تتكون قريش من خمسة و عشرين بطنا 1 . و أشرف هذه البطون على الاطلاق و أفضلها بالنص الشرعي بنو هاشم بن عبد مناف 2 ، و يليهم بالشرف بنو عبد المطلب بن عبد مناف ، و بنو الحارث بن عبد مناف ، و بنو أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، و بنو نوفل بن عبد مناف ، و هم سادة قريش ، فقد سادوا بعد أبيهم و يقال لهم : المجبرون ، و هم أول من أخذ العصم لقريش فانتشروا من الحرم . فقد أخذ لهم هاشم حبلا من ملوك الشام ، و أخذ عبد شمس حبلا من النجاشي ، و أخذ نوفل حبلا من الأكاسرة ، و أخذ عبد المطلب حبلا من حمير ، فاختلفت قريش بهذه الأسباب إلى بلاد العالم ، و كان يقال لهم : أقداح النضار لفخرهم و سيادتهم على العرب 3 .
ب ـ الصيغة السياسية
توصلت بطون قريش إلى صيغة سياسية قائمة على اقتسام مناصب الشرف فيما بينها ـ المناصب السياسية ـ من قيادة و لواء و ندوة و سقاية و رفادة و سفارة . . . الخ ، و الأسهم السياسية المحددة في هذه الصيغة أقصى ما استطاعت البطون أن تنتزعه ، ولاح لهذه البطون أنها أفضل صيغة سياسية على الاطلاق ، إذ ليس فيها غالب و لا مغلوب . فالمناصب السياسية قدر مشترك بين البطون و لا مصلحة لأي بطن بتغيير هذه الصيغة لأنه لو حاول التغيير فلا يعرف على وجه الجزم و اليقين عواقب محاولته .
فقد يفقد ما حققه ، ثم إن الأمور قد استقامت و نظمت أمور ولاية البيت الحرام ، فارتاحت كل البطون لهذه الصيغة ، و مع الأيام أصبحت عنوان عقيدة سياسية و أثرا مأثورا مما تركه الأولون ، و من غير الجائز الخروج عليه من قبل أي كان .
ج ـ محاولات لزعزعة الصيغة
في السنين العجاف لم يكن لمكة غير هاشم ، يطعم الناس و يشبعهم ، و قيل له : أبو البطحاء و سيد البطحاء ، ولم تزل مائدته منصوبة في السراء و الضراء ، و كان يحمل ابن السبيل و يؤمن الخائف 4 . فخشي أمية بن عبد شمس منه و حسده ، فتكلف أن يصنع ما يصنع هاشم ، فعجز عن ذلك ، فعيرته قريش فدعا هاشما للمنافرة فأبى ، ثم تنافرا على خمسين ناقة و على الجلاء عن مكة عشر سنين ، فقضى الحكم بأن هاشما أشرف من أمية ، فنحرت النوق وجلا أمية إلى الشام ، فكانت هذه بذرة العداء الأولى بين البيتين الهاشمي و الأموي . و لعل الذي دفع أمية هو الحسد لهاشم و الخشية من أن يشكل هاشم خطرا على هذه الصيغة لأن القيادة بيد بني عبد شمس ، و بروز نجم مثل هاشم قد يزعزع الصيغة كلها و يستخف الناس 5 .
د ـ إشاعة النبوة
أشيع في مكة أن نبيا سيبعث ، و أنه سيكون من سلالة عبد مناف ، و ممن استقرت في أذهانهم هذه الإشاعة أبو سفيان ، فقد كان على علاقة وطيدة بأمية بن أبي الصلت . و أبو سفيان موقن أن هذا النبي سينسف الصيغة السياسية ، و سيأخذ منه القيادة . و طالما أن القيادة لبني أمية فإن هذه النبوة من أكبر الأخطار و لكنه اطمأن بعد عذاب و معاناة ، فالشائعة تقول : إن النبي من بني عبد مناف و لا يوجد ـ حسب رأيه ـ من هو جدير بالنبوة سواه 6 ، فمن المؤكد أنه سيكون النبي المرتقب .
