لقد ظلت العلاقة بين الثقافة والسياسة في حالة تغيّر وتبدّل في تاريخ الفكر الإنساني، وفي تاريخ الحضارات الإنسانية. لهذا فقد تبلورت حولها العديد من التصورات التي حاولت ضبط هذه العلاقة والسيطرة عليها، أو محاولة فهمها وتفسيرها، أو تفكيكها وتركيبها. والذين تحدثوا عن هذا الموضوع لفتوا النظر دائماً إلى جانب التغير والتقلب في تلك العلاقة، فالحقيقة التي لا ينبغي أن تذهلنا كما يقول الناقد البريطاني توماس إليوت (أن الثقافة أصبحت بوجه عام قسماً من السياسة، عن حقيقة أن السياسة كانت في عهود أخرى منشطاً يمارس داخل ثقافة ما).
ومن التصورات المطروحة لأنماط العلاقة بين الثقافة والسياسة، ما ذهب إليه تيري إيجلتون في كتابه (فكرة الثقافة) من تأكيد فكرة إعلاء الثقافة على السياسة، وحسب قوله (أن نعلي الثقافة على السياسة ـ أن نكون بشراً أولاً، ومواطنين ثانياً ـ يعنى أن على السياسة أن تتحرك ضمن بُعْدٍ أخلاقي عميق، معتمدة على ما توفره من موارد، في جعلها الأفراد مواطنين صالحين، يشعرون بالمسؤولية ويتسمون بالاعتدال والطباع الحسنة… وما تفعله الثقافة هو أنها تقطر إنسانيتنا المشتركة من ذواتنا السياسية المنضوية في نحل وشيع، حيث تسترد الروح من الحواس، وتنتزع الثابت من الزائل، وتقطف الوحدة من التعدد). ولهذا ينتقد إيجلتون ما يسميه بتسييس الثقافة، لأنه في نظره يجرد الثقافة من هويتها ذاتها ويدمرها أيضاً.
وهناك من يتبنى فكرة هيمنة السياسة على الثقافة، وقد عُرِفت بهذا التصور النظريات الماركسية التي جاهرت به، ولعلها انفردت به أيضاً. حيث لم يكن هذا التصور مشهوراً خارج نطاق النظريات الماركسية، بل إن الرأي كان بخلافه دائماً. والذي جعل الماركسيين يقولون بهذا الرأي ويتناغمون معه، أنهم من جهة يؤمنون بالدور المركزي للدولة، وبالتوجيه والتخطيط المركزي للدولة في المجتمع الاشتراكي. ومن جهة أخرى فإن الطبيعة الإيديولوجية الشديدة عند الماركسيين، تجعل الثقافة خاضعة خضوعاً شديداً لتلك الإيديولوجية المُسيَّسة بطبعها. ففي كتابه (أدب وثورة) الصادر عام 1925م، اعتبر تروتسكي أن الثقافة في الدولة الاشتراكية يجب أن تدار سياسياً. وفي كتابه (الكتاب الأحمر) يقول ماو تسي تونغ (في عالم تعود كل الثقافة، ويعود كل أدب وفن لطبقة معينة، وترتبط كلها بخط سياسي معين). ولا شك أن هذا التصور يسلب من الثقافة أعظم ميزة لها، وهي ميزة النقد. فالثقافة لا تتخلق بالنقد في ظل هيمنة الدولة، واعتبار الثقافة جزءاً من أملاكها. أو في ظل هيمنة الإيديولوجية على الثقافة التي تفرض عليها مسارات محددة بدقة، وضبطاً لوظائفها بدقة كذلك، الأمر الذي يفرغ الثقافة من محتواها، ويجعل منها صورة هيكل دون روح.
وهناك من إلتفت إلى مشكلة الخلط الذي يحصل بين الثقافة والسياسة، وهذه هي الفكرة الأساسية التي تحدث عنها توماس إليوت في شأن العلاقة بين الثقافة والسياسة، في كتابه (ملاحظات نحو تعريف الثقافة). لأنه حسب رأيه لا يمكن الفصل بينهما، كما لا يمكن القول بأن لا شأن لكل منهما بالأخرى. وحسب قوله (لست أزعم أن السياسة والثقافة لا شأن لكل منهما بالأخرى، فلو أمكن فصلهما فصلاً تاماً لكانت المشكلة أيسر مما هي. فالبناء السياسي لأمة يؤثر في ثقافتها، وهو بدوره يتأثر بتلك الثقافة).
وفي أواخر ثمانينيات القرن العشرين صدرت دراسة في فرنسا من إعداد بعض الباحثين الفرنسيين، عالجت إمكانية أن تكون الثقافة بديلاً عن السياسة في إنماء وتطوير وتحسين العلاقات الدولية، وفي معالجة الأزمات والتوترات بين الدول. واعتبرت الدراسة أن الثقافة في الوقت الحاضر تفهم بشكل أكثر اتساعاً مما كانت عليه في ماضٍ قريب، وأنها تهدف إلى تناول الإنسان بكليته جسداً وروحاً وعقلاً ووجداناً. ويشكل هذا المفهوم عاملاً قوياً في العلاقات الدولية يتمثل في إعلان الحق بالثقافة، والحق في المبادلات الثقافية. وتخلص الدراسة إلى أن السياسة بمفردها لم تستطع أن تعالج مشكلات الأمم، فلابد من تعاضد الثقافة، وبالتالي ضرورة تطوير العلاقات والمجالات الثقافية بين الدول والشعوب.
والحقيقة أن الثقافة لا يمكن أن تكون بديلاً عن السياسة، وأن السياسة سوف تظل في حاجة إلى ثقافة. ومن الصحيح أيضاً أن السياسة بمفردها لا تستطيع معالجة مشكلات الأمم ولابد من معاضدة الثقافة.
هذه بعض التصورات المتداولة في تحديد أنماط العلاقة بين الثقافة والسياسة. وأهم ما كشفت عنه هذه التصورات هو صعوبة انتظام تلك العلاقة في نمط واحد، أو تقييدها في اتجاه ثابت، أو التحكم بها بشكل صارم1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 18 مايو 2005م، العدد 14144.