لقد اتخذ معاوية و غيره من الحاكمين الأمويين من الإسلام طلاء خفيفاً يسترون به نزعاتهم الجاهلية التي كانوا يعملون لإحيائها و تحوير الإسلام إلى مؤسسة تخدم مصالحهم و أهوائهم و كان المجتمع الإسلامي يتململ تحت وطأة الظلم و الاضطهاد الذي عبرت عنه مواقف حجر عن عدي و عمرو بن الحمق الخزاعي و أصحابهما الذين قاوموا ظلم معاوية و أنصاره ، و لكن تلك المقاومة لم تأخذ مداها و لم تضع حداً لتصرفات الحاكمين و جورهم بل سرعان ما كانت تهمد أو تموت في مهدها عندما يلاحق أولئك الجزارون طلائعها بقتلهم أو زجهم في السجون و المعتقلات بدون أن يحرك المجتمع ساكنا ، و إذا تحرك انسان أغدقوا عليه الأموال و أغروه بالوعود كما حدث لمالك بن هبيرة السكوني الذي غضب لمصرع حجر بن عدي و أصحابه و راح يستعد للثورة و لما علم بتحركه معاوية ارسل إليه معاوية مائة ألف درهم فأخذها و طابت نفسه .
لقد عاصر الحسين ( عليه السَّلام ) جميع تلك التحركات التي قام بها الأمويون و الحاقدون على الإسلام و مبادئه الإنسانية العادلة ، لقد عاصرها منذ أن نشئت مع أبيه و أخيه و أصحابهما الكرام ، و ها هو بعد إستشهاد أخيه بجنود العسل التي أعدها معاوية لكل من كان يخشى منه على دولته و أمويته ، يقف وحيداً في وجه معاوية و أجهزة حكمه الإرهابي ، و يرى بعينيه أولئك الصفوة بقية السيف من شيعة أبيه و أخيه يساقون أفواجا إلى الجلادين و الجزارين في مرج عذراء و قصر الخضراء ، و يرى منهج معاوية و حواشيه الذي اعتمدوه للوصول بالأمة إلى هذا المصير الكالح و كيف يطاردون و يضطهدون العشرات و المئات من المسلمين عندما ينكرون ظلماً و عد و أنا على القيم و المقدسات و كرامة الإنسان .
لقد عاصر مع أبيه و أخيه جميع تحركاتهم المعادية للإسلام و بقي وحيداً في ساحة الصراع مع معاوية و أجهزة حكمه الإرهابي المستبد الذي أراد للأمة أن تتحول عن أهدافها و للإسلام أن ينحرف عن مسيرته و رآهم كيف يحورون الإسلام و يزوّرون مبادئه الإنسانية التي جاء بها محمد بن عبد الله رحمة للعالمين ، و رأى حملة التخدير على حساب الدين و الكذب على رسول الله و كيف يبيع المسلم نفسه و حياته و حريته و كرامته بحفنة من الدراهم للحاكمين الظالمين و يرضى بحياته على ما فيها من نكد و قسوة و حرمان .
لقد رأى كل ذلك و كان القلق يستبد به و الألم يحز نفسه و قلبه لمصير الرسالة و الإنسانية في ظل هذا التحول الخطير الذي كان الأمويون يعملون على تعميقه و إستئصال الشخصية الإسلامية ليطمئن الحاكمون ان تصرفاتهم لن تثير أي استنكار لدى الجماهير و يختفي من ضمائرهم الشعور بالإثم الذي يدفع المسلم إلى الثورة على الظلم و الظالمين .
لقد استخدم الأمويون لإستئصال الروح الإسلامية و الشخصية الإسلامية بالإضافة إلى الأموال و جميع وسائل الإرهاب ، مدرسة الرواة و المحدثين و القصاصين و على رأس هذه المدرسة أبو هريرة و كعب الاحبار و سمرة بن جندب و غيرهم ممن استخدموهم لصنع الأحاديث و أفرزت مصانعهم أل و أنا من الأحاديث نسبت إلى النبي ( صلى الله عليه و آله ) افتراء و بهتاناً ، و من ابرزها و أرضاها لمعاوية و الحزب الأموي ما كان يتضمن القدح في علي و آل علي .