ه ـ إعلان النبوة
أعلن محمد الهاشمي أنه النبي المرتقب الذي اختاره الله لهداية العرب خاصة و الجنس البشري عامة ، و أن برهانه على هذه النبوة هو كلام الله . و اتبعه نفر قليل ممن عرفوا بالحصافة و بعد النظر و من أولئك الذين مستهم البشرية مسا أليما .
و ـ احتضان الهاشميين للنبي
احتضن الهاشميون محمدا بكل قوة ، و هددت زعامة قريش بقتل محمد ، و أشيع أنه قتل ، فجمع أبو طالب بني هاشم و أعطى كل واحد منهم حديدة صارمة و سار مع الهاشميين و المطلبيين و نادى : يا معشر قريش هل تدرون ما هممت به ؟
قالوا : لا ، فأخبر الخبر و قال للفتيان : اكشفوا عما في أيديكم فكشفوا ، فإذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة . فقال أبو طالب : والله لو قتلتموه ما أبقيت منكم أحدا حتى نتفانى و إياكم ، فانكسر القوم و كان أشدهم انكسارا أبو جهل 7 .
ز ـ حفاظا على الصيغة السياسية و حسدا لا حبا بالأصنام
قاومت بطون قريش بقيادة أبي سفيان محمدا و بكل أساليب المقاومة ، ولم ينثن ، و أمام إصرار و رفض بني هاشم لفكرة تسليمه اتفقت بطون قريش بدون استثناء على ما يلي :
1 ـ مقاطعة بني هاشم مقاطعة تامة ، فقاطعتهم قريش كلها بما فيهم بني عدي و بني تميم و حصروهم في شعاب أبي طالب ثلاث سنين و اضطروهم أن يأكلوا ورق الشجر من الجوع ، و اضطر أطفالهم أن يمصوا الرمان من العطش . تلك حقيقة كالشمس لا يجادل بها أحد . ولم يركع محمد ، ولم يركع الهاشميون ، و أبطل الله كيد بطون قريش و زعامتها و فشل الحصار بعد مقاطعة استمرت ثلاث سنين .
2 ـ عندما سمعت قريش أن محمدا سيهاجر إلى يثرب بعد أن تمكن من إيجاد قاعدة له قررت بطون مكة بالإجماع أن تقتل محمدا ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، فاختاروا من كل قبيلة رجلا حتى يضربه هؤلاء الرجال ضربة واحدة فيضيع دمه بين القبائل و لا يقوى الهاشميون على المطالبة بدمه لأنه إن ذهب إلى يثرب نجح و سلبهم القيادة و الشرف .
و في اللحظة التي أجمعوا بها أمرهم دخلوا فوجدوا علي بن أبي طالب نائما في فراشه . و جن جنون القيادة المكية و خصصت الجوائز لمن يقبض عليه حيا أو ميتا .
و في الطرف الآخر كان محمد و صاحبه و دليلهما المشرك يشقون طريقهم سالمين بإذن الله . و تلك حقيقة ساطعة كالشمس لا تحتاج إلى دليل 8 .
ح ـ حروب من أجل الصيغة السياسية و حسدا لا حبا بالأصنام
لم تيأس بطون قريش و قيادتها الأموية من هزيمة محمد و بني هاشم و دينهم ، ولم ييأس محمد و الهاشميون و أصحابه من هزيمة الشرك و قيادته . و انقسم العرب أثلاثا قسم مع قريش و قيادتها المشركة ، و قسم قليل مع محمد ، و القسم الثالث تربص ليتبع الغالب . و اشتعلت الحروب في بدر و أحد ، و جيشت زعامة قريش بالتحالف مع اليهود جيش الأحزاب ، و زحفت إلى المدينة المنورة عاصمة النبي ، و فشلت الأحزاب و فوجئت قريش و قيادة الشرك بجند الله يدخل مكة عاصمة الشرك ، و ركعت زعامة مكة و اضطرت للدخول في الإسلام . و بركوعها ركع كل العرب و دانت الجزيرة لدولة النبي و أخذ العرب يدخلون في دين الله أفواجا .
