(قال الأستاذ الأزهري الشيخ عبد المتعال الصعيدي : (استطاع نصير الدين الطوسي أن يهزم بالعقل والعلم الدولة الطاغية الباغية ، وأن تنجح خططه في تحويل المغول من وثنيين إلى مسلمين) 1 .
وقال السيد الأمين في أعيان الشيعة: 9 / 417 : (استطاع بتأثيره على مزاج هولاكو أن يستحوذ تدريجياً على عقله ، وأن يروض شارب الدماء فيوجهه إلى إصلاح الأمور الإجتماعية والثقافية والفنية ، فأدى الأمر إلى أن يوفد هولاكو فخر الدين لقمان بن عبد الله المراغي إلى البلاد العربية وغيرها ليحثَّ العلماء الذين فروا بأنفسهم من الحملة المغولية فلجؤوا إلى إربل والموصل والجزيرة والشام ويشوِّقهم إلى العودة ، وأن يدعو علماء تلك البلاد أيضاً إلى الإقامة في مراغة) .
وقال السيد الأمين في : الإسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي / 294 : (ولكن الذي استطاع أن “يروض شارب الدماء” وأن يستغل الجبار الطاغية فيقيم تحت سمعه وبصره مكتبة الإسلام ويشيِّد مدرسة الإسلام ، ويقيم مجمع علماء الإسلام ، سيستطيع بإخلاصه وإيمانه الذين لا حد لهما وبعقله الكبير وفكره المنظم وتدبيره الحازم ، سيستطيع أن يُشرب قلوب المغول الميل إلى الإسلام ثم اعتناق الإسلام . فأعد لهذه المرحلة الحاسمة جماعات واعية تحسن التخطيط والتنفيذ ، كان في الطليعة منها : آل الجويني الذين نشأوا على حب أهل البيت عليهم السلام وما يبعثه هذا الحب من إخلاص وحمية ونضال وتفانٍ في سبيل الإسلام . ثم في النهاية أسلم المغول على يدي تلاميذ الطوسي ونجح مخطط الطوسي نجاحه الأكبر) ! انتهى .
ويظهر من النص التالي أن تأثير نصير الدين قدس سره على الطاغية هولاكو جعله يتقبل التلفظ بالشهادتين حتى لو كان شكلياً من أجل الزواج بامرأة !
قال الكتبي في فوات الوفيات: 2 / 580 : (قال الظهير الكازروني : حكى النجم أحمد بن البواب النقاش نزيل مراغة قال : عزم هولاكو على زواج بنت ملك الكرج فأبت حتى يسلم ، فقال : عرفوني ما أقول ؟ فعرضوا عليه الشهادتين فأقر بهما وشهد عليه بذلك خواجا نصير الدين الطوسي وفخر الدين المنجم ، فلما بلغها ذلك أجابت فحضر القاضي فخر الدين الخلاطي ، وتوكل لها النصير الطوسي ولهولاكو الفخر المنجم ، وعقدوا العقد باسم ماما خاتون بنت الملك داود إيواني على ثلاثين ألف دينار ! قال ابن البواب : وأنا كتبت الكتاب في ثوب أطلس أبيض) . كما عدَّ في الذريعة : 24 / 181، من كتب نصير الدين قدس سره كتاب: (نصيحة أبآقا خان بن هولاكو خان ، كتبه الخواجة نصير الطوسي لأبآقا خان بعد موت أبيه وإبائه عن تحمل مسؤولية السلطنة ، وَرَدَ بتمامه في روضة الصفا) . انتهى . وهو يكشف عن تأثير المرجع الطوسي قدس سره على أولاد هولاكو أيضاً .
وذكر الذهبي في تاريخه : 47 / 454 ، و : 49 / 183 ، و : 52 / 37 ، والتبريزي في مرآة الكتب / 142 ، إسلام قازان خان في أواخر أيامه على يد إبراهيم بن سعد الدين الحموئي الجويني ، وهو تلميذ نصير الدين الطوسي ، ومؤلف كتاب : فرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين عليهم السلام .
كما أورد الذهبي في تاريخه : 52 / 75 ، نسخة كتاب لقازان ، يعلن فيها إسلامه ويبرر هجومه على بلاد الشام ومصر ، جاء فيه : ( بقوة الله تعالى : ليعلم أمراء التومان والألف والمائة وعموم عساكرنا من المغول والتازيكا والأرمن والكرج وغيرهم ممن هو داخل تحت طاعتنا ، أن الله لما نور قلوبنا بنور الإسلام وهدانا إلى ملة النبي صلى الله عليه و آله ﴿ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ 2 . . . ولما سمعنا أن حكام مصر والشام خارجون عن طرائق الدين ، غير متمسكين بأحكام الإسلام ناقضون لعهودهم . . . الخ . ) .
وذكر في / 80 ، احتلال قازان للشام والخطبة له في مسجدها .
كما وصف الصفدي في الوافي : 20 / 126 ، دخول قازان مدرسة المستنصرية التي كانت مركز التعصب ضد الشيعة فقال : ( فلما أتى غازان المستنصرية احتفل الناس له واجتمع بالمدرسة أعيان بغداد وأكبرها من القضاة والعلماء والعظماء ، وفيهم الشيخ زين الدين الآمدي لتلقي غازان . . . فحين وضع يده في يده نهض له قائماً وقبل يده وعظم ملتقاه والإحتفال به وأعظم الدعاء له باللسان المغلى ثم بالتركي ثم الفارسي ثم بالرومي ثم بالعربي ورفع به صوته ورفع به صوته إعلاماً للناس فعجب السلطان من فطنته وذكائه وحدة ذهنه مع ضرره ( أي كان أعمى ) ثم إن السلطان خلع عليه في الحال ووهبه مالاً ورسم له بمرتب في كل شهر ثلاثمائة درهم ) . انتهى .
وقال السيد الأمين في أعيان الشيعة: 2 / 355 : (وملك منهم في بلاد الإسلام واحد وعشرون ملكاً وكانت مدة ملكهم 168سنة وشهرين من سنة 603 إلى سنة 771 . . . وأول من أسلم منهم السلطان أحمد خان بن هولاكو ، ثم غازان خان بن أرغون بن أبقا بن هولاكو ، وأسلم باسلامه ثمانون ألفاً من المغول . ثم أخوه محمد خدابنده الجايتو والد المترجم ابن أرغون ، وتشيع على يد العلامة الحلي رحمه الله) .
وفي فوات الوفيات: 2 / 482 : (غازان المُغُلي محمود بن أرغون المغلي الجنكزخاني صاحب العراقين وخراسان وفارس وأذربيجان والروم ، كان شاباً عاقلاً شجاعاً مهيباً مليح الشكل ، ملك سنة ثلاث وتسعين وستمائة فحسَّن له نائبه توزون الإسلام ، فأسلم سنة أربع وتسعين ، وفشا الإسلام في التتار) . انتهى .
وقال الصفدي في الوافي: 1 / 147 : (وكان النصير قد قدم من مراغة إلى بغداد ومعه جماعة كثيرة من تلامذته وأصحابه ، فأقام بها مدة أشهر ومات ، وخلف من الأولاد صدر الدين علي والأصيل حسن والفخر أحمد ، وولي صدر الدين علي بعد أبيه غالب مناصبه فلما مات ولي مناصبه أخوه الأصيل ، وقدم الشام مع غازان وحكم تلك الأيام في أوقاف دمشق ) .
وفي تراث كربلاء للسيد آل طعمة / 42 ، أن السلطان قازان حفر ثلاثة فروع لنهر الفرات لسقي أراضي كربلاء ، وسمي بالنهر الغازاني الأعلى والأسفل ) . ( وفي سنة ثمان وستون وستمائة توجه السلطان غازان إلى الحلة ، وقصد زيارة المشاهد الشريفة (النجف وكربلاء) وأمر للعلويين والمقيمين بمال كثير ، ثم أمر بحفر نهر من أعلى الحلة فحفر وسمي بالغازاني ، وتولى ذلك شمس الدين صواب الخادم سكورجي وغرس الدولة ) 3 .