لقد بذل معاوية ما يعادل نصف المليون من الدراهم لسمرة بن جندب ليروي له عن الرسول ان الآية : و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا و إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث و النسل نزلت في علي بن أبي طالب ، و أن الآية : و من الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضات الله نزلت في قاتله عبد الرحمن بن ملجم فروى له ما أراد ، إلى كثير من أمثال ذلك حتى أصبح تسخير المحدثين لهذه الغاية من السنن المتبعة عند من جاء بعده من الأمويين و العباسيين .
فقد جاء عن هشام بن الحكم انه طلب من شهاب الزهري أو غيره من الرواة ان يروي له عن الرسول أن الآية و الذي تولى كبره له عذاب أليم نزلت في علي بن أبي طالب فروى له ما أراد و عندما أوعز الحاكمون لأنصارهم بتدوين الحديث دونوا جميع هذه الأنواع من المخترعات و لم يأذنوا لهم بتدوين ما جاء عن النبي في فضله ، فقد جاء في المجلد الثاني من ضحى الإسلام لأحمد امين ان خالد بن عبد الله القسري طلب من الزهري ان يكتب سيرة النبي ، فقال له الزهري : ان سيرة النبي يمر بها الكثير من سيرة علي و مواقفه الخالدة في خدمة الإسلام فما أصنع بهذا النوع من المرويات ؟ فلم يأذن له بتدوين شيء يشير إلى فضل علي و تمجيده إلا إذا تضمن قدحا أو ذما .
و من تلك الألوان التي افرزتها تلك المدرسة ما يرجع إلى تمجيد بني أمية و بلاد الشام و ما إلى ذلك مما يتعلق بعثمان بن عفان و معاوية بن هند و اعطائهما صفات القديسين كالذي رواه أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه و آله ) أنه قال : ان الله ائتمن على وصيه ثلاثة انا و جبرائيل و معاوية ، و أنه قال : إذا لقيتم بعدي اختلافاً فعليكم بالأمين عثمان بن عفان .
و من تلك المرويات ما يرجع إلى تخدير المسلمين عن الثورة و التحرك ضد الحاكمين مهماً بالغوا في الجور و الظلم و أن مقاومتهم لإستبدالهم بغيرهم حتى و لو كان البديل من أعدل الناس و أحرصهم على مصالح المسلمين و على مسيرة الإسلام لا يقرها الإسلام .
فمن ذلك ما رواه أصحاب الصحاح عن النبي ( صلى الله عليه و آله ) انه كان يقول : من رأى من اميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه فان من فارق الجماعة شبرا و مات مات ميتة جاهلية ، و أنه كان يقول : ستكون بعدي هنات و هنات فمن اراد أن يفرق أمر هذه الأمة و هي جمع فاضربوه بالسيف كائنا من كان و من خرج على إمام زمانه فاقتلوه ، إلى غير ذلك مما رواه البخاري في صحيحه و غيره من محدثي السنة في مجاميعهم .
و إلى جانب ما انتجته مصانع أبي هريرة و غيره من تلك العصابة اخترع الحاكمون لونا آخر من ألوان التضليل الديني و هو تأسيس الفرق الدينية التي تقدم للجماهير تفسيرات للدين تخدم تسلط الحاكمين و تبرر جورهم و ظلمهم كفرقتي المرجئة و المجبرة اللتين ظهرتا في عهد معاوية و ساعد على دعمهما و انتشارهما حتى اصبحتا من أوفر المذاهب حظا لدى الحاكمين و فراعنة العصور ، هذا بالإضافة إلى عدالة الصحابة التي لا تقل خطراً عن فكرتي الإرجاء و الجبر و التي تجعله و اباه و المروانيين الاوزاغ من الكذبة و المجرمين في صفوف الصلحاء و لا تسمح لا حد أن ينالهم بسوء .