ط ـ النبوة الهاشمية قدر لا مفر منه
رفضت بطون قريش بزعامتها الأموية الدين المحمدي ونبوة محمد الهاشمي بكل أصناف الرفض و ألوانه ، و قاومت بكل فنون المقاومة ، لا وفاء للأصنام ، و لكنها تكره أن يأتي الدين عن طريق هاشمي ، وتكره أن تكون للهاشميين القيادة ، وأن تهتز الصيغة السياسية ، و أخيرا فوجئ أبو سفيان بجند الله قرب مكة ، و يوقفه العباس فيرى جند الله ، فيدخل الرعب في قلبه و ينتزع منه فتيل المقاومة و يفصح قائد الحزب عن حقيقة تصوراته لدعوة محمد فيقول : ما رأيت ملكا مثل هذا ، لا ملك كسرى و لا ملك قيصر و لا ملك بني الأصفر 9 . و يجره العباس إلى محمد ( صلى الله عليه و آله و سلم ) فيقول : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ؟ فيقول أبو سفيان :
لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لما أغنى عني شيئا . قال النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ . قال أبو سفيان : أما والله فإن في النفس حتى الآن منها شيء . صاح العباس : ويحك يا أبا سفيان أسلم و اشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك ، هنا فقط بعد ذكر ضرب العنق و بعد الإحاطة و ضعف الحيلة أسلم لينجو بنفسه . و دهش أبو سفيان و هو ينظر للنبي فقال في نفسه : ليت شعري بأي شيء غلبني ؟ فأوحى الله إلى نبيه بما في صدر أبي سفيان ، فقال له الرسول : غلبتك بالله 9 .
و أدركت بطون قريش أن النبوة الهاشمية قدر لا مفر منه و لا محيد عنه ، و لا علاقة لها باختيارها ، و لو كان لها أي دور بهذا الاختيار لما قبلت أبدا أن يكون النبي من بني هاشم ، و النبوة ظاهرة لن تتكرر ، و أنه لن يلحق أي بطن من بطون قريش ببني هاشم فقد سبقوا تماما ، و أدركت بطون قريش أن صيغتها السياسية قد اهتزت و نسفت تماما و أضمرت العمل على وقف ما تعتبره زحفا هاشميا للجمع بين النبوة و الملك و حيازة الشرف كله .
أكثر البطون اندفاعا لوقف ما يسمى بالزحف الهاشمي
كل بطون قريش مجمعة على أن النبوة الهاشمية قد هزت هزا عنيفا الصيغة السياسية التي كانت قائمة على اقتسام مناصب الشرف بين القبائل المكية . و كل البطون رفضت هذه النبوة الهاشمية باستثناء بني المطلب بن عبد مناف حيث وقفوا مع الهاشميين . لكن أكثر البطون رفضا و اندفاعا لوقف الزحف الهاشمي و الحيلولة بين جمع الهاشميين الملك و النبوة هم بنو أمية و ذلك لعدة أسباب :
1 ـ ماض طويل من الشحناء و العداوة و الحسد لبني هاشم حتى قبل الإسلام .
2 ـ بسبب النبوة الهاشمية فقد الأمويون القيادة .
3 ـ الهاشميون قتلوا سادات بني أمية فعتبة و الوليد و شيبة قتلهم حمزة و علي و عبيد الله ، فالأمويون لا يكرهون الهاشميين فحسب بل يحقدون عليهم . و هند أم معاوية و زوجة أبي سفيان عكست مقدار هذا الحقد . فهي لم تكتف بقتل حمزة ، إنما مثلت بجثمانه الطاهر . و لكن مع انتصار النبوة و شمول نور الإسلام و تأخر الأمويين عن دخوله ، و ذكريات باعهم الطويلة في محاربته ، فإنه يتعذر عليهم الجهر و المناداة علنا بمنع الهاشميين من أن يجمعوا مع النبوة الملك .