أقول : مهما يكن إسلام قادة المغول وجنودهم سطحياً مخلوطاً برواسبهم الوثنية ، لكنه كان البداية حتى تحسن إسلام بعضهم مع الزمن ! ويبقى العمل الأهم تليين أذهانهم وقلوبهم للإسلام ، وهو ما قام به العالم العبقري نصير الدين الطوسي قدس سره وتلاميذه الأفذاذ خاصة آل الجويني والعلامة الحُلِّي ، كما سيأتي .
الذهبي يميل الى إسلام هولاكو !
قال الذهبي في تاريخه : 49 / 180 : (قال لي الظهير الكازروني : حكى لي النجم أحمد بن البواب النقاش نزيل مراغة قال : عزم هولاكو على زواج بنت ملك الكرج ، قالت : حتى تسلم . فقال : عرفوني ما أقول . فعرضوا عليه الشهادتين فأقر بهما وشهد عليه بذلك الخواجا نصير الطوسي وفخر الدين المنجم . فلما بلغها ذلك أجابت ، فحضر القاضي فخر الدين الخلاطي فتوكل لها النصير وللسلطان الفخر المنجم ، وعقدوا العقد باسم تامار خاتون بنت الملك داود بن إيواني على ثلاثين ألف دينار . قال ابن البواب : وأنا كتبت الكتاب في ثوب أطلس أبيض ، وعجبت من إسلامه .
قلت : إن صح هذا فلعله قالها بفمه لعدم تقيده بدين ، ولم يدخل الإسلام إلى قلبه والله أعلم . قال قطب الدين : كان هلاكه بعلة الصرع فإنه حصل له الصرع منذ قتل الملك الكامل صاحب ميافارقين فكان يعتريه في اليوم المرة والمرتين . ولما عاد من كسرة بركة له أقام يجمع العساكر وعزم على العود لقتال بركة ، فزاد به الصرع ومرض نحواً من شهرين وهلك فأخفوا موته وصبروه وجعلوه في تابوت ثم أظهروا موته ، وكان ابنه أبغا غائباً فطلبوه ثم ملكوه . وهلك هولاكو وله ستون سنة أو نحوها وقد أباد أمماً لا يحصيهم إلا الله . ومات في هذه السنة قيل في سابع ربيع الآخر سنة ثلاث وستين ببلد مراغه ونقل إلى قلعة تلا وبنوا عليه قبة ، وخلف من الأولاد سبعة عشر ابناً سوى البنات وهم : أبغا ، وأشموط ، وتمشين ، وبكشي ، وكان بكشي فاتكاً جباراً ، وأجاي ، ويستز ، ومنكوتمر الذي التقى هو والملك المنصور على حمص وانهزم جريحاً ، وباكودر ، وأرغون ونغابي دمر ، والملك أحمد . قلت : وكان القاءان الكبير قد جعل أخاه هولاكو نائباً على خراسان وأذربيجان فأخذ العراق والشام وغير ذلك ، واستقل بالأمر مع الإنقياد للقاءان والطاعة له والبُرُد واصلة إليه منه في الأوقات ، وتفاصيل الأمور لم تبلغنا كما ينبغي ، وقد جمع صاحب الديوان كتاباً في إخبارهم في مجلدتين . ووالد هولاكو هو تولى خان الذي عمل معه السلطان جلال الدين مصافاً في سنة ثماني عشرة ، فنصر جلال الدين وقتل في الوقعة تولى إلى لعنة الله . وكان القاءان الأعظم في أيام هولاكو أخاه مونكوقا بن تولى بن جنكزخان ، فلما هلك جلس على التخت بعده أخوهما قبلاي فامتدت دولته وطالت أيامه ومات سنة خمس وتسعين بخان بالق أم بلاد الخطا وكرسي مملكة التتار .
وكانت دولة قبلاي نحواً من أربعين سنة ، في آخر أيامه أسلم قازان على يد شيخنا بدر الدين ابن حمويه الجويني . وقال الظهير الكازروني : عاش هولاكو نحو خمسين سنة ، وكان عارفاً بغوامض الأمور وتدبير الملك ، فاق على من تقدمه وكان يحب العلماء ويعظمهم ويشفق على رعيته ويأمر بالإحسان إليهم .
قلت : وهل يسع مؤرخاً في وسط بلاد سلطان عادل أو ظالم أو كافر ، إلا أن يثني عليه ويكذب فالله المستعان ، فلو أثني على هولاكو بكل لسان لاعترف المثني بأنه مات على ملة آبائه وبأنه سفك دم ألف ألف أو يزيدون ، فإن كان الله تعالى مع هذا وفقه للإسلام فياسعادته ، لكن حتى يصح ذلك ، والله أعلم) . انتهى .
نلاحظ أن الذهبي تأرجح في موقفه ، لكنه فتح باب احتمال إسلام هولاكو ! والسبب أن الظهير الكازروني مدحه له وأخبره أنه أسلم من أجل امرأة ! لكن الذهبي يريد تأييداً لكلام الكازروني ليحكم بإسلام هولاكو وسعادته ! حيث يغفر الله له جرائمه العريضة وسفكه لدماء مليون مسلم ، بتلفظه بالشهادتين ! وليت الذهبي يعامل من يخالفه في الرأي بهذا اللين الذي به عامل به هولاكو !
خطة نصير الدين الطوسي قدس سره لرد غزو المغول
اعتمد المرجع المحقق الطوسي قدس سره أسلوباً فريداً في رد الغزو المغولي والنهوض بالأمة ثقافياً وعمرانياً ، هو أسلوب العمل بنفسه على أهم الأصعدة ومع أعلى مراكز القرار ، وفي نفس الوقت العثور على الطاقات القابلة للنبوغ ، وتنميتها وإطلاقها في الأمة في كل المجالات النافعة ومن أي مذهب كانت ! وهذا يشبه عمل الأنبياء والأئمة عليهم السلام ! ولا عجب فمن تأمل عمله قدس سره ونمط تفكيره ، لا يستبعد أن يكون موجهاً من خاتم الأئمة صلوات الله عليه .
كان رحمه الله يركز نظره على الشخصيات النابغة ، فعندما عاد من زيارته للحلة سئل عما رأى فيها ؟ فقال : رأيت خِرِّيتاً ماهراً وعالماً إذا جاهد فاق ، يقصد المحقق الحلي ، والعلامة الحلي الذي كان عمره يومذاك بضع عشرة سنة !
وعندما وجد محمد الجويني وأولاده تبناهم ودعمهم عند هولاكو وحماهم من غضبه وبطشه ، حتى كانوا وزراءه وحكام العراق لأكثر من عشرين سنة فأعادوا عمرانه بأحسن مما كان في زمن الخلافة العباسية!
وعندما رأى ابن الفوطي غلاماً بيد المغول خلصه منهم وعلمه ووظفه !
وعندما رأى المشايخ آل الحموئي قوَّى موقعهم عند هولاكو وعند أولاده ، فكان إسلام شخصيات المغول على أيديهم !
وهكذا العديد العديد من الأطباء ، والمهندسين ، والفلكيين ، والسياسيين ، الذين اختارهم قدس سره واعتنى بهم ، وفتح لهم أبواب العلم والعمل !
وقد ذكروا له قدس سره تلاميذ ومعتمدين عديدين في العلوم والمجالات المختلفة ورووا أن قطب الدين الشيرازي محمود بن مسعود كان برأي ابن هولاكو خليفته في الطب ففي الدرر الكامنة : 2 / 118 : ( كان من كبار تلامذة النصير الطوسي وكان مبجلاً عند التتار وجيهاً متواضعاً حليماً ) . وقال في : 6 / 100 : ( محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي قطب الدين الشيرازي الشافعي العلامة ، ولد في شيراز سنة 634 وكان أبوه طبيباً فقرأ عليه وعلى عمه وعلى الزكي البركشائي والشمس الكتبي ، ورُتِّبَ طبيباً بالمرستان وهو شاب ، ثم سافر إلى النصير الطوسي فقرأ عليه الهيئة وبحث عليه الإشارات وبرع . قال له أبغا بن هلاوو : أنت أفضل تلامذة النصير وقد كبر فاجتهد أن لا يفوتك شئ من علومه ، فقال له : قد فعلت وما بقي لي به حاجة ، ثم دخل الروم فأكرمه صاحبها وولي قضاء سيواس وملطية وقدم الشام رسولاً من جهة أحمد ، ثم أكرمه أرغون ، وسكن تبريز وأقرأ بها العلوم العقلية وحدث بجامع الأصول . . . وكان كثير المخالطة للملوك متحرزاً . . . وكان دخله في العام ثلاثين ألفاً فكان لا يدخر منها شيئاً بل ينفقه على تلامذته . . . وكان غازان يعظمه ويعطيه ، وكان كثير الشفاعات . . . . قال الذهبي قيل كان في الإعتقاد على دين العجائز وكان يخضع للفقهاء . . . وتلاميذه يبالغون في تعظيمه ، ومات في 24 رمضان سنة 710 ) . ونحوه البدر الطالع : 2 / 299 ، والوافي : 12 / 36 ، وفيه : ( وكان وافر الجلالة عند التتار وله عليهم إدرارات جيدة تبلغ في الشهر ألفاً وخمسمائة درهم ) .
