لأول مرة منذ ربع قرن على الأقل، تنكشف لنا المشكلة الطائفية والمذهبية بهذا المستوى من الظهور التي تظهر عليه اليوم في المجتمعات العربية والإسلامية، وبهذا التوتر والتفجر الحاد والساخن، الذي بات يقلق جميع العقلاء والحكماء في الأمة، وكل المتنورين والمصلحين.
وقد وصلت هذه المشكلة إلى حد فرضت نفسها وبقوة على الجميع، بحيث بات من الصعب تجاهلها أو إخفائها، أو التقليل من شأنها، أو عدم الاكتراث بها، وظهرت حولها من الكتابات ما لا يحصى، وبشكل لعله يفوق من الناحية الكمية الاهتمام بأي ظاهرة أخرى في هذا الوقت، وذلك بعد أن استحوذت هذه الظاهرة على اهتمام الكتاب الذين اعتنوا بالكتابة عنها، وتجلت في هذه الكتابات وجهات النظر المتعددة، والمتباينة أحياناً، ومن النادر حصول هذا المستوى الكمي المتصاعد من الاهتمام عند الكتاب خلال فترة قصيرة، وأمام ظاهرة من غير الظواهر السياسية المعتادة.
وتصلح هذه الكتابات في أن تكون عينة، لقياس اتجاهات ومستويات الفهم والإدراك عند هؤلاء الكتاب تجاه هذه المشكلة، وطبيعة تصوراتهم الراهنة والمستقبلية نحوها.
واللافت في الأمر أمام هذه المشكلة، هو سرعتها في الظهور والانتشار هذه المرة، وكأن رياح السموم قد هبت علينا فجأة في غير موعدها، وقلبت علينا حياتنا، وغيرت أمزجتنا، وأصابت عقولنا بالدوار، وغشت على أبصارنا، فأصبحنا نرتد إلى خطوط الانقسام التي ترجع بنا إلى الماضي وتحاصرنا به، وتغلق علينا أفق المستقبل ورحابته.
من جهة أخرى، أن ظهور هذه المشكلة بهذا التوتر والاحتقان التي هي عليه اليوم، لا شك أنه يمثل نكسة خطيرة لكل تلك المحاولات الفكرية والثقافية الناضجة واللامعة التي حاولت أن تبرز المكونات الحضارية، وتلفت النظر إلى أبعاد المعاصرة والتجديد في المنظومة الثقافية الإسلامية، وبالشكل الذي يجعل هذه المنظومة متعالية على المشكلة المذهبية، وبعيدة عن تشنجاتها ومنزلقاتها الوعرة والخطرة، وباحثة عن المستقبل الحضاري المشترك للأمة.
كما أن هذه المشكلة، قد مثلت نكسة خطيرة لكل تلك المحاولات والجهود الإصلاحية والخيرة التي سعت لتعزيز مسلكيات الحوار والانفتاح والتلاقي والتواصل والتقارب والتضامن بين المسلمين بكل فئاتهم ومذاهبهم، ولكل مكونات التعدد والتنوع فيهم، وهي المحاولات والجهود التي كنا وما نزال نتلمس فيها بصيص الأمل بمستقبل هذه الأمة وصلاحها.
وأمام هذا الوضع الحرج والحساس، تبرز مسؤولية العقلاء والحكماء والمصلحون والمتنورون في الأمة، وهم ليسوا بحاجة لمن يذكرهم بهذه المسؤولية، فهم الذين يذكرون غيرهم بمثل هذه المسؤوليات والواجبات، مع ذلك لابد من القول بضرورة أن يرفع هؤلاء صوتهم عالياً ومدوياً منعاً للفتنة والتمزق والاحتراب الداخلي، وحماية لوحدة الأمة وتماسكها وتضامنها، ولقطع الطريق على أولئك الذين يجدون في مثل هذه الظروف فرصتهم لرفع أصواتهم التي لا تزيد الأمة إلا تفريقاً وتمزيقاً وتراجعاً.
فنحن أمام محنة تضع الأمة على مفترق طرق، واليقظة والبصيرة هي التي تجنب الأمة من الانحدار وتضعها في طريق سواء السبيل.
وإذا كان لدينا من رجاء، فهو أن يكون في ظهور هذه المشكلة بداية الوعي بخطورتها، والتخلص منها، والانتباه إليها، ومحاصرتها والتضييق عليها، ولتكن المشكلة التي نتخلص منها باستفراغ كل ما فيها من تقيح ونزيف وسموم، ومن ثم نبدأ باستشراف مرحلة ما بعدها، وهذا هو الرجاء1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 26 محرم 1428هـ / 14 فبراير 2007م، العدد 14781.