هناك شبه إجماع وثائقي على أن ولادة الإمام المهدي المنتظر عليه السلام: فجر يوم الجمعة، الخامس عشر من شعبان المعظم، سنة خمس وخمسين ومائتين من الهجرة المباركة.
وهو الإمام أبو القاسم، محمد المهدي بن الإمام الحسن العسكري ابن الإمام علي الهادي بن الإمام محمد الجواد بن الإمام علي الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن سيد الشهداء الإمام الحسين بن الإمام أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين علي بن أبي طالب عليهم السلام.
وكان زواج أبيه الإمام الحسن العسكري قد جرى بسرية تامة إلا عند القلائل، ثم خفاء أمر أمه به، ثم التكتم على اسم الأم بالذات حذر قبض السلطة عليها، أو ممارسة الضغط عليها للإخبار عن ولدها، فهي (نرجس) في أشهر الروايات، وهي (صقيل) في سواها، وهي (سوسن) في غيرها، وهي (ريحانة) عند آخرين، وهي (خمط) عند بعض المحدثين.
وجاء الاختلاف في الاسم مقصوداً إليه فيما يبدو، لئلا يكتشف أمر والدته على التعيين من بين إماء الحسن العسكري عليه السلام.
يضاف إلى هذا التكتم على ولادة الإمام داخلياً، إذ لم تحضرها إلا عمة الإمام الحسن العسكري السيدة حكيمة بنت الإمام محمد الجواد التي طلب منها الإمام العسكري عليه السلام أن تكون في الصورة حضوراً في دار الإمام لقرب موعد ميلاد ولي الله، لتتولى من شؤون والدته ما تتولاه النساء من النساء حين الولادة، فحدثت الولادة عند الفجر، فأخذت السيدة حكيمة الوليد الجديد بعد أن لفته في ثوب، وحملته إلى أبي محمد العسكري عليه السلام.
فتناوله الإمام الحسن العسكري عليه السلام، وأخرج لسانه فمسح على عينيه ففتحهما، ثم أدخله في فيه، فحنكه، وأذن الإمام العسكري في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، وعق عنه بكبشين.
ثم أمر الإمام العسكري بتوزيع الخبز الكثير الوافي على الفقراء والطعام على المساكين والأولياء بما تداولته المصادر كثرة ووفرة.
وكان التكتم على نبأ الميلاد الميمون جارياً إلا عن الصفوة وعلية الأصحاب والأقارب حفاظاً عليه من السلطان، وحرصاً على سلامته من الظالمين، وذلك لصعوبة ذلك الزمان، وشدة طلب السلطان، واجتهاد طواغيت العصر في البحث عنه.
وذلك لعلم السلطة اليقيني أن هذا الوليد هو المنتظر لإقامة دولة العدل الإلهي، وذلك ما يقلقهم ويفزعهم، وقد تلقوا ذلك عن مصادرهم من آبائهم، وأنه هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلما وجورا.
لذلك كان تعقب أجهزة الدولة العباسية لجواري الإمام الحسن العسكري جارياً على أشده عند وفاته، وقبضها على بعضهن، وإيداعها المعتقل لشبهة الحمل، تغطية منها على ولادة الإمام المهدي عليه السلام.
وكان لخفاء تواجد الإمام المهدي العلني، ولاختفائه عن الأنظار، والتعمية على مكانه وحله وترحاله، إلا من قبل الصفوة المختارة من النواب والوكلاء والأمناء على دين الله، مثار اضطراب وارتباك للسلطة والنظام العباسي.
يقول الأستاذ الشيخ محمد حسن آل ياسين طاب ثراه:
(وطبيعي أن تثير هذه السرية المتعددة الجوانب كثيراً من الشكوك في نفوس الأبعدين عن دائرة الارتباط الوثيق والعلاقة المباشرة بشؤون الإمامة والأئمة، وهم الذين لم يعلموا بنبأ ولادته كي يقروا بوجوده، وكانت للسلطة يد طولى في تلك الحرب النفسية المستغلة لكتمان أمر هذا الوليد لنفي ميلاده وتكذيب خبره، وإن بقيت تبحث عنه هنا وهناك حقبة من الزمن حتى أيست من استطاعتها العثور عليه والإمساك به).