ي ـ التيار الغلاب
لقد تحولت مقولة لا ينبغي أن يجمع الهاشميون النبوة مع الملك إلى تيار غلاب و لكنه ساكن و مستقر في النفوس و ملجوم بوجوده ( صلى الله عليه و آله ) و بالشرعية و بوحدة الصحابة الصادقين تحت قيادته . فلو فقد عنصر من هذه العناصر الثلاثة فستهتز الشرعية ، و سيتحول الصحابة الصادقون إلى شعرة بيضاء في جلد ثور أسود ـ على حد تعبير معاوية ـ و سيأخذ الأمر من يغلب .
ك ـ القرابة الطاهرة الأساس الشرعي للخلافة الراشدة
عندما دخل المهاجرون الثلاثة إلى سقيفة بني ساعدة احتجوا بما يلي :
قال أبو بكر : ” نحن عشيرة رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ، و أنتم وزراؤه ، و وزراؤنا في الدين ” و قال عمر : ” لا يجتمع سيفان في غمد واحد ، والله لا ترضى العرب أن تؤمركم و نبيها من غيركم ، و لكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم . . . لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة و السلطان المبين ، من ينازعنا سلطان محمد و ميراثه و نحن أولياؤه و عشيرته
إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة ” 10 .
قالت الأنصار كلها : لا نبايع إلا عليا ، و علي غائب . قال بعض الأنصار : لا نبايع إلا عليا 11 .
و سريعا ، أبرم الأمر للصديق رضي الله عنه و دعي علي لمبايعة أبي بكر فقال علي : أنا أحق بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم و أنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار و احتججتم عليهم بالقرابة من النبي ( صلى الله عليه و آله ) و تأخذونه منا غصبا أهل البيت ؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم فأعطوكم المقادة و سلموا إليكم الأمارة ، و أنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول الله حيا و ميتا . . . . . الخ .
ل ـ الانقلاب و انفلات التيار الغلاب
و عمر على فراش الموت يتفكر بمستقبل أمة محمد ، و يقلب الأمر على وجوهه المختلفة قال : ” لو أدركت أبا عبيدة باقيا استخلفته و وليته ، و لو أدركت معاذ بن جبل استخلفته و لو أدركت خالد بن الوليد لوليته و لو أدركت سالم مولى أبي حذيفة وليته . . . . . “
و سالم من الموالي و لا يعرف له نسب في العرب ، و معاذ من الأنصار و يوم السقيفة لم يكن جائزا تولية الأنصار ، و خالد من بني مخزوم و من الطبقة العاشرة من طبقات الصحابة حيث هاجر في الفترة الواقعة بين صلح الحديبية و فتح مكة .
قال عمر لابن عباس أثناء خلافته : يا ابن عباس أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد ” ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ؟ قال ابن عباس : فكرهت أن أجيبه ، فقلت :
إن لم أكن أدري فإن أمير المؤمنين يدري فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة و الخلافة ، فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا فاختارت قريش لأنفسها فأصابت و وفقت قال : فقلت : يا أمير المؤمنين إن تأذن لي في الكلام و تحط عني الغضب تكلمت ، قال : تكلم . قال ابن عباس فقلت : أما قولك يا أمير المؤمنين : اختارت لأنفسها فأصابت و وفقت فلو أن قريشا اختارت لأنفسها من حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود و لا محسود ، و أما قولك : إنهم أبوا أن تكون لنا النبوة و الخلافة فإن الله عز و جل وصف قوما بالكراهية فقال : ( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ) 47 : 9 . فقال عمر : هيهات يا ابن العباس قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرك عليها فتزيل منزلتك مني فقلت : يا أمير المؤمنين فإن كان حقا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، و إن كان باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه . فقال عمر :
بلغني أنك تقول : صرفوها عنا حسدا و بغيا و ظلما قال ابن عباس : فقلت : أما قولك يا أمير المؤمنين ظلما فقد تبين للجاهل و الحليم ، و أما قولك حسدا فإن آدم حسد و نحن ولده المحسودون . فقال عمر : هيهات هيهات ، أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسدا لا يزول . قال : فقلت يا أمير المؤمنين مهلا لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا 12 .