وفي النهاية : 13 / 350 ، أن السلطان أحمد بن هولاكو أرسله سنة 681 في وفد الى ملك مصر قلاوون : ( يطلب منه المصالحة وحقن الدماء فيما بينهم ، وجاء في الرسلية الشيخ قطب الدين الشيرازي أحد تلامذة النصير الطوسي ، فأجاب المنصور إلى ذلك ) . وفي النجوم الزاهرة : 9 / 213 : ( وتولى قضاء بلاد الروم ولم يباشر القضاء ولكن كانت نوابه تحكم في البلاد ، وكان معظماً عند ملوك التتار ، وكان من تلامذة النصير الطوسي ) .
وذكروا أن نصير الدين قدس سره اعتمد على أربعة حكماء في مرصد مراغة وجامعتها هم : ( فخر الدين الخلاطي ، وفخر الدين محمد بن عبد الملك المراغي ، ومؤيد الدين العرضي ، ونجم الدين القزويني ، وهم الذين اختارهم نصير الدين ، وأنفذ السلطان في طلبهم ) 4 .
وفي الوافي : 1 / 150 : ( قال شمس الدين الجزري : قال حسن بن أحمد الحكيم صاحبنا : سافرت إلى مراغة وتفرجت في هذا الرصد ، ومتوليه صدر الدين علي بن الخواجا نصير الدين الطوسي وكان شاباً فاضلاً في التنجيم والشعر بالفارسية ، وصادفت شمس الدين محمد بن المؤيد العرضي ، وشمس الدين الشرواني ، والشيخ كمال الدين الأيكي ، وحسام الدين الشامي ، فرأيت فيه من آلات الرصد شيئاً كثيراً منها ذات الحلق وهي خمس دوائر متخذة من نحاس : الأولى دائرة نصف النهار وهي مركوزة على الأرض ، ودائرة معدل النهار ، ودائرة منطقة البروج ، ودائرة العرض ، ودائرة الميل ، ورأيت الدائرة الشمسية يعرف بها سمت الكواكب ، واصطرلاباً تكون سعة قطره ذراعاً ، واصطرلابات كثيرة وكتباً كثيرة . قال وأخبرني شمس الدين ابن العرضي أن نصير الدين أخذ من هولاكو بسبب عمارة هذا الرصد ما لا يحصيه إلا الله ، وأقل ما كان يأخذ بعد فراغ الرصد لأجل الآلات وإصلاحها عشرون ألف دينار خارجاً عن الجوامك والرواتب التي للحكماء والقومة . . .
وقال الخواجا نصير الدين في الزيج الإيلخاني : إنني جمعت لبناء الرصد جماعة من الحكماء ، منهم المؤيد العرضي من دمشق والفخر المراغي الذي كان بالموصل ، والفخر الخلاطي الذي كان بتفليس والنجم دبيران القزويني ، وابتدأنا ببنائه في سنة سبع وخمسين وست مائة ، في جمادى الأولى بمراغة ) . انتهى .
وقال ابن العبري في تاريخ مختصر الدول / 256 : ( وفي هذا التاريخ توفي خواجا نصير الدين الطوسي الفيلسوف صاحب الرصد بمدينة مراغة ، حكيم عظيم الشأن في جميع فنون الحكمة . واجتمع إليه في الرصد جماعة من الفضلاء المهندسين . . . وكان من الفضلاء في زمانه نجم الدين القزويني ، منطقي عظيم صاحب كتاب العين ، ومؤيد الدين العرضي ، وفخر الدين المراغي ، وقطب الدين الشيرازي ، ومحيي الدين المغربي . ومن الأطباء المشهورين فخر الدين الأخلاطي ، وتقي الدين الحشائشي ، واشتهر هذا في عمل الترياق شهرة عظيمة وإن لم يكن من الأطباء المشتغلين المشهورين ، وبسفاهته استظهر على باقي الأطباء في هذا الزمان ، وبينهم نفيس الدين بن طليب الدمشقي ، وولده صفي الدين النصراني الملكي ) .
وفي طرائف المقال : 2 / 448 : ( وكان من أعوانه على الرصد من العلماء وتلاميذه جماعة ، أرسل إليهم الملك هلاكو خان وأمر بإحضارهم منهم العالم الأعلم العلامة قطب الدين محمود الشيرازي صاحب شرف الأشراف والكليات . . . ومنهم مؤيد الدين العروضي الدمشقي ، وكان متبحراً في الهندسة وآلات الرصد ، توفي بمراغة فجأة في سنة أربع وسبعمائة . ومنهم فخر الدين كان طبيباً فاضلاً حاذقاً . ومنهم نجم الدين القزويني ، وكان فاضلاً في الحكمة والكلام . ومنهم محي الدين الأخلاطي ، وكان فاضلاً مهندساً في العلوم الرياضية . ومنهم محي الدين المغربي ، وكان مهندساً فاضلاً في العلوم الرياضية وأعمال الرصد . ومنهم نجم الدين الكاتب البغدادي وكان فاضلاً في أجزاء الرياض والهندسة وعلم الرصد كاتباً مصوراً وكان أحسن الخلائق خلقاً ) .
جعل من خادمه عبد الرزاق ، ابن الفوطي وشيخَ الذهبي
عندما سقطت بغداد ودخلها المغول ، وعاثوا فيها نهباً وقتلاً وتدميراً ، أخذوا فيما أخذوا طفلاً في نحو العاشرة من عمره هو عبد الرزاق بن الفوطي . وفي سنة 660 رآه نصير الدين الطوسي قدس سره في مراغة فتوسم فيه النبوغ فخلصه من عبودية المغول واتخذه تلميذاً ومساعداً ، ثم جعله أميناً على مكتبة المرصد فصار خبيراً بالكتب ومؤلفيها ، ثم أخذه محمد الجويني وزير هولاكو ووظفه عنده . وعندما نصب هولاكو ابنه علاء الدين الجويني ( عطا الملك ) حاكماً على العراق ، أعاد ابن الفوطي معه الى بغداد سنة 679 ، وجعله أميناً على مكتبة المستنصرية ويسَّر له عطا ملك الجويني حياته فكان لابن الفوطي دورٌ ثقافي واسع ومتنوع حتى بلغت مؤلفاته مئة مجلد .
وقد كتب في شخصيته مؤرخان معاصران هما الدكتور محمد رضا الشبيبي في محاضرة موسعة سماها مؤرخ العراق ابن الفوطي ، والدكتور مصطفى جواد ، بنفس العنوان 5 .
وقد عده الحنابلة منهم فقال ابن العماد في شذرات الذهب : 3 / 60 : ( وفيها ( سنة 723 ) مؤرخ الآفاق العالم المتكلم كمال الدين عبد الرزاق بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عمر بن أبي المعالي محمد بن محمود بن أحمد بن محمد بن أبي المعالي الفضل بن العباس بن عبد الله بن معن بن زائدة الشيباني المروزي الأصل ، البغدادي الإخباري الكاتب المؤرخ الحنبلي ابن الصابوني ، ويعرف بابن الفوطي ، محركاً نسبة إلى بيع الفوط وكان الفوطي المنسوب إليه جده لأمه ، ولد في سابع عشر محرم سنة اثنتين وأربعين وستمائة بدار الخلافة من بغداد وسمع بها من الصاحب محي الدين بن الجوزي ثم أسر في واقعة بغداد وخلصه النصير الطوسي الفيلسوف ) .
