع والخشوع معاً لله عزوجل , أي استعداد الجوارح والجوانح للطاعة الخالصة لله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-التوبة ,آية: 31
2- البقرة , آية : 129
نشرت في الولاية العدد 118