كان ذلك الفجر آلف وأبهى فجر من السَّنة الثالثة للهجرة، حيث استقبل بأصابع من نورٍ وليداً، ما أسعده وما أعظمه.
في الثالث من شعبان غمر بيت الرسالة نور سنيٌّ متألّقٌ؛ إذ جاء ذلك الوليد المبارك واصطفاه الله ليكون امتداداً للرسالة، وقدوة للاُمّة، ومنقذاً للإنسان من أغلال الجهل والعبوديّة، ولا ريب أنّنا سوف ننبهر إذا لاحظنا بيت الرسالة وهو يستقبل الوليد الجديد، فهذا البيت البسيط الذي يستقرّ على مرفوعته الاُولى الرسول صلىاللهعليهوآله، الجدّ الرؤوف والوالد الحنون (صلوات الله عليهما وآلهما).
وأتاه الخبر: إنّه وُلِد لفاطمة عليهاالسلام وليدٌ، فإذا به صلىاللهعليهوآله يغمره مزيج من السّرور والحزن، ويطلب الوليد بكلّ رغبة ولهفة. فماذا دهاك يا رسول الله، بأبي أنت واُمّي! هل تخشى على الوليد نقصاً أو عيباً؟! كلاّ، إنّ تفكير صاحب الرسالة يبلغ به مسافات أوسع وأبعد ممّا يفكّر فيه أيّ رجل آخر، ومسؤوليّته أعظم من مسوؤليّة أب أو واجبات جدٍّ أو وظائف قائد، إنّه مُكوِّن اُمّة، وصانع تاريخ، ونذير الخالق تعالى إلى العالمين.
إنّه يذهب بعيداً في تفكيره الصائب فيقول: لا بدّ للمنيّة أنْ توافيه في يوم من الأيّام، ولا بدّ لجهوده أنْ تفسح أمامها مجالات أوسع ممّا بلغتها اليوم، فسوف تكون هناك اُمّة تُدعى (بالاُمّة الإسلاميّة) تتّخذ من شخص الرسول صلىاللهعليهوآله اُسوة وقدوة صالحتَين.
ولا بدّ لهذه الاُمّة من هداة طاهرين، وقادة معصومين يهدون الاُمّة إلى الصراط المستقيم، إلى الله العزيز الحكيم، وسوف لا يكونون -كما أخبرته الرسالة مراراً- إلاّ ذرِّيّته هؤلاء؛ عليُّ ابنُ عمِّه، وولداه عليهمالسلام، ثمّ ذُرِّيّتهم الطيّبة من بعدهم.
ولكن هل تجري الاُمور كما يريدها الرسول صلىاللهعليهوآله في المستقبل؟
إنّ وجود العناصر المنحرفة بين المسلمين نذيرٌ لا يرتاح له الرسول صلىاللهعليهوآله على مستقبل الاُمّة، وإنّ الوحي قد نزل عليه غير مرّة يخبره بأنّ المصير الذي رآه الحقُّ المتمثّل في شخص الرسول صلىاللهعليهوآله هو نفس المصير الذي يترقّبه الحقّ المتمثّل في آله عليهمالسلام؛ وإنّ العناصر التي قاومت الرسالة في عهده سوف تكون نفس العناصر التي تقاوم -بنفس العنف والإصرار- امتداد الرسالة في عهد أبنائه الطيّبين (صلوات الله عليه وعليهم).
فقد علم أنّه سوف تبلغ الموجة مركزها الجائش، وسوف يقف أنصار الحقّ والباطل موقفهم الفاصل في عهد الإمام الحسين عليهالسلام، هذا الوليد الرضيع الذي يُقلِّب وجهه فيظهر مستقبله على ملامح الرسول وهو يضطرب على ساعدَيه المباركتَين.
والنّبيُّ صلىاللهعليهوآله يلقي نظرةً على المستقبل البعيد ويعرج فيه، فيلقي نظرة اُخرى على هذا الرضيع الميمون فيهزّه البُشر حيناً، ويهيج به الحزن أحياناً، ولا يزال كذلك حتّى تنهمر من عينَيه الوضيئتَين دموع ودموع. يبكي رسول الله صلىاللهعليهوآله وما أشجعه! وهو الذي يلوذ بعريشه أشجع قريش وأبسلها عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام حينما يشتدّ به الروع، فيكون أقرب المحاربين إلى العدو، ثمّ لايفلُّ ذلك من عزمه ومضائه قدر أنملة، لكنّه الآن يبكي وحوله نسوة في حفلة ميلاد، فما أعجبه من حادث!