و الواقعة التي يرويها المسعودي في كتابه ” مروج الذهب ” و التي جرت بين ابن عباس و بين الفاروق رضي الله عنهما ، تؤكد حدوث الانقلاب الفكري و انفلات التيار الغلاب الذي كان ساكنا في النفوس و ملجوما أثناء حياته ( صلى الله عليه و آله ) و قبل أن تتأسس دولة الخلافة الراشدة . و سأورد النص الحرفي لهذه الواقعة .
النص الحرفي للقصة
ذكر عبد الله بن عباس أن عمر أرسل إليه فقال : يا ابن عباس إن عامل حمص قد هلك و كان من أهل الخير ، و أهل الخير قليل ، و قد رجوت أن تكون منهم و في نفسي منك شيء و أعياني ذلك فما رأيك في العمل ؟ قال ابن عباس : لن أعمل حتى تخبرني بالذي في نفسك . قال عمر : و ما تريد إلى ذلك ؟ قال ابن عباس : أريده ، فإن كان شيئا أخاف منه على نفسي خشيت منه عليها الذي خشيت ، و إن كنت بريئا من مثله علمت أني لست من أهله ، فقبلت عملك هنالك فإني قلما رأيتك طلبت شيئا إلا عاجلته .
فقال : يا ابن عباس ، إني خشيت أن يأتي علي الذي هو آت ( يعني موت عمر ) و أنت في عملك فتقول هلم إلينا ، و لا هلم إليكم دون غيركم ، إني رأيت رسول الله استعمل الناس و ترككم . قال : والله قد رأيت من ذلك فلم تره فعل ذلك ؟
قال عمر : والله ما أدري أضمن بكم عن العمل فأهل ذلك أنتم ، أم خشي أن تبايعوا بمنزلتكم منه فيقع العتاب و لا بد من عتاب ، و قد فرغت لك من ذلك فما رأيك ؟ قال ابن عباس : أرى ألا أعمل لك . قال : ولم ؟ قلت : إن عملت لك و في نفسك ما فيها لم أبرح قذى في عينك ، قال : فأشر علي . قلت : إني أرى أن تستعمل صحيحا منك صحيحا لك 13 .
من فرط حرصه على مصلحة المسلمين يريد حتى بعد موته أن يتأكد بأن الهاشميين لن يسلطوا على رقاب الناس ، و لن يحكموا أمة محمد .
و بالإجمال تحولت هذه المقولة إلى تيار غلاب أفصح عن ذاته و فرض نفسه كقناعة عامة تؤمن بها السلطة و آمنت بها الأكثرية الساحقة على اعتبار أن هذه المقولة هي الوسيلة المثلى لمنع الاجحاف الهاشمي و إنصاف البطون القريشية لتتداول الخلافة في ما بينها كرد على النبوة الهاشمية أو كتعويض لها عن الإختصاص الهاشمي بالنبوة و أخيرا على اعتبار أن هذه المقولة مظهر من مظاهر هداية قريش و توفيقها ، على حد تعبير الفاروق .
و باستمالة أبي سفيان إلى جانب السلطة ، و ترك ما بيده من الصدقات التي جمعها و تولية ابنه يزيد قائدا على جيش الشام و تعيين ابنه الثاني معاوية قائدا من قواد يزيد ثم خلافته لأخيه يزيد كوال على الشام بعد وفاته ، كل هذا كون حلفا حقيقيا بين السلطة و بين الطلقاء لهم قناعة سياسية مشتركة تقوم على عدم تمكين الهاشميين من أن يجمعوا مع النبوة الخلافة ، و بهذا التحالف قطع دابر المعارضة و حجمت و تم تكريس مبدأ عدم جواز جمع الهاشميين للنبوة و الخلافة معا .
و هكذا فقدت العترة الطاهرة حتى نصيبها من امتيازات الشرف التي كانت مخصصة لها بموجب الصيغة السياسية التي سادت مكة قبل الإسلام ، و عزلت تماما و حجمت . أنظر إلى قول الفاروق مخاطبا العباس و بني هاشم : ” أي والله و أخرى إنا لم نأتكم حاجة منا إليكم ، و لكن كرهنا أن يكون الطعن منكم فيما اجتمع عليه العامة فيتفاقم الخطب بكم و بهم ” . و بلغت الاستهانة بهم حدا أنه حتى عبد الله بن الزبير هم بأن يحرق بيوت الهاشميين على من فيها لولا أن تدخل أهل الخير .