لقد رافق أبو عبد الله كل ذلك و كان يتلوى و يتألم للمصير السيء الذي ينتظر الإسلام من معاوية و غيره من القردة الذين سينزون على منبر الرسول و يستخدمون الإسلام لجاهليتهم الأولى ، و كانت مبررات الثورة على الحكم الأموي موفورة في عهد معاوية و الحسين يدركها و يعرفها و أحيانا كان يعبر عنها في المجالس و المجتمعات و المناسبات و يصارح بها معاوية في الرسائل التي كان يوجهها إليه بين الحين و الأخر .
و جاء في بعض اجوبة رسائله إليه : و هيهات هيهات يا معاوية لقد فضح الصبح الدجى و بهرت الشمس أنوار السراج لقد فضلت حتى افرطت و استأثرت حتى اجحفت و منعت حتى بخلت و صبرت حتى جاوزت ولم تبذل لذي حق حقه بنصيب حتى أخذ الشيطان منك حظة الاوفر و نصيبه الأكبر .
و في رسالة ثانية وجهها إليه جاء فيها : أولست المدعي لزياد بن سمية المولود على فراش عبيد من ثقيف و زعمت انه إبن ابيك و رسول الله يقول : الولد للفراش و للعاهر الحجر فتركت سنة رسول الله و اتبعت أهواءك بغير هدى من الله ، و لم تكتف بذلك حتى سلطته على المسلمين يقطع أيديهم وأرجلهم و يسمل عيونهم و يصلبهم على جذوع النخل حتى كأنك لست من هذه الأمة و ليسوا منك .
أولست يا معاوية صاحب الحضرميين الذين كتب فيهما إبن سمية انهما على دين علي ( عليه السَّلام ) فكتبت إليه ان يقتل كل من كان على دين علي فقتلهم و مثَّل فيهم بأمرك و دين علي هو دين إبن عمه الذي كان يضربك و يضرب عليه آباءك و به جلست مجلسك الذي أنت عليه ، و قلت فيما قلت : انظر لنفسك و لأمة جدك و لدينك أن تشق عصا هذه الأمة و أن تردهم إلى فتنة ، و أني يا معاوية لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها و لا أعظم نظرا لنفسي و لديني و لأمة جدي من ان أجاهدك .
و كان معاوية يتمنى عليه ان يخفف من أسلوبه معه و يتوسل لذلك و بالشدة حينا و باللين و المغريات حيناً آخر و بخاصة عندما عزم على البيعة لولده من بعده ، لأن سكوته يؤمن له انقياد الامة و يمكنه من ممارسة سياسته بدون خشية و لكن الشدة لم تكن لتحد من نشاطه و لا المغريات لتخدعه عما يؤمن به و يعمل من أجله لأن دوره الرسالي يفرض عليه ان لا يسكت و لا يهادن و أن يثور راجياً ان تهز ثورته ضمير الأمة التي انحنت و خضعت لجبروت السلطة زمنا طويلاً ، و لأن المجتمع الذي خضع طويلاً لجبروت الأمويين و انحنى لكبريائهم لم يعد يصلحه الكلام و لا بد له من شيء جديد يهزه و يحركه .
هذا الواقع الكالح الذي كانت تتخبط فيه الأمة وضع الحسين ( عليه السَّلام ) وجهاً لوجه امام دوره التاريخي و رسالته النضالية و فرض عليه أن يثور من أجل وكامة الأمة و انقاذ شريعة جده من اعدائها الألداء عندما يجد ان ثورته ستعطي ثمارها المرجوة و أن شهادته ستقضّ مضاجع الظالمين و الطغاة المستبدين و تبقى المثل الغني بالعطاء لكل ثائر على الظلم و الجور و الطغيان في شرق الأرض و غربها 1 .
1. من وحي الثورة الحسينية : 18 .