تقول أسماء فقلتُ: فداك أبي واُمّي، ممَّ بكاؤك؟ قال صلىاللهعليهوآله: «على ابنِي هذا». فقلتُ: إنّه وُلِد السّاعة يا رسول الله! فقال: «تقتله الاُمّة الباغية من بعدي. لا أنالهم الله شفاعتي»1.
إنّ القضيّة التي تختلج في صدر رسول الله صلىاللهعليهوآله ليست عاطفة إنسانيّة، أو شهوة بشريّة حتّى تُغريه عاطفة إعلاء ذكره وبقاء أثره في آله، كلاّ، بل هي قضيّة رسول اصطفاه الله واختاره على علم منه، بعزمه ومضائه، وصدقه وإيمانه. قضيّة مَن تَحمَّل مسؤوليّةً أشفقت من حملها السّماوات والأرض والجبال الرواسي، إنّها مسؤوليّة الرسالة العامّة إلى العالمين جميعاً.
والحسينُ عليهالسلام ليس ابنه فقط، بل هو قدوة واُسوة لمن ينذر من بعده، فنبأ مصرعه -هو بالذات- نبأ مصرع الحقّ بالباطل، والصدق بالكذب، والعدالة بالظلم، وهكذا.
فيبكي النّبيُّ صلىاللهعليهوآله لذلك، ويحقّ له البكاء، إنّها ظاهرة ميلادٍ غريبة نجدها السّاعة في بيت الرسالة، تمتزج المسرَّة بالدموع، والابتسامة بالكآبة، فهي حفلة الصّالحين تدوم في رحلة مستمرّة بين الخوف والرجاء، والضحك والبكاء.
لنصغ قليلاً لنسمع السّماء هل تشارك المحتفلين في هذا البيت الهادئ البسيط؟ نعم، نسمع حفيفاً يقترب ونظنّه حفيف الملائكة، فإذا بهم ملأوا رحاب البيت. يتقدّم جبرائيل عليهالسلام فيقول: يا محمّد، العليُّ الأعلى يُقرؤك السّلام، ويقول: «عليٌّ منك بمنزلةِ هارونَ منْ مُوسى، ولا نبيّ بعدَك. سمِّ ابنكَ هذا باسمِ ابنِ هارونَ». فيقول النّبيُّ صلىاللهعليهوآله: «وما اسم ابن هارون؟». فيُجيب: شُبَير. فيقول النّبيُّ صلىاللهعليهوآله: «لساني عربي». فيُجيب جبرائيل: سَمِّه الحسين. فيُسميه الحسين2.
ويتقدّم فطرس، ومَن هو هذا الملك المهيضة جناحاه يحمله رفاقه؟ إنَه مطرود من باب الله، لم يزل في السّجن يُعذب حتّى واتته أفواج من الملائكة، فقال لهم: مالي أراكم تعرجون وتهبطون، أقامت السّاعة؟ فقال جبرائيل: كلاّ، وإنّما وُلِد للنّبيِّ الخاتم صلىاللهعليهوآله وليدٌ، فنحن ذاهبون إلى تهنئته السّاعة. فقال: أفلا يمكن أنْ تحملوني إليه علّه يشفع لي فيُشفّع؟ فجاء به جبرائيل عليهالسلام.
فها هو ذا يتقدم إلى الرسول صلىاللهعليهوآله يتوسّل به إلى الله، فأومأ صلىاللهعليهوآله إلى مهد الحسين عليهالسلام وهو يهتزّ في وداعة، فراح الملك يلمس جوانب المهد بجناحيه المكسورتَين، فإذا هو وقد ردَّهما الله عليه؛ إكراماً منه لوجه الحسين عليهالسلام عنده.
وتنتهي الحفلة، ويأخذ النّبي صلىاللهعليهوآله الرضيع الميمون بيدَيه ويحتضنه، ويؤذِّن في إحدى أُذنَيه ويُقيم في الاُخرى، ثمّ يجعل لسانه في فم الوليد فيغذّيه من رضابه الشريف ما شاء، ثمّ يعقُّ عنه بعد اُسبوع بكبشَين أملحَين، ويتصدَّق بزنة شعر رأسه بعد أنْ حلقه دراهم، ثمّ يُعطِّره ويومئ إلى أسماء فيقول: «الدَّم من الجاهليّة».
