يعد تاريخ تطور الأفكار من الحقول المعرفية الهامة، وهو الحقل الذي يحاول أن يدرس ويفسر صيرورة الأفكار من جهة نشأتها وتكوّنها والأطوار الأخرى التي تمر بها، وما يطرأ عليها من تبدلات وتحولات، جزئية أو كلية، عرضية أو جوهرية، ذاتية أو موضوعية، وذلك في إطار علاقة الأفكار بعامل الزمن الذي هو شرط أساسي مكوّن لهذا الحقل. ومصدر القيمة لهذا الحقل أن الأفكار لا تدرس فيه بصورة عامة أو مطلقة أو مجردة، وبعيدة عن سياقاتها الزمنية، ووضعياتها التاريخية، وبيئاتها الاجتماعية.
والخلفية التي ينطلق منها هذا الحقل، هي أن الأفكار ليست لها صورة واحدة تكون ثابتة وجامدة وساكنة، وتظل على هذا الحال في مختلف العصور والأزمنة، وإنما هي تمر بأطوار من التبدلات والتحولات والتغيرات بحسب اختلاف المكان والزمان والحال، وبحسب اختلاف الشروط والعناصر والمكونات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. كما أن هذه الأفكار تمر بأطوار أخرى حيث تكون لها ما يشبه مراحل النمو، فيكون لها طور وهي في نشأتها، وطور آخر بعد هذه النشأة، وهكذا تتلاحق الأطوار وتختلف وتتفاوت بين صعود وانحدار، وبين تقدم وتراجع، وبين تكامل وتآكل، أو قد تتلاحق هذه الأطوار وتكون محكومة بقوانين أخرى، هي قوانين الحركة في الأفكار.
وبحسب هذا الحقل فإن الأفكار ينبغي أن تدرس من خلال معرفة الأطوار التي مرت بها، وكيف تكونت وتشكلت حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، ولا يكفي معرفة الأفكار بالنظر إلى الطور الذي هي عليه بدون العودة إلى الأطوار السابقة التي مرت بها، وهذا يعني أنه لا بد أولاً من تحليل الأفكار قبل دراستها بطريقة مركبة.
ويختلف هذا الحقل عن غيره من الحقول المشابهة له في أنه يؤرخ للأفكار وليس للأحداث أو الأشخاص، ومن هنا تكمن صعوبة أو دقة هذا الحقل، لأن الأفكار ليس لها وجود مادي وحسي يمكن كشفه ومعاينته وتشخيصه بدقة ووضوح، وبواسطة أساليب وأدوات حسية كما هو الحال في دراسة الأحداث والأشخاص. فالأحداث لا يمكن أن تدرس إلا بعد وقوعها، لذلك يمكن التعرف عليها بوسائط عديدة، وهكذا عالم الأشخاص، أما الأفكار فهي بحاجة إلى أدوات من نوع مختلف، هي أدوات الخبير الذي يشتغل بهذا الحقل بحثاً وتحقيقاً وتحليلاً واكتشافاً، كالمفكر والعالم والفيلسوف والمثقف.
ولقد اعتبر البعض أن أقرب العلوم إلى هذا الحقل هي الفلسفة، وهذا ممكن مع وجود الفارق، حيث أن الفلسفة تدرس نوعية خاصة من الأفكار تلك التي ترتبط بقضايا الوجود وما وراء الطبيعة، والفارق الآخر والأساسي هو أن الفلسفة تدرس الأفكار الخاصة بها، بنوع من التجرد التام عن الزمان، لأن الفلسفة كما ينظر لها، هي علم يتعالى على الزمان ولا يتقيد به، ولأنها تهتم بكليات المسائل. كما أنه ليس المقصود من هذا الحقل هو فلسفة التاريخ، وإن كان بينهما قاسم مشترك هو العلاقة بين الأفكار والتاريخ، والفاصل بينهما هو شكل هذه العلاقة وتفسيرها، فهذه العلاقة في فلسفة التاريخ تستند على نظرة فلسفية إلى التاريخ، والأفكار هنا تلعب دور الفلسفة التي تحاول أن تكوّن نظرة كلية عامة للتاريخ، ومعرفة القوانين الثابتة والمطردة التي تحكم حركة التاريخ وتحركه وتفسره.
وهذا الحقل على أهميته وقيمته المعرفية والمنهجية، إلا أنه لم يُعتَن به كثيراً في مجال الدراسات الإسلامية، ولم يُجرَّب ويُطبَّق بصورة كبيرة في هذه الدراسات، والمحاولات التي اقتربت من هذا الحقل تعد قليلة1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الخميس / 12 ابريل 2007م، العدد 14838.