وكانت السلطة متناقضة في تحركها الإعلامي ضد الإمام المهدي عليه السلام، فبينا هي تكذب خبر ميلاده وتنكر وجوده، وإذا بها تكبس دار أبيه للتفتيش عنه، وبينا هي تتبنى حملة التشكيك به، وإذا بها تبحث عنه بشتى المسالك، وبينا هي تدعم كل الأصوات المعلنة تكذيب أمره جملة وتفصيلاً، وإذا بها تعتقد اعتقاداً جازماً بوجوده وميلاده وحياته، وتتعبقه تحت كل حجر ومدر إطفاء لنار حقدها، وإرضا لعوامل سخطها، ومداراة لهواجس تخوفها، وإشباعاً لرغبة القضاء على ذكر أهل البيت عليهم السلام.
ومما عمدت إليه السلطة أن أيدت _الى حين_ دعوى جعفر الكذاب خلافة أخيه الحسن العسكري عليه السلام في الإمامة، وافتراءه بادعاء الولاية الإلهية، إلا أن الإمامية رفضوا هذه الدعوى وسخروا منها، لمعرفتهم الحقيقة بمداخلات جعفر هذا في اللهو والعبث ومجانبة خط الأئمة عليهم السلام ولم يحظ من العلم بطائل، وليس له ما يؤهله للقيادة إطلاقاً، ومع إدراك هذه الحقيقة المرة لدى مركز الخلافة العباسية إلا أن السلطان أيده عسى ان يسبب ذلك شيئا من الحيرة والارتباك لدى أولياء الأئمة، ولكن اتباع الائمة عليهم السلام من الثقات والامناء على دين الله قد أماطوا اللثام عن جهل جعفر الكذاب، وعدم إحاطته بشيء من العلم اللدني الذي يتمتع به الأئمة المعصومون عليهم السلام، وقد كشف جعفر عن عدم اضطلاعه بأي شيء مما ينبغي أن يعلمه الإمام، ورد على أسئلة أولياء أهل البيت بأن ذلك من علم الغيب الذي لا يهتدي إليه، وكان ذلك منه مغالطة صريحة، إذ أن الأخبار بجزء من المغيبات ليس علماً للغيب بالمعنى الأخص، ولكنه علم من ذي علم، مما علمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأمير المؤمنين عليه السلام، فأفاض به أمير المؤمنين على أبنائه المعصومين بالرواية أو بالأثر المحفوظ خلفاً عن سلف.
وقد صح في كتب الحديث إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما سيجري، واضطلاعه بعلم ذلك حتى قيام الساعة.
ومع ظهور الدلائل لجعفر الكذاب على صدق ابن أخيه الحجة المنتظر، ومع علمه بأنه صاحب الأمر بين أهل البيت بعد وفاة أبيه، إلا أنه ظل سادراً في غيه، مصرا على عناده، رغبة في الدنيا والجاه وحب الرئاسة، وابتعاداً عن الدين ودساتيره.
والطريف في الأمر أن يرى جعفر نفسه الإمام المهدي في ثلاث وقائع:
الأولى: حينما أراد الصلاة على أخيه العسكري، فجبذ (جذب) الإمام المهدي برداء جعفر، وقال:
(تأخر يا عم، فأنا أحق بالصلاة على أبي) فتأخر جعفر وقد اربد وجهه، وصلى الإمام المنتظر على أبيه.
الثانية: حينما نازع في ميراث أخيه الإمام العسكري، فظهر له الإمام المهدي من موضع لم يعلم به، وقال لجعفر:
( يا جعفر مالك تتعرض في حقوقي؟) ثم غاب عنه.
الثالثة: لدى وفاة والدة الإمام الحسن العسكري، وقد أوصت أن تدفن في الدار، فنازعهم جعفر في ذلك، وقال: هي داري!! لا تدفن فيها، فظهر له المهدي: يا جعفر… أدارك هي؟ ثم غاب عنه .