وهكذا ينقلب الجدّ الحنون إلى اُسوة حسنة للمسلمين، فلا يكتفي بإجراء الآداب الإسلاميّة، وهي في روعتها ونضارتها عملاً، وإنّما ينسخ بالقول أيضاً لعنة الجاهليّة؛ حيث كانوا يضمّخون رؤوس ولدانهم بالدَّم إعلاناً لتوحّشهم، وإيذاناً لطلب تِراتِهم.
ولَم يزل ذلك الوليد المبارك يترعرع في أحضان الرسالة، ويعتني به صاحبها محمّد صلىاللهعليهوآله، وربيبها علي عليهالسلام حتّى بلغ من العمر زهاء سنتَين، ولكن لم يتفتّح لسانه عن أداء الكلام أبداً. عجباً! إنّ ملامح الوليد تدلّ على ذكاء مفرط، ومضاء جديد، ومع ذلك فَلِم لَم يتكلَّم بعد، أيمكن أنْ يكون ذلك لثقل في لسانه؟!
وذات يوم إذ اصطفّ المسلمون لإقامة صلاة الجماعة يَؤمُّهم الرسول الأعظم، وإلى جانبه حفيده الحبيب الحسين عليهالسلام، ولما تهيّأ القوم للتحريم، كان الخشوع مستولياً على القلوب، والهدوء سائداً على الجو، والكلّ ينتظرون أنْ يُكَبِّر الرسول صلىاللهعليهوآله فَيُكَبِّروا معه، فإذا هم بصوته الخاشع الوديع يكسر سلطان السكوت ويقول: «اللهُ أكبر».
وإذا بصوت ناعم خافت يشبه تماماً صوت النّبيِّ صلىاللهعليهوآله بكلّ نغماته ونبراته، وما فيه من خشوع ووداعة يقول: «اللهُ أكبر». إنّه صوت الحسين عليهالسلام.
فكرّر الرسول صلىاللهعليهوآله: «اللهُ أكبر». فأرجع الحسين عليهالسلام: «اللهُ أكبر». والمسلمون يستمعون ويُكبِّرون ويتعجّبون، فردّد الرسول صلىاللهعليهوآله ذلك سبعاً، ورجعه الحسين عليهالسلام سبعاً، ثمّ استمرّ النّبي صلىاللهعليهوآله في صلاته والحسين عليهالسلام يسترجع منه،
فقد كانت أوّل كلمة لفظها فم الحسين عليهالسلام كلمة التوحيد: «اللهُ أكبر».
وفيما نخطوا مع التاريخ بعض الخطوات الفاصلة، ننظر إلى هذا الوليد بالذات -ذلك الذي لم يفتح فمه إلاّ على كلمة (الله أكبر) – ننظر إليه بعد خمس وخمسين سنة وهو يمارس آخر خطوات الجهاد المقدّس، ويعالج آخر لحظات الألم وقد طُرح على الرمضاء تلفحه حرارة الشمس، ويمزّق كبده الشريف حرُّ العطش، ويلفّه حرّ السّلاح المصلصل.
فنستمع إليه وهو يحرّك شفَتَين طالما لمستهما شَفَتا رسول الله صلىاللهعليهوآله يتضرّع إلى بارئه، يقول: «إلهِي، رِضاً بِرضَاكَ، لا مَعْبُودَ سِواكَ». ولا يزال يتمتّع حتّى يُعرَج بروحه الطاهرة المقدّسة إلى السّماء (عليه أفضل الصلاة والسّلام).
وإذا ثبت بالتجارب الحديثة أنّ للوراثة آثارها البالغة، وأنّ للتربية حظّها الكبير في إنماء خُلق الطفل وتكييف صفاته، فلا نشكّ في أنّ أبوي الحسين (عليه وعليهما السّلام) كانا من أرفع الآباء خُلقاً، وأكرمهم نسباً، وإنّ تربيتهما كانت أحسن تربية وأشرفها وأقدرها على إنماء الأخلاق الفاضلة، والسّجايا الحميدة في نفس الإنسان.