و معنى ذلك أن أي قبيلة من القبائل التي حاصرت الهاشميين في شعاب أبي طالب ثلاث سنين و أرسلت مندوبها للاشتراك بقتل النبي هي أسعد حظا من الهاشميين ، و الفرد منها أولى و أحق برئاسة الدولة من أي هاشمي . فالرئاسة و الولاية حلال لكل الناس و حرام على أي هاشمي من الناحية العملية ، كل ذلك من أجل عدم تمكين الهاشميين من الجمع بين النبوة و الخلافة ، و هل جزاء الاحسان إلا الاحسان ؟ .
م ـ التكييف الشرعي لمقولة لا ينبغي أن يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة
هذه مقولة جاهلية من كل الوجوه ، و تتعارض معارضة تامة مع النصوص الشرعية و مع النظم السياسية المشتقة من العقائد الإلهية . فداود النبي ، ورثه ابنه سليمان فجمع كل واحد منهم النبوة و الخلافة معا ، و أوتي الأنبياء و ذرياتهم الحكم و النبوة و الكتاب ، ولم يعترض عليهم أحد لأن الفصل بيد الله و الخلافة منصب ديني و بالدرجة الأولى دنيوي و الخليفة قائم مقام النبي ، و من مهام النبوة البيان و الحكم و عملية البيان و الحكم عملية فنية تماما و اختصاصا .
و من هو على علم بالتقاطيع الأساسية للنظام السياسي الإسلامي يتبين له بأقل جهد ممكن ، أن هذه المقولة نسفت نسفا تاما النظام السياسي الإسلامي كنظام إلهي و فرغته تماما من مضمونه و حولته من الناحية العملية إلى نظام وضعي لا يختلف عن الأنظمة الوضعية إلا بالشكل ( سياسيا ) بل و الأهم من ذلك أن رئاسة الدولة صارت غنيمة و طعمة يأكلها الغالب و الغالب وحده ، وبعد أن يغلب يجلس على كرسي النبي ( أو حصيرته ) و يلبس جبة الإسلام فإذا هو خليفة ، فإن غلب الطليق الذي قاتل الإسلام بكل فنون القتال حتى أحيط به فأسلم رغبة أو رهبة فإنه يتأمر على المهاجر الذي قاتل مع الإسلام كل معاركه . و يصبح ولي الله المخصص شرعا لرئاسة الدولة الإسلامية مجرد مواطن عادي من رعاياه ، يتكلم الجاهل ، و يسكت العالم ، يتقدم المحاصر ـ بالكسر ـ و يتأخر المحاصر ـ بالفتح ـ كل هذا من أجل إنصاف القبائل الأخرى و منع الهاشميين من أن يجمعوا مع النبوة الخلافة أو بتعبير أدق من أجل العودة عمليا إلى الصيغة السياسية التي كانت سائدة قبل الإسلام ، و لكن بثوبها الجديد . فالصيغة السياسية الجاهلية كانت تقوم على اقتسام مناصب الشرف بحيث تأخذ كل قبيلة نصيبها من هذه المناصب ، و بتطبيق المقولة أصبحت القبائل تتداول رئاسة الدولة و بنفس الوقت تتشارك بالشرف و المناصب أثناء عملية التداول ، أما الأحكام الإلهية المتعلقة بالنظام السياسي الإسلامي فهي موضوع آخر ، فهي لا تستجيب للصيغة السياسية التي وجدت قبل الإسلام في مكة .
