يقاس تقدم أو تأخر المجتمعات بمقدار ما تمتلك من فكر وثقافة وقيم قادرين على بعث الروح في أبنائه نحو التقدم، وأطر ترسم الخطط وتحدد الأولويات وتنظم العلاقة بين مختلف الشرائح في المجتمع، وتفاعل وانسجام مع كلا الأمرين من قبل أفراد المجتمع.
وما عدا ذلك فإنه يدخل في إطار المظهر والنتيجة، فالتقدم الصناعي والاقتصادي والعسكري..و… في الغرب مثلاً يعد نتيجة طبيعية للتقدم الفكري والإداري في هذه المجالات التي سجلوا فيها تقدماً باهراً استطاعوا من خلاله فرض هيمنتهم على الكثير من المجتمعات.
وتخلفهم في المجال القيمي والأخلاقي والروحي يدخل أيضاً في إطار المظهر والنتيجة لتخلف المنظومة الفكرية والقيمية الحاكمة في مجتمعاتهم.
والمجتمعات الإسلامية حالها حال بقية المجتمعات فمتى ما توفرت هذه العوامل الثلاثة مجتمعة أنتجت تقدماً، ومتى ما انعدمت أو نقصت أنتجت تخلفا بحجم النقص أو الانعدام، وهذا يبين لنا سر تقدم المجتمعات الإسلامية في القرون الماضية وتأخرها في هذا الزمان، فتقدمهم في الماضي في شتى المجالات دليل حي على امتلاكها لمخزون ضخم من الثقافة والفكر والقيم، وقيادة سارت بهم نحو التقدم والازدهار.
بيد أن هذا المخزون أصبح حبيس التاريخ فما عاد له الدور ذاته كما في الماضي، ومن المعلوم أن انعدام التفاعل بين الإنسان الحاضر ومخزون الأمة التي ينتمي إليها أو القيادة المفترض إتباعها لا ينتج واقعاً متقدماً ومنسجماً مع ذلك المخزون.
ومن هنا يمكن لنا القول بأن الإسلام بما يمثل من مخزون شامل لهذه الأمة لن يؤثر في حياتها إلا إذا حدث تفاعلاً بين الإنسان والقيم والمبادئ التي جاء بها الدين الحنيف.
والتخلف الذي نشاهده ونشهد عليه في زماننا هذا ما هو إلا نتيجة لضعف تلك العوامل مما أنتج عن ذلك تخلفاً شاملاً في شتى ميادين الحياة.
ومع إيماننا الكامل كمسلمين بأن الرسالة جاءت لتزيل التخلف بكل أنواعه، وأن الرسول الأعظم عمل ليل نهار على مقاومته فاستبدل الجهل بالعلم، والظلم بالعدل، والخوف بالأمن، والتردد بالإقدام، والمرض بالصحة، والفوضى بالنظام، والجوع بالشبع و… و… إلا أن هذا الإيمان لن ينتج واقعاً منسجماً معه، لأنه يفتقر إلى الارتقاء بالروح والنفس والعمل إلى مستوى الرسالة، ومن ثم النهوض من واقع متخلف إلى واقع متقدم.
بيد أن هناك من ينظر إلى التقدم الحاصل في الغرب وخصوصا في المجالين العلمي والتكنلوجي بانبهار يفضي إلى ضعف الثقة بالدين وقدرته على السير بمعتنقيه نحو التقدم في العلوم العصرية، فيرى أن الموقع المناسب للدين هو القلوب والأمور الروحية ودور العبادة فقط.
وهذا الكلام صحيحاً وتاماً إذا كان بين الدين والحضارة نوع تنافر وخصام، والحال أن الدين منسجم مع الحضارة بل يقود إليها، والفارق بينه وبينها أن الأخيرة تهتم بقيادة الإنسان في الدنيا وينتهي دورها مع انتهاء أحدهما – الإنسان أو الحضارة – بينما الدين يقوده في الدنيا ويسير به في رحاب العوالم الأخرى- البرزخ والقيامة والجنة.
ويضاف إلى ذلك ضرورة دراسة الأسباب وتحديد مواطن الخلل قبل إصدار الأحكام، وبذلك يتبين لنا أن الخلل ليس فيما يحتويه الدين من فكر وثقافة وقيم ومبادئ، وليس في الأطر، وإنما في التفاعل معها.
والسؤال كيف نتحول إلى ما كانت عليه المجتمعات الإسلامية سابقاً؟
وبعبارة أخرى: كيف نتحول إلى مجتمع ناهض؟
والجواب يكمن في طي ما يفصل يومنا المتخلف عن أمسنا المتقدم، فالفاصلة التي تقع بين مجتمعات الأمس المتقدمة ومجتمعات اليوم المتخلفة لابد أن نطويها وذلك بأمور ثلاثة:
- الأول: التأصيل
تعرضت الثقافة الإسلامية في الماضي إلى عمليات كبيرة من التشويش والتمييع مستخدمة الوضع والتحريف والتزوير الذي طال منابع هذه الثقافة، فالقرآن الكريم وإن لم يتمكن المغرضون من العبث في آياته إلا أن تفسيره وأسباب نزوله لم تسلم من أيد العابثين، حتى أن أحدهم لما عوتب على وضع الأحاديث في فضائل السور، أجاب وبكل وقاحة: أني لم أكذب على محمد، وإنما كذبت له!.
أما السنة النبوية فيد التحريف اشتغلت فيها حتى أن أحد أرباب المسانيد قال: إني أحفظ ألف ألف – مليون – حديث مزورة.
ولذا اضطر علماء الحديث إلى تقسيمه إلى صحيح وحسن وضعيف، وغيرها من التقسيمات.
والتاريخ الإسلامي الذي يختزن التجربة ويبرز الفعل والتقرير المعتبرين شرعاً باعتبارهما من السنة، هو الآخر لم يسلم من التحريف والتزوير بل ربما كان له الحصة الكبرى والحظ الأوفر في هذا المجال.
وفي الحاضر تقوم آلة الإعلام الغربية ومن ورائها مراكز الدراسات والبحوث بالترويج لأفكار وثقافات تحت شعارات براقة يحسبها البعض عقلاً وعلماً مع أنها وإن كان بعضها كذلك إلا أنها لا تخلو من دسائس الانحراف وجاهلية المدنية الحديثة.
ولتمييز الصحيح من العليل والسليم من السقيم لا بد من عملية “التأصيل”.
- الثاني: البعث
تعيش مجتمعاتنا الإسلامية في سبات عميق ولذا تراها تتسابق في الاستهلاك، وترتب الأثر على الظن وتغلبه على اليقين، وتعمل كبرغي في ماكنة الغير من حيث لا تدري…، ومن هنا نقول أننا لا بد أن نستيقظ من هذا السبات، ونتحسس التخلف ببصيرة التأصيل.
- الثالث: الانفتاح
ينظر الإسلام إلى معطيات العلم ومنجزات البشر بكامل التقدير والاحترام، من دون فرق بين الحديث والقديم، الصناعي والفكري، ويحث أتباعه على الاستفادة منها ولكن بعد أن يتمتع أبناء المجتمع بفكر أصيل وانبعاث متين1.
- 1. نقلا عن شبكة مزن الثقافية – 28/6/2007م – 5:22 ص.