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ : 4 / 1493 : ( ابن الفوطي العالم البارع المتفنن المحدث المفيد ، مؤرخ الآفاق ، مفخر أهل العراق . . . الفوطي نسبة إلى جد أبيه لأمه ، ويعرف أيضاً بابن الصابوني ، ينتسب إلى معن بن زائدة وأصله مروزي ، مولده في المحرم سنة اثنتين وأربعين وست مائة ببغداد ، وأسر في الوقعة وهو حدث ثم صار إلى أستاذه ومعلمه خواجا نصير الطوسي في سنة ستين وست مائة ، فأخذ عنه علوم الأوائل . . . وله ذكاء مفرط وخط منسوب رشيق وفضائل كثيرة ) .
وقال في تاريخه : 51 / 77 : ( قرأت بخط الفوطي : توفي رئيس الأصحاب شيخنا جلال الدين الحنبلي مدرس المستنصرية في شعبان ) . انتهى .
ومعنى أن ابن الفوطي نسب نفسه الى معن بن زائدة أنه مولى آل زائدة ، فقد نص عدد من المصادر على أن أصله مروزي أي من مرو في خراسان ، ونسبه السيد المرعشي الى بخارى فقال في شرح إحقاق الحق : 17 / 209 : ( عبد الرزاق كمال الدين بن أحمد البخاري الشهير بابن الفوطي ) .
هذا ، وقد عده صاحب أعيان الشيعة ( 3 / 437 ) من الشيعة مستدلاً بقراءته كتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة عليهم السلام على مؤلفه ابن عيسى الإربلي ، قال : ( وفي هذا من الدلالة على تشيع ابن الفوطي ما لايخفى ، وهناك ما أصرح منه ذكرناه في ترجمته ) .
ولم أجد ما وعد به رحمه الله ولا أجد في ذلك دليلاً على تشيع ابن الفوطي ، فقد كان الإربلي رحمه الله عالماً كاتباً كبيراً في ديوان الدولة ، وكان يأتي الى مكتبة المستنصرية ومديرها ابن الفوطي ، فقراءته عليه فيها اعتبار معنوي لابن الفوطي ، وكون كتاب في سيرة الأئمة عليهم السلام لايدل على موافقته على مذهبه .
وقد وافق السيد الأمين صاحب الذريعة وغيره على تشيع ابن الفوطي ، قال في الذريعة : 4 / 426 : ( المحدث المؤرخ الإخباري المروزي المعروف بابن الفوطي . . . استظهر تشيعه الفاضل العارف في مجلة العرفان ، وكذلك الفاضل الشبيبي في محاضرته المطبوعة 1359 ، وغيرهما من المعاصرين ، ويشهد بذلك بعض كلماته في الحوادث الجامعة واتصاله بعلماء الشيعة وتلمذه على مثل الخواجة نصير الدين الطوسي سنين ، وشدة عنايته به ) 6 .
وقال في الذريعة : 7 / 94 : ( الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في الماية السابعة . . . . طبع بعضه في بغداد في1351 ، وهو من سنة 626 إلى700 ، وطبع في أوله مقدمة الشيخ محمد رضا الشبيبي ومصطفى جواد البغدادي ، وقد استظهر ثانيهما كون المؤلف شافعياً ، لكن الحق ما استظهر في مجلة العرفان من وجود آثار تشيعه في خلال تصانيفه ، ومال إليه الشبيبي في المحاضرة التاريخية التي ألقاها في بغداد 1359 ، وطبعت في تلك السنة ، وبسط من ترجمه قديماً الذهبي في تذكرة الحفاظ : 4 / 284 ، ولم يدع الوقيعة فيه كما هو ديدنه في كل شيعي ، لكنه احتمل أن يصير سماعه للحديث وكتابته له كفارة عن خطاياه ، وأعظم خطاياه في نظر الذهبي ملازمته الكثيرة لخدمة رئيس الشيعة الخواجة نصير الدين الطوسي ثلاثة عشر عاماً ، وروايته عن مشايخهم الكبار مثل السيد عبد الكريم بن طاوس الذي كتب لخدمته الدر النظيم فيمن سمى بعبد الكريم ، واتصاله بالوزير الجويني ومبالغته في تقريظ هؤلاء ، الذين عبر عنهم الذهبي بالمغول وأتباع المغل ، وترجمه في الشذرات : 6 / 60 ) . انتهى .
أقول : إبن الفوطي حنبلي بحكم نشأته في بغداد ومحيطه ، لكنه حنبلي معتدل بحكم تربيته في أجواء الشيعة خاصة تلمذه على صاحب الخلق الرفيع المرجع نصير الدين قدس سره وتلميذه الوزير ابن الجويني رحمه الله . إنه دليل على عراقة الإنفتاح والحرية المذهبية في الحكم الشيعي بعكس غيره !
وهو من جهة نموذجٌ من خطة المرجع نصير الدين قدس سره في انتقاء الطاقات وتنميتها وإطلاقها في الدولة المغولية ومساعدتها لتأخذ مجراها في مكافحة الغزو المغولي وترسيخ الثقافة الإسلامية ، ولو كانت من مذهب آخر !
وهو من جهة ثالثة ، دليلٌ ونموذجٌ على قدرة المذهب الشيعي بخصوصيته وبالحرية التي يتبناها ، على ترويض أتباع المذاهب وإجبارهم على الإنفتاح وعدم التعصب ! فظاهرة ابن الفوطي لا تنحصر فيه ولافي مذهبه ، فهناك شيعة منفتحون على المذاهب السنية كالجوينيين والحموئيين ، كان السنة يعدونهم منهم ، بينما هم في الواقع شيعة .
شيوخ الصوفية سعد الدين بن حَمُويَهْ وأولاده
ترجع علاقة المغول بالجوينيين الى الصوفي الأسطورة سعيد بن المطهر الباخرزي الذي كان يسكن في منطقة بخارى ويعتقد به المسلمون ، ويحترمه التتار ومنهم جنكيز خان وابنه هولاكو ! وهذه خلاصة ترجمته من سير أعلام الذهبي : 23 / 363 :
( الباخرزي ، الإمام القدوة شيخ خراسان سيف الدين أبو المعالي سعيد بن المطهر بن سعيد بن علي القائدي الباخرزي نزيل بخاري . كان إماماً محدثاً ورعاً زاهداً تقياً أثرياً منقطع القرين بعيد الصيت ، له وقع في القلوب ومهابة في النفوس . . . وقد ذكره في معجم الألقاب ابن الفوطي فقال فيه : هو المحدث الحافظ الزاهد الواعظ ، كان شيخاً بهياً عارفاً تقياً فصيحاً ، كلماته كالدر . . . وانتشر صيته بين المسلمين والكفار . . . ولد بباخرز وهي ولاية بين نيسابور وهراة قصبتها مالين . . . وعرف الشيخ بين التتار ( بالغ شيخ ) يعني الشيخ الكبير وبذلك كان يعرفه هولاكو . . . . وكان المستعصم يهدي من بغداد إلى الباخرزي التحف ، من ذلك مصحف بخط الإمام علي رضي الله عنه ، وكان مظفر الدين أبو بكر بن سعد صاحب شيراز يهدي إلى الشيخ في السنة ألف دينار ، وأنفذ له لؤلؤ صاحب الموصل ، وأهدت له ملكة بنت أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان سنَّ النبي ( ص ) الذي كسر يوم أحد ( والصحيح أنه لم يكسر! ) وكان يمنع التتار من قصد العراق ويفخِّم أمر الخليفة ، وممن راسله سلطان الهند ناصر الدين أيبك وصاحب السند وملتان غياث الدين بلبان ، قال : وبعث إليه منكو قآن لما جلس على سرير السلطنة بأموال كثيرة ، وكذلك وزيره برهان الدين مسعود بن محمود يلواج . . وكان إذا جاء إلى الشيخ قبَّل العتبة ووقف حتى يؤذن له ويقول : إن أبي فعل ذلك ، ولأن له هيبة في قلوب ملوكنا حتى لو أمرهم بقتلي لما توقفوا ! وامتدحه جماعة منهم سعد الدين بن حمويه ، كتب إليه بأبيات منها :
يا قرةَ العين سلْ عيني هل اكتحلتْ *** بمنظر حَسَن مُذْ غبتَ عن عيني
ومدحه الصاحب بهاء الدين محمد بن محمد الجويني ، وابنه الصاحب علاء الدين عطا ملك صاحب الديوان . وكان إذا رقي المنبر تكلم على الخواطر ويستشهد بأبيات منها : إذا ما تجلَّى لي فكُلِّي نواظرٌوإن هو ناداني فكلي مَسَامعُ . . .
