المستقبل ذلك المجهول الذي لا نعلمه أو الزمن الذي نحن ماضون له ومع الأيام يصبح حالاً ومن ثم ماضٍ تبقى تبعاته وتؤثر فيما يليه، والسؤال هنا هل بإمكان الإنسان أن يُبصر المستقبل ويعرف ما ينتظره؟ وهل له يد في صنع ذلك الحال؟ والجواب استشراف المستقبل يمكن بقوى البصيرة لا البصر وأن من نِعم الله على الإنسان أن مكّنه من التفكّر والتخيّل وربط النتائج بمسبباتها لكي يستطيع أن يصنع الغد الأفضل، ومع هذا تفضّل عليه أيضا بنعمة رسم الصراط وبيان لمن تكون العاقبة والمستقبل المشرق كالشمس ومن مستقبله ظلمة حالكة لا نور فيها.
ولعل القصة القرآنية ومن فوائدها الجمة هي بيان أثر المقدمات في صنع الخاتمة وأن الفاسد من تلك المقدمات يؤول بأصحابه إلى الحسرة والخذلان على نقيض الذي تكون مقدماته حسنة طيبة فالنهاية ستكون أطيب وأجمل فالمعطي هو الله، فسنن القرآن تفتح لنا نافذةً يمكن لأهل البصيرة أن يروا منها المستقبل بوضوح.
وكمثالين على ما تقدم سنأخذ أولاً قصة أصحاب الجنة الواردة في سورة القلم 18- 33 يقول المولى تبارك وتعالى: }إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ| (القلم 18-17) وباختصار شديد أن أصحاب الجنة -البستان- إخوة ورثوا بستانًا ذا خير وفير عن أبيهم الصالح الذي كان لا يدخل محصول ذلك البستان قبل أن يُعطي حق الله والفقراء وأن الله كان يضاعف له العطاء عاماً بعد آخر لكن الأولاد ونتيجة طمعهم قرروا أن لا يعطوا من المحصول شيئًا وأن يحصدوه باكراً قبل قيام الناس }فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ| (القلم 21-24) وأن الله تعالى وكجزاء لتلك المقدمة الفاسدة وهذا القرار السيء أرسل النار على ذلك المحصول والتهمته كله ولم تُبقِ منه شيئًا }فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ|(القلم20-19) تحولت حجارة ومن شدة ذهولهم مما رأوا اعتقدوا أنهم ضلوا الطريق وأن هذه ليست بستانهم }فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ| (القلم 26-27) نعم. هم ضلوا طريق الحق واتبعوا الطمع والجشع فكانت تلك المقدمة سببًا في هذه النتيجة فأورثتهم الحسرة والعذاب والهم والحزن، ونحن ينبغي أن ننظر بإمعان أين نقف وما شكل مقدمة اليوم وأن نحذر من أن تورثنا حسرة وندامة وأن لا ننسَ أن الخسارة المادية وما يُصيبنا في الدنيا لهو هين يسير أمام بلاء الآخرة وعظيم ما فيها.
والآن دعونا نسافر مع المثال الثاني قصة في غاية النبل والخير ناصعة البياض تشرح قلب قارئها للعطاء تملأه نوراً ورحمة وتعمدت أن تكون من جنس القصة الأولى فهي أيضاً تتحدث عن الصدقة وأثرها في البركة والنجاة يوم الحسرة ورقي المراتب غير أنها تعاكسها بالاتجاه فهي قصة عطاء لبيت سجيتهم الكرم فهم ترجمان الوحي ومهبطه قال تعالى }وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا| (الإنسان 8-12)
هذه الآيات المباركة وبعد بحثي عن سبب نزولها، نزلت في أمير المؤمنين وسيدة نساء العالمين والحسنين (ع ) الذين وعلى الرغم من صيامهم وجوعهم آثروا الفقير والمسكين والأسير المشرك على أنفسهم ولم يأملوا مدحة من أحد، غير مرضاة الله عز وجل.
ونيل أعالي المراتب برفقة الحبيب المصطفىa وضربوا للعالم مثال نبل في غاية الجمال حيث تصدقوا بكل طعامهم وبقوا جياعًا وصنعوا هذا الأمر بقلوب فرحة مؤمنة وهذا طبعهم جميعاً (ع) تلك المقدمة أفضت إلى هذه النهاية وهل هنالك أعظم من ثناء الله عز وجل هم عرفوا الخواتيم حق المعرفة وتعلّقت قلوبُهم بالمستقبل الباقي وهذا بيان بسيط لما للمقدمة من أثر في صنع الخاتمة وتحديد ماهيتها.
بقي أن نشير إلى أمر مهم وهو أن قصص القرآن وما بيّنه من سنن هي كنوز تستوجب منا التدقيق والتفتيش والتأمل الطويل والإفادة منها وجعلها القائد والسبيل للسعادة في الدارين والفوز بالجنة يوم الورود.
علي رحيم المياحي