ن ـ النتائج التي ترتبت على تكريس مبدأ عدم
جواز جمع الهاشميين للنبوة و الخلافة
النتيجة الأولى : زوال الفوارق نهائيا بين الذين قاتلوا الإسلام بكل فنون القتال حتى أحيط بهم فأسلموا ، و بين أولئك الذين قاتلوا مع الإسلام كل معاركه حتى أعز الله دينه و نصر نبيه و أقام دولة الإيمان . فالكل مسلم لا فرق من الناحية السياسية بين هذا أو ذاك فكلهم مسلم و كلهم في الجنة ، فالهاشمي الذي حاصرته قريش ثلاث سنين هو تماما مثل أي شخص كان على الشرك و اشترك بالحصار ، ألم يسلم ذلك الشخص ؟ أليس الإسلام يجب ما قبله ؟ فلو أن حمزة سيد الشهداء رجع إلى الدنيا فهو تماما كوحشي من الناحية العملية السياسية ، فالقاتل كالمقتول تماما ، و المهاجر كالطليق ، و الجاهل كالعالم و لو غلب الجاهل لكان لزاما على العالم أن يطيعه سياسيا ، و أن يتبعه و ينقاد إليه ، بل على العكس ، فلو كان هنالك هاشمي عالم كعلي بن أبي طالب ، و كان هنالك أنصاري بدرجته أو أقل علما منه فالأنصاري العالم مقدم على الهاشمي . أنظر إلى قول الفاروق رضي الله عنه بوجود علي بن أبي طالب و هو يقول : لو أدركت معاذ بن جبل لوليته ، ولو أدركت خالد بن الوليد لوليته . خالد قاتل الإسلام في أحد و في أكثر من وقعة ، و علي قاتل مع الإسلام في كل مواقعه ، و مع هذا فالأولى هو خالد . حتى أن الفاروق لو أدرك سالم مولى أبي حذيفة و هو من الموالي و لا يعرف له نسب في العرب لولاه الخلافة و أمره على علي بن أبي طالب مع أن عليا هو مولى عمر و مولى أبي عبيدة ومولى كل مؤمن و مؤمنة باعتراف الفاروق و إقراره .
النتيجة الثانية : زرع بذرة الخلاف و نموها
طالما أنه لا فرق بين المهاجر و الطليق ، و لا بين القاتل و المقتول ، و لا بين المحاصر ـ بالفتح ـ و المحاصر ـ بالكسر ـ و من حق كل واحد أن يفهم الإسلام و أن يستقطب حول هذا الفهم ، فمعنى ذلك وجود مرجعيات متعددة و وجود مفاهيم متعددة و قناعات متعددة و كل فريق يزعم أنه على الحق . ففريق يذهب إلى الشمال و آخر إلى اليمين ، و ثالث إلى الشرق و رابع إلى الغرب و خامس إلى الشمال بزاوية كذا . . . الخ . و لا يوجد مرجع يعتبر كلامه حجة يقينية شرعية يقر بها الجميع . بهذا الجو زرعت بذرة الخلاف و نمت بأرض خصبة . فلو قال علي ( عليه السلام ) كلاما و قال واحد من الطلقاء كلاما آخر فالذي يزن القولين هو السامع ، لأنه عمليا لا فرق بين علي و أي طليق ، فكلاهما في الجنة و كلاهما مسلم فهم صحابة ، أي لا يقرون عمليا بأي ترجيح شرعي لقول علي ، فكيف يرجح بين المتساوين و كيف يفرق بين المتعادلين تماما ؟ فهذه قطعة ذهبية تتساوى حجما و شكلا و مقدارا و قيمة مع قطعة أخرى فخذ ما شئت و إياك و التمييز . فالوفاق الحاصل وفاق ظاهري و تحت هذا الظاهر ينمو الخلاف و يشب ثم يتحول إلى سرطان عاجلا أم آجلا ، يمزق وحدة الأمة و يخرجها من إطار الشرعية إلى الغامض و المجهول .
النتيجة الثالثة : رئاسة الدولة حق للجميع إلا لهاشمي
بمعنى أنه لا شيء على الاطلاق يمنع أي مسلم من أن يتولى رئاسة الدولة الإسلامية شريطة أن يتمكن من الوصول إليها و الاستحواذ عليها ، و انقياد الجميع له و تسليمهم له بالغلبة و السلطان شريطة أن لا يكون من بني هاشم لأنهم اختصوا بالنبوة ، و النبوة تكفيهم .