ومنها : وما بيننا إلا المدامة ثالث *** فيملي ويسقيني وأملي ويشربُ !
وأوصى أن يكفن في خرقة شيخه نجم الكبرى . . . وكان يوم وفاته يوماً مشهوداً لم يتخلف أحد ، حزر العالَم بأربع مئة ألف إنسان ) . انتهى .
وقال عنه في تاريخه : 48 / 387 : ( الإمام القدوة المحدث سيف الدين أبو المعالي الباخرزي ، شيخ زاهد عارف كبير القدر ، إمام في السنة والتصوف ، عَنِيَ بالحديث وسمعه وكتب الأجزاء ورحل فيه ، وصحب الشيخ نجم الدين الكبري وسمع منه ، ومن أبي رشيد محمد بن أبي بكر الغزال ببخارى ، ومن علي بن محمد الموصلي ، وجماعة ببغداد . وخرَّج لنفسه أربعين حديثاً رواها لنا عنه مولاه نافع الهندي ، وحدثني أبو الحسن الخشني أنه توفي في هذا العام . وكان شيخ ما وراء النهر وله جلالة عجيبة وعلى يده أسلم سلطان التتار بركة ، وله ترجمة طولى في سير النبلاء ) .
أقول : بَيَّنَّا كذب ادعائهم في أن بركة خان المغولي كان مسلماً ، ومن تعصبهم أنهم لم يذموا الباخرزي مع أنه كان صديقاً حميماً لأبناء جنكيز وهولاكو ولم يصدر منه ولو نصيحة لهولاكو أن لايغزو بلاد المسلمين !
وقد انتقلت مشيخة التصوف بعد هذه الشيخ ( الإمام ) في منطقة بخارى وما حولها ، الى تلميذه سعد الدين بن حمويه الجويني ، وبعد سعد الدين صار شيخ الطريقة ابنه ابراهيم ، فكان التتار يحترمانهما لأنهما كشيخهما لم يقفا ضدهم في اجتياحهم لبخارى وخراسان والعراق .
والحموئي نسبةً الى حَمُوَيْه قرب جوين من ولاية آمل . وقد شاء الله تعالى أن يهدي إبراهيم هذا فصار تلميذاً لنصير الدين قدس سره وألف كتاب ( فرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين ) عليهم السلام وأسلم عدد من قادة المغول على يده قال الذهبي في تاريخه : 47 / 454 : ( الشيخ سعد الدين أبو إبراهيم الجويني الصوفي كان صاحب رياضات وأحوال ، وله كلام في التصوف على طريقة أهل الوحدة . وكان قد حج وأقام بقاسيون يتأله ويتعبد مدة في زاوية له ومعه جماعة من الصوفية ، ولهم سَمْتٌ وجلالة وتعفف ، فلما ضاق به الحال رجع إلى خراسان واجتمع به جماعة من أمراء التتار وأسلم على يده غير واحد منهم وبنى بآمل خانكاه ورزق القبول التام . ثم زار قبر جدهم القدوة الكبير محمد بن حمويه الجويني بحيراباذ من أعمال جوين ، فأقام عنده أسبوعاً وعبر إلى الله تعالى . وهو والد شيخنا صدر الدين إبراهيم الذي أسلم على يده قازان ) .
وقال في تاريخه : 52 / 37 : ( وفيها دخل الإسلام قازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ملك التتار بوساطة نوروز التركي وزيره ومدبر مملكته وزوج عمته ، واسمه ( قازان ) بالعربي محمود ، أسلم في شعبان بخراسان على يد الشيخ الكبير المحدث صدر الدين إبراهيم بن الشيخ سعد الدين بن حمويه الجويني . وذلك بقرب الري بعد خروجه من الحمام وجلس مجلساً عاماً فتلفظ بشهادة الحق وهو يبتسم ووجهه يستنير ويتهلل وكان شاباً أشقر مليحاً ، له إذ ذاك بضع وعشرون سنة . وضج المسلمون حوله عندما أسلم ضجة عظيمة من المُغُل والعجم وغيرهم ، ونثر على الخلق الذهب واللؤلؤ وكان يوماً مشهوداً ، وفشا الإسلام في جيشه بحرص نوروز فإنه كان مسلماً خيراً صحيح الإسلام ، يحفظ كثيراً من القرآن والرقائق والأذكار . ثم شرع نوروز يُلقِّنُ الملك غازان شيئاً من القرآن ويجتهد عليه ودخل رمضان فصامه ، ولولا هذا القدر الذي حصل له من الإسلام ، وإلا كان قد استباح الشام لما غلب عليه ) .
وإبراهيم هذا من شيوخ الذهبي ، قال عنه في تذكرة الحفاظ : 4 / 1505 : ( وسمعت من الإمام المحدث الأوحد الأكمل فخر الإسلام صدر الدين إبراهيم بن محمد بن المؤيد بن حمويه الخراساني الجويني شيخ الصوفية . قدم علينا طالب حديث ، روى لنا عن رجلين من أصحاب المؤيد الطوسي ، وكان شديد الإعتناء بالرواية وتحصيل الأجزاء ، حسن القراءة مليح الشكل ، مهيباً ديناً صالحاً ، على يده أسلم غازان الملك ، مات سنة اثنتين وعشرين وسبع مائة ، وله ثمان وسبعون سنة ، رحمه الله تعالى ) . انتهى .
وفي مجلة تراثنا : 17 / 101 : ( ولد مؤلفنا الحموئي في آمل طبرستان ليلة السبت 26 شعبان سنة 644 ، في أسرة علمية عريقة ، أسرة علم وحديث وتصوف ومشيخة وصدارة وحشمة منذ القرن الخامس حتى القرن العاشر ، قال الذهبي في المشتبه : بنو حَمُوَيْه الجويني نالوا المشيخة والإمرة ، وللحموئي رحلة واسعة في طلب الحديث ، طوَّف البلاد وأدرك المشايخ والأسانيد العالية . وتزوج عام671 بابنة الصاحب علاء الدين عطا ملك بن بهاء الدين محمد صاحب الديوان الجويني ملك العراق وحاكمها من قبل هولاكو ، وكان الصداق خمسة آلاف دينار ذهباً أحمر ! وتوفي الحموئي في 5 محرم سنة 722 ) .
وفي هامش مرآة الكتب / 146 : ( يروي الحموئي عن المحقق الطوسي في فرائد السمطين ، ويعبر عنه تارة بالصدر الإمام العلامة نصير الدين أبي جعفر محمد . . . وأخرى : قدوة الحكماء نصير الدين ، والحكيم العلامة نصير الدين . قال الحموئي : أخبرني قدوة الحكماء نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن المشهدي الطوسي تغمده الله برحمته ، إجازة في ذي الحجة سنة اثنين وسبعين وستمائة بمدينة الكوفة 7 .
وفي خاتمة المستدرك : 2 / 396 : ( الإمام الهمام وشيخ المسلمين والإسلام إبراهيم بن الشيخ سعد الدين محمد بن المؤيد أبي بكر بن الشيخ الإمام العارف جمال السنة أبي عبد الله محمد بن حمويه بن محمد الجويني ، المعروف بالحموئي وابن حمويه جميعاً ، كان من عظماء علماء العامة ومحدثيهم الحفاظ ، وكذا أبوه وجده . إلى أن قال : ولهذا الشيخ من الكتب المشهورة بين الفريقين كتابه المسمى : بفرايد السمطين . . . إلى أن قال : وكان في طبقة العلامة ومن عاصره من أجلاء علمائنا رضوان الله تعالى عليهم ، بل وله الرواية في ذلك الكتاب وغيره أيضاً عن الشيخ سديد الدين يوسف بن المطهر والد العلامة ، وعن المحقق الحلي ، وابن عمه يحيى بن سعيد ، وعن ابني طاووس ، والشيخ مفيد الدين بن جهم من كبراء أصحابنا الحليين . وكذا عن الخواجة نصير الدين الطوسي ، والسيد عبد الحميد بن فخار بن معد الموسوي ، بحق رواياتهم جميعاً عن مشايخهم الثقات الأجلة من فقهاء الشيعة . . . هذا وله الرواية أيضاً أو لأبيه الشيخ سعد الدين عن الشيخ منتجب الدين صاحب الفهرست ) .