وهل نشكّ في ربيب الرسول صلىاللهعليهوآله ذاته، وربيب مَن ربّاهما الرسول، فاطمة وعلي (عليهم جميعاً صلوات الله وتحياته)؟
أفلا نرضى من الله العزيز كلمته العظيمة في القرآن، حيث يقول:﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ﴾ 3؟
فالبحران: هما بحر النبوّة ومنبعه فاطمة عليهاالسلام عن الرسول صلىاللهعليهوآله، وبحر الوصاية من قِبَلِ عليٍّ عليهالسلام. فلا بدّ لهذين البحرَين -إذا التقيا- أنْ يخرج منهما اللؤلؤ (الحسنُ)، والمرجان (الحسينُ) عليهماالسلام. هذه هي الوراثة، إنّها أقدس وأرفع ممّا يُتصوّر.
ولا تسأل عن التربيّة، فلقد كانت أنصع وأروع من كلّ تربية، كان شخص الرسول صلىاللهعليهوآله يهتمّ بالحسين عليهالسلام وتربيته بصورة مباشرة. وبين يديك حديثان تعرف منهما مدى رعاية الرسول صلىاللهعليهوآله لشأن الحسين عليهالسلام، ممّا يؤكّد لك أنّ الحسين عليهالسلام لَم يكن ربيب عليٍّ وفاطمة عليهماالسلام فقط، بل تربّى على يد جدِّه النّبيِّ صلىاللهعليهوآله ذاته.
عن يعلى العامري: إنّه خرج من عند رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى طعام دُعي له، فإذا هو بالحسين عليهالسلام يلعب مع الصبيان، فاستقبل النّبيّ صلىاللهعليهوآله أمام القوم، ثمّ بسط يدَيه فطفر الصبيُّ ها هنا مرّة وها هنا مرّة، وجعل رسول الله صلىاللهعليهوآله يُضاحكه حتّى أخذه، فجعل إحدى يدَيه تحت ذقنه والاُخرى تحت قفاه، ووضع فاه إلى فيه وقبّله4. واستسقى الحسن عليهالسلام، فقام رسول الله صلىاللهعليهوآله فجدع له في غمر كان لهم5 ثمّ أتاه به، فقام الحسين عليهالسلام فقال: «اسقنيه يا أبه». فأعطاه الحسن، ثمّ جرَّع للحسين عليهالسلام فسقاه، فقالت فاطمة عليهاالسلام: «كأنّ الحسن أَحبَّهما إليك». قال صلىاللهعليهوآله: «إنّه استسقى قبله، وإنّي وإيّاك وهما وهذا الراقد -وأومأ إلى عليٍّ أمير المؤمنين عليهالسلام- في مكان من الجنّة»6.
وظلّ الوليد النّبيه يشبّ في كنف الرسول صلىاللهعليهوآله وظلِّ الوالدَين الطاهرَين عليهماالسلام، والرسول صلىاللهعليهوآله يُوليه من العناية والرعاية ما يبهر ألباب الصحابة ويحيِّزهم. ولطالما بعث الرسول صلىاللهعليهوآله بكلماته النيِّرة على مسمع المئات المحتشدة من المسلمين، يقول: «الحَسنُ والحُسينُ سَيِّدا شبابِ أهلِ الجَنَّة». و «الحَسنُ والحُسينُ إمامانِ قامَا أو قعدَا». ويقول: «حُسينٌ منِّي وأنا مِنْ حُسينٍ». ويرفعه بين النّاس -وهم ينظرون- فيُنادي: «أيّها النّاسُ، هذا الحُسينُ بنُ عليٍّ فاعْرِفُوه». ثمّ يُردف قائلاً: «والذي نفسِي بيدِهِ، إنّهُ في الجَنَّةِ ومعَهُ أحبَّاؤهُ». و قد يتبوّأ له مقعداً في حضنه المبارك ويشير إليه، فيقول:
((اللهمّ، إنِّي أُحبُّه فأَحبّه)). ولطالما يحمله هو وأخاه على كاهله الكريم وينقلهما من هنا إلى هناك، والملأ من المسلمين يشهدون.
وهكذا ترعرع الوليد الحبيب في ظلّ الرسالة وفي كنف الرسول صلىاللهعليهوآله، وأخذ منهما حظّاً وافراً من المجد والسّناء7.
- 1. بحار الأنوار / المجلّد العاشر.
- 2. انظر: كتاب قاموس اللغة في مادة (شبر)، وكتاب بحار الأنوار 104 / 111.
- 3. القران الكريم: سورة الرحمن (55)، الآيات: 19 – 22، الصفحة: 532.
- 4. مستدرك 2 / 626.
- 5. أي: غرف لهم من قدح ماء.
- 6. معالم الزلفى / 259.
- 7. من كتاب الإمام الحسين عليهالسلام قدوةٌ واُسوة.