نص الشبهة:
ما معنى قوله تعالى مخبرا عن إبراهيم عليه السلام لما قال له قومه ﴿ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ﴾ وإنما عنى بالكبير الصنم الكبير. وهذا كذب لا شك فيه، لأن إبراهيم ( ع) هو الذي كسر الأصنام، فإضافته تكسيرها إلى غيره مما لا يجوز أن يفعل شيئا لا يكون إلا كذبا.
الجواب:
قيل له الخبر مشروط غير مطلق، لأنه قال إن كانوا ينطقون ومعلوم أن الأصنام لا تنطق، وأن النطق مستحيل عليها. فما علق بهذا المستحيل من الفعل أيضا مستحيل، وإنما أراد إبراهيم بهذا القول تنبيه القوم وتوبيخهم وتعنيفهم بعبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يقدر أن يخبر عن نفسه بشئ.
فقال إن كانت هذه الأصنام تنطق فهي الفاعلة للتكسير، لأن من يجوز أن ينطق يجوز أن يفعل.
وإذا علم استحالة النطق عليها علم استحالة الفعل عليها، وعلم باستحالة الأمرين أنها لا يجوز أن تكون آلهة معبودة، وأن من عبدها ضال مضل، ولا فرق بين قوله إنهم فعلوا ذلك إن كانوا ينطقون، وبين قوله إنهم ما فعلوا ذلك ولا غيره لأنهم لا ينطقون ولا يقدرون.
وأما قوله (ع) فاسألوهم إن كانوا ينطقون، فإنما هو أمر بسؤالهم أيضا على شرط، والنطق منهم شرط في الأمرين، فكأنه قال: إن كانوا ينطقون فاسألوهم، فإنه لا يمتنع أن يكونوا فعلوه. وهذا يجري مجرى قول أحدنا لغيره: من فعل هذا الفعل؟ فيقول زيد. إن كان فعل كذا وكذا. ويشير إلى فعل يضيفه السائل إلى زيد، وليس في الحقيقة من فعله.
ويكون غرض المسؤول نفي الأمرين جميعا عن زيد، وتنبيه السائل على خطئه في إضافة ما أضافه إلى زيد، وقد قرأ بعض القراء وهو محمد بن علي السهيفع اليماني: فعله كبيرهم بتشديد اللام، والمعنى فلعله، أي فلعل فاعل ذلك كبيرهم.
وقد جرت عادة العرب بحذف اللام الأولى من لعل فيقولون عل، قال الشاعر: عل صروف الدهر أو دولاتها * تديلنا اللمة من لماتها فتستريح النفس من زفراتها أي لعل صروف الدهر.
وقال الآخر: يا أبتا علك أو عساكا *** يسقيني الماء الذي سقاكا
فإن قيل: فأي فايدة في أن يستفهم عن أمر يعلم استحالته، وأي فرق في المعنى بين القراءتين؟.
قلنا: لم يستفهم ولا شك في الحقيقة، وإنما نبههم بهذا القول على خطيئتهم في عبادة الأصنام.
فكأنه قال لهم إن كانت هذه الأصنام تضر وتنفع وتعطي وتمنع، فلعلها هي الفاعلة لذلك التكسير، لأن من جاز منه ضرب من الأفعال جاز منه ضرب آخر، وإذا كان ذلك الفعل الذي هو التكسير لا يجوز على الأصنام عند القوم، فما هو أعظم منه أولى بأن لا يجوز عليها وأن لا يضاف إليها، والفرق بين القراءتين ظاهر، لأن القراءة الأولى لها ظاهر الخبر، فاحتجنا إلى تعليقه بالشرط ليخرج من أن يكون كذبا.
والقراءة الثانية تتضمن حرف الشك والاستفهام، فهما مختلفان على ما ترى.
فإن قيل: أليس قد روى بشر بن مفضل عن عوف عن الحسن قال: ” بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال إن إبراهيم عليه السلام ما كذب متعمدا قط إلا ثلاث مرات كلهن يجادل بهن عن دينه قوله إني سقيم، وإنما تمارض عليهم لأن القوم خرجوا من قريتهم لعيدهم وتخلف هو ليفعل بآلهتهم ما فعل.
وقوله بل فعله كبيرهم، وقوله لسارة إنها أختي لجبار من الجبابرة لما أراد أخذها “.
قلنا: قد بينا بالأدلة العقلية التي لا يجوز فيها الاحتمال ولا خلاف الظاهر، أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكذب.
فما ورد بخلاف ذلك من الأخبار لا يلتفت إليه، ويقطع على كذبه إن كان لا يحتمل تأويلا صحيحا لايقا بأدلة العقل، فإن احتمل تأويلا يطابقها تأولناه ووفقنا بينه وبينها.
وهكذا نفعل فيما يروى من الأخبار التي تتضمن ظواهرها الجبر والتشبيه.
فأما قوله (ع) إني سقيم، فسنبين بعد هذه المسألة بلا فصل وجه ذلك، وأنه ليس بكذب. وقوله بل فعله كبيرهم قد بينا معناه وأوضحنا عنه.
وأما قوله (ع) لسارة أنها أختي، فإن صح فمعناه أنها أختي في الدين، ولم يرد أخوة النسب.
وأما ادعائهم على النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ما كذب إبراهيم (ع) إلا ثلاث مرات، فالأولى أن يكون كذبا عليه (ع) لأنه صلى الله عليه وآله كان أعرف بما يجوز على الأنبياء (ع) وما لا يجوز عليهم، ويحتمل إن كان صحيحا أن يريد ما أخبر بما ظاهره الكذب إلا ثلاث دفعات، فأطلق عليه اسم الكذب لأجل الظاهر، وإن لم يكن على الحقيقة كذلك 1.
- 1. تنزيه الأنبياء عليهم السلام للسيد مرتضى علم الهدى، دار الأضواء: 42 ـ 45.