وفي غاية المرام : 2 / 287 : ( الحديث الثاني : إبراهيم بن محمد الحمويني هذا قال : عن السيد السند النقاب النقيب الأطهر الأزهر الأفضل الأكمل الحسيب النسيب ، شرف العترة الممجدة الطاهرة عزة جبين عزة الطهارة والأسرة العلوية الزاهرة الذي شرفني بمؤاخاته في الله فافتخر بإخائه وأعدُّ ما ذخر ليوم العرض على الله تعالى ولقائه ، جمال الدين أحمد بن موسى بن جعفر بن طاوس الحسني الجلي الحُلي شريف أخلاقه من كل ما يتطرق إليها به من ذم وعاب ، الحَليِّ بأنوار فضائله وآثار بركاته التي يتحلى بها الزمان ، وميامنها بتخلي غيوم الحلي وتنجاب ، أفاض الله تعالى عليه وعلى سلفه سحائب لطفه ورضوانه ، وأسكنه وذريته الكريمة واسع فضله غرف جناته ، قراءةً عليه وأنا أسمع بداره بمحلة عجلان بالحلة السيفية المزيدية يوم الخميس ثاني عشر ذي قعدة ، سنة إحدى وسبعين وستمائة ، قال : أنبأنا الشيخ نجيب الدين محمد بن أبي غالب ، عن أبي محمد جعفر بن أبي الفضل بن شعرة ، عن نجم الدين عبد الله بن جعفر الدورستي وعاش مائة وثماني عشرة سنة ، عن عماد الدين أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، كانت وفاته رحمة الله عليه رحمة واسعة سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ، قال : نبأنا محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ، أنبأنا أبو نصر منصور بن عبد الله بن إبراهيم الأصفهاني ، نبأنا علي بن عبد الله الإسكندري ، أنبأنا أبو علي ابن أحمد بن علي بن المهدي الرقي أنبأنا أبي ، نبأنا علي بن موسى الرضا عليهم السلام والتحية والثناء حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد صلوات الله عليهما ، عن أبيه محمد بن علي صلى الله عليه و آله عن أبيه علي بن الحسين عليهما السلام عن أبيه الحسين بن علي صلوات الله عليهما ، عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وعليهم أجمعين قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله : طوبى لمن أحبك وصدَّق بك ، وويلٌ لمن أبغضك وكذب بك ، يا علي محبوك معروفون في السماء السابعة ، والأرض السابعة السفلى وما بين ذلك ، هم أهل الدين والورع والسمت الحسن والتواضع لله عز وجل ، خاشعةٌ أبصارهم وَجِلةٌ قلوبهم لذكر الله ، وقد عرفوا حق ولايتك ، وألسنتهم ناطقة بفضلك ، وأعينهم ساكنة تحنناً عليك وعلى الأئمة من ولدك ، يدينون الله بما أمرهم به وأولو الأمر في كتابه ، وجاءهم به البرهان من سنة نبيه ، عاملون بما يأمرهم به وأولو الأمر منهم ومتواصلون غير متقاطعين ، متحابون غير متباغضين ، إن الملائكة لتصلي عليهم وتؤمن على دعائهم ، وتستغفر للمذنب منهم ، وتشهد حضرته ، وتستوحش لفقده إلى يوم القيامة ) . وشرح إحقاق الحق للسيد المرعشي : 5 / 102 ، عن مخطوط فرائد السمطين .
وفي مرآة الكتب / 142 : ( أقول : ذكر تشرف غازان خان بقبول دين الإسلام في تاريخ حبيب السير أيضاً ، إلا أنه أرُخّ ذلك في رابع شهر شعبان سنة أربع وتسعين وستمائة ، قال : ( وكان ذلك بحضور الشيخ صدر الدين إبراهيم بن الشيخ سعد الدين الحموئي . . . . كان من عظماء علماء العامة ومحدثيهم الحفاظ ، وكذا أبوه وجده ، بل وكثير من سلسلة نسبة الحموئيين . . .
قال في الروضات : لهذا الشيخ من الكتب المشهورة بين الفريقين كتابه المسمى بفرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين عليهم السلام ، عندنا منه نسخة تزيد على عشرة آلاف بيت ، بَيْدَ أن أكثرها أسانيد ، إلى أن قال : وكان في طبقة العلامة ومن عاصره ، بل وله الرواية في هذا الكتاب وغيره أيضاً عن الشيخ سديد الدين يوسف بن المطهر والد العلامة ، وعن المحقق الحلي ، وابن عمه يحيى بن سعيد ، وعن ابني طاووس ، وعن الشيخ مفيد الدين بن جهم من كبراء أصحابنا الحليين ، وكذا عن الخواجة نصير الدين الطوسي ، والسيد عبد الحميد بن فخار بن معد الموسوي ، بحق رواياتهم جميعاً عن مشائخهم الثقات الأجلة من فقهاء الشيعة . ولذا اشتبه الأمر على صاحب الرياض حيث ذهب إلى تشيعه ، أو لما ظفر به في تضاعيف كتابه من أحاديث الوصية والتفضيل ، وسائر إخبار الإرتفاع التي قل ما يوجد مثلها في شئ من كتب العامة ، غافلاً عما قد اشتمل عليه وتضمنه من النص على خلافة الثلاثة والإشارة إلى فضائلهم ) . انتهى .
أقول : سبب اختيار المرجع العبقري الطوسي قدس سره لآل حُمُويَهْ أنهم أقرب الناس الى قلوب المغول ، فهم مشيخة التصوف الذين ورثوا الصوفي الكبير الباخرزي شيخ المنطقة المجاورة لبلاد المغول ، والذي يعتقد المغول أنه ولي ويسمونه ( بالغ شيخ ) أي الشيخ المحترم ، ومن هذا تفهم لماذا تبرك قازان بلبس جبة والد الشيخ إبراهيم عندما أسلم .
وكون هذا الشيخ رحمه الله من شيوخ الذهبي وقد يكون من شيوخ ابن تيمية أيضاً ، يدل على وجاهته في العالم الإسلامي وعلى سعة تحركه ، وأن نشاطه امتد من حدود الصين الى الشام ، بل ربما وصل الى مصر فقد ورد ذكر بعض آل حمويه في مصر ، حيث ترجم ابن حجر في إنباء الغمر / 76 ، للمؤيد بن حَمُويَه ولقبه علاء الدين الجويني ، المعروف بالشيخ زادة شيخ الشميساطية ، وأنه استعاد المشيخة بعد أن أخذها البدر بن جماعة وغيره . وترجم الذهبي في تاريخه : 45 / 160 : لـ ( علي بن عبيد الله بن أحمد بن أبي سعيد بن حمويه ، أبو القاسم الجويني الأصل المصري الدار الصوفي ) . انتهى .
أما تشيع ابن حَمُويَه فيكفي دليلاً عليه أن أحمد بن طاووس قدس سره قد آخاه ، يعني عاهده على أنه إذا قدر له أن يدخل الجنة لا يدخلها إلا معه . ثم كتابه الذي يروي فيه أفضلية أهل البيت عليهم السلام على جميع الصحابة ، وهو مذهب الشيعة ولا ينافيه أنه ذكر فيه فضائل لغيرهم ، تقية ، أو قبل استبصاره رحمه الله .
الجوينيون من أهم وسائل نصير الدين الطوسي قدس سره
من أهم الأعوان الذين اعتمدهم نصير الدين قدس سره للإدارة والإعمار : آل الجويني ، وأصلهم شمس الدين محمد بن محمد بن محمد الجويني وكان وزيراً لخوارزم شاه وأخوه علاء الدين الملقب عطا ملك ، وأولاد علاء الدين ، وهم مسلمون سنيون من خراسان قيل من ذرية الفضل بن الربيع وزير المأمون ، وكان منهم وزراء في زمن الدولة العباسية مثل علي بن عبد الله الجويني ، استوزره السلطان طغرلبك والي خراسان 8 .