هذا الحق حول الطمع برئاسة الدولة إلى كابوس بغيض و إلى آلية مزعجة سلبت الأمة قرارها و استقرارها ، و حولتها إلى حقل تجارب لكل الطامعين بالرئاسة ، و عطلت نظامها السياسي الشرعي .
أما من أي قبيلة هذا الرئيس ؟ ما هو علمه ؟ ما هو دينه ؟ ما هي سابقته ؟ من الذين سيحكمهم ؟ تلك أمور ثانوية لا قيمة لها من الناحية العملية و لا يعول عليها لأن الغالب غالب و الحصول على رضوان المغلوب فن قائم بذاته .
ما الذي يمنع يزيد بن معاوية و هو المشهور بعهره و فجوره من أن يكون رئيسا للدولة الإسلامية لأنه ابن معاوية الرئيس ، و من الذي يمنع الحسين بن علي بن أبي طالب سيد شباب أهل الجنة في الجنة بالنص و ريحانة النبي من هذه الأمة بالنص و الإمام الشرعي لهذه الأمة بالنص ، فما الذي يمنعه من أن يكون أحد رعايا يزيد و أحد الذين يتأمر عليهم ؟ فكلاهما مسلم و كلاهما في الجنة . يزيد القاتل المجرم في الجنة و الحسين الإمام المقتول في الجنة فكلاهما صحابة!!! و من ينقد هذا الرأي فهو زنديق لا يواكل و لا يشارب و لا يصلى عليه .
النتيجة الرابعة : اختلاط الأوراق
اختلط الحابل بالنابل و الحق بالباطل و الخير بالشر و العلقم بالشهد ، و أصبح المتأخر كالمتقدم و اللاحق كالسابق و المجاهد كالقاعد و القاتل كالمقتول و المحاصر كالمحاصر . و من وقف مع الإسلام تماما مثل من وقف ضده ، و من قاتل الإسلام تماما كمن قاتل معه . لقد دخل الجميع بدين الله و شاهد النبي أو شاهدوه ، فكلهم صحابة و كلهم في الجنة .
و ضاع الصادقون و تفرقوا في الأمصار و أصبحوا ـ على حد تعبير معاوية ـ كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود ، و انهار النظام السياسي الإسلامي و تأخر المتقدمون و تقدم المتأخرون ، و لله عاقبة الأمور 14 .
- 1. راجع مروج الذهب للمسعودي : 2 / 291 .
- 2. راجع السيرة الحلبية : 1 / 3 ـ 4 لعلي برهان الدين الحلبي و راجع الجامع للأصول في أحاديث الرسول لعلي ناصيف مجلد 3 / 419 و ما فوق و راجع شرح النهج لابن أبي الحديد : 2 / 156 الخطبة 185 .
- 3. راجع الطبقات : 1 / 75 و راجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام : 93 .
- 4. راجع تاريخ الطبري : 2 / 180 و السيرة الحلبية : 1 / 5 و الطبقات لابن سعد : 1 / 76 .
- 5. راجع السيرة الحلبية : 1 / 15 و كتابنا النظام السياسي في الإسلام : 170 ـ 172 .
- 6. السيرة الحلبية : 1 / 80 .
- 7. راجع الطبقات لابن سعد : 1 / 202 ـ 203 .
- 8. راجع على سبيل المثال السيرة الحلبية : 1 / 80 و 1 / 332 .
- 9. a. b. السيرة الحلبية : 3 / 79 و ما فوق و راجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام .
- 10. راجع الإمامة و السياسية : 6 ـ 7 ـ 8 .
- 11. تاريخ الطبري : 3 / 198 و راجع شرح النهج لابن أبي الحديد : 2 / 266 .
- 12. راجع الكامل في التاريخ لابن الأثير : 3 / 24 و راجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد : 3 / 107 أخرجه الإمام أحمد أبو الفضل بن أبي الطاهر في تاريخ بغداد راجع مجلد 2 / 97 من شرح النهج و راجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام : 141
- 13. الإمامة و السياسة : 15 .
- 14. كتاب نظرية عدالة الصحابة : 84 ـ 96 .