وكان أشهرهم في ذلك العصر أبو المعالي الجويني أستاذ المدرسة النظامية الملقب بإمام الحرمين ، المشهور بتعصبه ضد الشيعة والأحناف ، وهو الذي أقنع السلطان محمود الغزنوي بترك المذهب الحنفي وتبني المذهب الشافعي ! روى ذلك الذهبي في تاريخه : 29 / 72 ، قال : ( وذكر إمام الحرمين الجويني أن السلطان محمود كان حنفي المذهب مولعاً بعلم الحديث ، يسمع من الشيوخ ويستفسر الأحاديث ، فوجدها أكثرها موافقاً للمذهب الشافعي فوقع في نفسه فجمع الفقهاء في مرو ، وطلب منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين فوقع الإتفاق على أن يصلوا بين يديه على مذهب الإمامين ليختار هو ، فصلى أبو بكر القفال بطهارة مسبغة وشرائط معتبرة من السترة والقبلة ، والإتيان بالأركان والفرائض صلاة لا يجوز للشافعي دونها ، ثم صلى صلاة على ما يجوز أبو حنيفة فلبس بدلة كلب مدبوغاً قد لطخ ربعه بالنجاسة وتوضأ بنبيذ التمر وكان في الحر فوقع عليه البعوض والذباب وتوضأ منكساً ثم أحرم وكبر بالفارسية ، وقرأ : دو برك سبز ( وهو ترجمة مدهامتان بالفارسية ) ثم نقر نقرتين كنقرات الديك من غير فصل ولا ركوع ولا تشهد ، ثم ضرط في آخره من غير نية السلام وقال : هذه صلاة أبي حنيفة ! فقال : إن لم تكن هذه الصلاة صلاة أبي حنيفة لقتلتك . قال : فأنكرت الحنفية أن تكون هذه صلاة أبي حنيفة فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة ، وأمر السلطان كاتباً نصرانياً كاتباً أن يقرأ المذهبين جميعاً فوُجدت كذلك ! فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة وتمسك بمذهب الشافعي . هكذا ذكر إمام الحرمين بأطول من هذه العبارة ) . انتهى .
وروى ابن الأثير أن السلطان لم يكن يحترم أبا المعالي كثيراً لأنه يتقرب اليه ويمدحه ! قال في الكامل : 10 / 209 : ( كان نظام الملك إذا دخل عليه الإمام أبو القاسم القشيري ، والإمام أبو المعالي الجويني يقوم لهما ويجلس في مسنده كما هو ! وإذا دخل أبو علي الفارمذي يقوم إليه ويجلسه في مكانه ، ويجلس هو بين يديه ! فقيل له في ذلك ؟ فقال : إن هذين وأمثالهما إذا دخلوا عليَّ يقولون لي أنت كذا وكذا يثنون علي بما ليس بي فيزيدني كلامهم عجباً وتيهاً ، وهذا الشيخ يذكر لي عيوب نفسي وما أنا فيه من الظلم ، فتنكسر نفسي لذلك وأرجع عن كثير مما أنا فيه ) . انتهى .
كما روى ابن الأثير صراع عائلة أبي المعالي الجويني مع الأحناف والكرامية ، قال في الكامل : 10 / 251 : ( وكان مقدم الشافعية ( في نيشابور وكانت مركز أئمة المذاهب ) أبا القاسم بن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني ، ومقدم الحنفية القاضي محمد بن أحمد بن صاعد ، وهما متفقان على الكرامية ، ومقدم الكرامية محمشاد ، فكان الظفر للشافعية والحنفية على الكرامية ، فخربت مدارسهم وقتل كثير منهم ومن غيرهم ، وكانت فتنة عظيمة ) . وقال في : 10 / 291 : ( وفيها ( 492 ) قتل أبو القاسم بن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني بنيسابور وكان خطيبها ، واتهم العامة أبا البركات الثعلبي بأنه هو الذي سعى في قتله فوثبوا به فقتلوه وأكلوا لحمه ) ! انتهى .
وهذا غايةٌ في القسوة والوحشية ، وهو من نوع سياسة حكومات الخلافة القرشية عبر العصور في قمع أصحاب الرأي الآخر وإبادتهم !
***
وقد اصطحب هلاكو عندما غزا قلاع الإسماعيليين في شمال إيران ثم العراق عدداً من الشخصيات السنية منهم محمد الجويني ، ولقبه شمس الدين وأخوه علاء الدين 9 . ( شهد علاء الدين الجويني مع هولاكو فتح قلاع النزاريين وعني بوصف ما جرى هناك وصفاً تاريخياً ممتعاً في كتابه الذي ألفه بالفارسية وسماه ( جهان كشا ) قائلاً : كنت أعرف بأن هناك خزانة كتب ثمينة طبقت شهرتها الآفاق ، وقلت يحسن انتهاز الفرصة للإطلاع على هذه الخزانة فوافق هولاكو فوراً ، وزرت الخزانة وانتقيت أنفس ما فيها من المصاحف والكتب وأخرجتها كما يخرج الحي من الميت ، وحملت محتوياتها من آلات الرصد ، كذات الكرسي وذات الحلق ، إلى أنواع من الإسطرلابات التامة والمنصفة وذات الشعاع ) 10 .
( وكان هولاكو اتخذ تبريز عاصمة له واستوزر محمد الجويني صاحب الديوان . . . وعندما توفي محمد الجويني سنة 661 ، نصب ابنه علاء مكانه وجعل أخاه محمد بن محمد وزيراً له ) 11 .
وروى الصفدي في الوافي : 1 / 147 ، والكتبي في الفوات : 2 / 252 ، أن هولاكو غضب على علاء الدين الجويني وأمر بقتله ، وكانوا على وشك التنفيذ ، فهرع أخوه الى المحقق الطوسي قدس سره وكان هولاكو محتجباً فاحتال الطوسي فحمل مَبْخَرَةً ودخل عليه وحمد الله على سلامته وأخبره أن النجوم تدل على أن شراً كان سينزل به ! وحمله على أن يصدر أمراً بالعفو عن جميع المحكوم عليهم بالقتل في مملكته ، فأصدر أمره بالعفو وشمل ابن الجويني ! لكن روايته لطريقة نصير الدين في التأثير على هلاكو لاتتناسب مع شخصيته وأخلاقه قدس سره لكن القصة تدل على أنه كان صاحب دالة على هولاكو ، وصاحب يد على الجوينيين ، مصراً على تقوية موقعهم في الدولة المغولية .
8 ـ الجوينيون طبقوا مذهب التشيع في الحرية والإعمار
يأخذك العجب عندما تقايس بين نمط الإدارة المغولي ونمط الإدارة المملوكي ، مع أنهما متعاصران ، وجنس المماليك متقارب مع جنس المغول ، بل هم مشتركون في الذهنية وكثير من العادات وحتى في الدم !
لكن المماليك في مصر والبلاد التابعة لها ، حكموا مباشرة وتدخلوا في صغار الأمور ! والمغول في العراق والبلاد التابعة له حكموا من بعيد بشكل غير مباشر ، ولم يتدخلوا إلا في نصب كبار الولاة وعزلهم .
وقد حققت هذه السياسة مشاركة واسعة لأهل البلاد في حكمها وإدارتها ، كما حققت قدراً كبيراً من الحرية الفكرية والمذهبية ضمن الإطار العام الذي تتبناه السلطة ، خاصة أن المغول بقادتهم وجنودهم غائبون غالباً عن المحافل السياسية والإجتماعية ، بينما المماليك حاضرون حتى في السوق والقرية !
هنا تلمس بصمات نصير الدين الطوسي قدس سره ونظرية المذهب الشيعي في الحكم والحرية ! فقد استطاع رحمه الله أن يقنع طاغية المغول بهذا النمط من إدارة البلاد ، وأن يركز جهده على اختيار ( الكوادر ) الكفوءة في الحكم والإدارة .
ومع أن الجوينيين فُرْسٌ لكنهم عرب الثقافة مقبولون عند السنة العراقيين الذين خسروا نظام الخلافة ، ومقبولون عند الشيعة بحكم رعاية المرجع نصير الدين لهم ، وتشيعهم على يده . وهم أصحاب كفاءة سياسية وإدارية عالية ، ويجيدون التعامل مع الناس ، لأنهم من عائلة اجتماعية معروفة هي عائلة الفضل بن الربيع أشهر وزراء المأمون . ومن هنا كان اختيارهم لحكم العراق موفقاً ، فقد كان إنجازهم في ربع قرن أفضل من إنجاز الخلافة العباسية في قرنين !
تقرأ عن الجوينيين محمد وأولاده شمس الدين وعلاء عطا ملك ، فتجد لهم آثاراً جليلة وأنهم أعادوا بناء مدن العراق وقراه وازدهار زراعته وتجارته في مدة وجيزة ، حتى شهد بعض المؤرخين بأنه عاد أفضل مما كان قبل احتلال المغول ! وكان سر نجاحهم قبل كفاءتهم تطبيقهم لنظرية المذهب الشيعي في الحرية التي رسمها لهم نصير الدين قدس سره ! وهو أمرٌ لم ينتبه له الباحثون أو لا يريدون الإعتراف به من فهمه !
تقرأ عن اهتمام الجوينيين بالعلم وتشييد المكتبات والمدارس والمستشفيات وخدمة العلماء وطلبة العلم وإكرامهم من كل المذاهب . . فتقول إنهم حكام محترفون للإعمار والتنمية ، ولا شأن لهم بالمذهب ؟!
وتقرأ أن نصير الدين الطوسي قدس سره قد ألف كتاب تلخيص المحصل باسم عطا ملك الجويني سنة 669 ، وهو نقدٌ لعقائد الفخر الرازي المسمى : محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين . كما ألف رسالة أوصاف الأشراف بالفارسية حول أخلاق العرفاء والزهاد ، لأبيه محمد الجويني 12 .
وأن علاء الدين الجويني ( عطا ملك ) كان شاعراً وله قصيدة في مدح أمير المؤمنين عليه السلام وبيعته يوم الغدير ، وفي مدح المحقق الطوسي قدس سره 13 .
وتقرأ زياراتهم لمشاهد الأئمة عليهم السلام في الكاظمين والنجف وكربلاء وسامراء ، واهتمامهم بها وبحوزاتها وعلمائها ، وبمشاريع البنى التحتية فيها ، ومنها أنه شق نهراً من الأنبار الى النجف ، ونهراً في كربلاء ، وشييد مدارس للطلاب وفنادق للزوار ، وشجع حركة التأليف وأعطى الجوائز للمؤلفين .
وتقرأ أن علاء الدين الجويني رحمه الله طلب من الشيخ ميثم البحراني ، فألف له كتاباً في شرح نهج البلاغة ، وطلب من الطبري الشيعي المتعصب لمذهبه أن يؤلف له كتباً في السقيفة وفضائل أهل البيت عليهم السلام وظلامتهم 14 .
فتقول إنهم شيعة متعصبون !
ثم تقرأ عن خدماتهم لمعاهد المذاهب السنية ، ورعايتهم للمدرستين النظامية والمستنصرية ، اللتين أسستا لتعليم المذاهب الأربعة وتخريج القضاة والعلماء ، وأن الجوينيين ومن بعدهم من الحكام الشيعة أبقوها على وضعهما ، وحافظوا على استمرارهما في عملهما دون مساس أو تغيير . .
وتقرأ عن إبقائهما الجهاز القضائي السني كما كان في عصر الخلافة ، باستثناء المناطق الشيعية فقد عينوا فيها قضاة شيعة .
وتقرأ عن تشجيعهم لعلماء السنة أن يؤلفوا في مذاهبهم ، وإعطائهم الجوائز على ذلك ! فتقول إن الجوينيين سنيون ، لكنهم يدارون الشيعة مداراة !
لكن كل القضية أنهم كانوا شيعة بعقلية نصير الدين الطوسي قدس سره والعلامة الحلي قدس سره فهم يؤمنون بالحرية الفكرية والحرية المذهبية !
وهذه القناعة بالحرية هي التي جعلت علاء الدين الجويني يستكتب الطبري الشيعي وأمثاله من المتشددين للتشيع ، وفي نفس الوقت كانت زوجته عصمت خاتون حفيدة صلاح الدين الأيوبي متعصبة لمذهبها الحنفي ، وأرادت أن تبني مدرسة خاصة لتدريسه ، فبناها لها زوجها الحاكم الشيعي ! قال الدكتور مصطفى جواد رحمه الله : ( ففيها ( 671 ) تكاملت عمارة المدرسة العصمتية نسبة إلى ذات العصمة شاه لبني بنت عبد الخالق بن ملكشاه بن أيوب الأيوبية ، زوجة أبي بكر أحمد بن المستعصم بالله ولي العهد أولاً ، ثم زوجة الصاحب علاء الدين عطا ملك الجويني ثانية ، فقد جعل عفيف الدين ربيع هذا مدرساً للحنفية فيها . . . العصمتية التي ذكرنا آنفاً تاريخ افتتاحها ، كانت مجاورة لمشهد عبيد الله العلوي المعروف اليوم بأبي رابعة بالأعظمية ) 15 .
وهذا يدل على أن الحكام الشيعة كانوا يعتقدون بحرية المذاهب ويطبقونها ، وأن علاء الدين لم يجبر زوجته الأيوبية على مذهبه ، بل احترم عقيدتها ونفذ رغبتها في بناء مدرسة لفقه مذهبها ! وهو أمرٌ لم يقم به أي حاكم في العراق مطلقاً إلا في عصر حكم الشيعة البويهيين ، أو في عصر الخليفة الناصر العباسي الشيعي ، أو عصر الحكم الشيعي في سلطان المغول !
وينبغي أن نلفت الى أن هولاكو كان نَصَبَ عمر بن محمد القضوي القزويني حاكماً على العراق قبل الجويني ، وقد عمل بنفس سياسة الجوينين لكنه لم يعش طويلاً ، وهو أمر يشير الى أن واضع سياسة الإعمار والحرية هو نصير الدين عليه السلام ، وأنه الذي اختارالجوينيين وعمر القضوي قبلهم .
قال ابن الفوطي عن عمر القضوي : ( كان من أعيان أهل قزوين المعروفين بمتانة الدين وحسن اليقين . . . عمر المساجد والمدارس ورمم الربط والمشاهد وأجرى الجرايات من وقوفها للعلماء والفقهاء والصوفية وأعاد رونق الإسلام بمدينة السلام . . ) 16 17 .
- 1. مستدركات أعيان الشيعة : 1 / 229 .
- 2. القران الكريم : سورة الزمر ( 39 ) ، الآية : 22 ، الصفحة : 461 .
- 3. مرقد الإمام الحسين عليه السلام / 157 ، عن الحوادث الجامعة / 497 .
- 4. أعيان الشيعة : 9 / 418 .
- 5. مجلة المجمع العلمي العراقى : 6 / 1378 .
- 6. ونحوه في الذريعة : 3 / 225 .
- 7. أنظر فرائد السمطين : 1 / 18 و97 ، و : 2 / 73 .
- 8. الكامل : 9 / 526 ، وشروح نهج البلاغة / 26 .
- 9. أعيان الشيعة : 9 / 91 .
- 10. الإسماعيليون والمغول / 136 .
- 11. النجاة لابن ميثم البحراني / 13 .
- 12. مستدركات أعيان الشيعة : 1 / 233 .
- 13. الغدير : 5 / 436 .
- 14. الذريعة : 18 / 95 .
- 15. هامش الغارات : 2 / 878 .
- 16. الإسماعيليون والمغول / 287 .
- 17. كيف رد الشيعة غزو المغول (دراسة لدور المرجعين نصير الدين طوسي و العلامة الحلي في رد الغزو المغولي ) ، العلامة الشيخ علي الكوراني العاملي ، مركز الثقافي للعلامة الحلي رحمه الله ، الطبعة الأولى ، سنة 1426 ، ص 129 ـ 156 .