نص الشبهة:
بسم الله الرحمن الرحيم
ما هو الموقف الذي يجب على القارئ المثقف أن يتخذه في حق من اختلف في مشربه العلمي والفلسفي والفقهي أمثال ابن سينا وابن عربي والشيخ أحمد الأحسائي؟ علماً أن ثمة شهادات من الوزن الثقيل في حق الأولين كالإمام الخميني وشرحه لفصوص الحكم أو مثلا الكلام الذي ذكره السيد محمد حسين الطهراني في كتاب الروح المجرد في حق ابن عربي وشرحه لبعض أشعاره وآرائه وبالتالي حكمه على تشيع الرجل مستدلا بذلك من بعض الأبيات الواردة في إمامتهم (عليهم السلام). ولا أخفي على سماحتكم بأن الاستغراب حصل عندما حاولت أن أجد علاقة بسيطة جداً بين ما هو واقع فعلاً وما هو حاصل في عالم الرؤيا والمنام للحكم على ما هو واقع كمرتبة الفيض الكاشاني العلمية مثلاً وما هو من قبيل الرؤيا التي قد تكشف عن وضع معين.
ولكم الشكر وجزيل الأجر والثواب.
الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين..
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته..
وبعد..
فإنني أسأل المولى جل وعلا أن يحفظكم ويرعاكم، ويأخذ بأيديكم في سبيل الصالحين. إنه ولي قدير..
أخي الكريم.
تلقيت رسالتك الكريمة بيد الشكر والامتنان، وشكرت الله سبحانه على أنكم تعيشون همّ الإسلام، وتهتمون بالشأن الثقافي، وأنا أدعو لكم بالتوفيق والتسديد. وأتمنى أن يجمعنا الله بكم، لننال من فيض محبتكم، ونتعرف عن قرب على شخصكم الكريم..
أخي العزيز..
فيما يرتبط باختلاف الرأي حول تشيع ابن عربي وتسننه أقول: إن هناك الكثير من النصوص الصحيحة قد حفلت بها صحاح أهل السنة ومجاميعهم الحديثية المعتبرة، كالبخاري ومسلم، وسنن أبي داود، ومسند أحمد بن حنبل، وغير ذلك. قد صرحت بأنه سيكون بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إثنا عشر خليفة، أو أميراً، أو إماماً، كلهم من قريش وفي بعض الروايات: كلهم من بني هاشم. وقد صرح القندوزي الحنفي بأن هذا الحديث قد روي عن بضعة وعشرين صحابياً..
وقد حيّر هذا الحديث علماء أهل السنة، وتعددت أقاويلهم فيه. وذهبوا في بيان المراد منه يميناً وشمالاً..
ومن جهة أخرى فإن عدداً من علماء أهل السنة قد ألف كتباً تتحدث عن الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، وتبين كراماتهم، وسيرتهم، ومقاماتهم، وعلمهم و.. ويتحدثون عنهم بعنوان أنهم أئمة الدين، وأولياء الله سبحانه. ولا تكاد تجد فرقاً بين ما يذكرونه عنهم، وبين ما يذكره عنهم شيعتهم الأبرار (رضوان الله تعالى عليهم)..
وقد طبع عدد كبير من هذه الكتب، فراجع مثلاً: كتاب نور الأبصار للشبلنجي الشافعي، وينابيع المودة للقندوزي الحنفي، وكفاية الطالب للكنجي، وتذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي.. وغير ذلك كثير لا مجال لعده وحصره.
بل نجد في جملة هؤلاء عدداً من الذين ألفوا في رد عقائد الشيعة، وجهدوا في نقض أدلة الإمامة للأئمة الاثني عشر (صلوات الله وسلامه عليهم)، وفيهم من كان جارحاً جداً، ووقحاً إلى أبعد حدود الوقاحة.. ومتجنياً، ومراوغاً مثل الفضل بن روزبهان، الذي رد على العلامة الحلي من جهة، وأمعن في التجني والعدوان، فإنه قد ألف هو نفسه كتاباً عن الأئمة الاثني عشر (صلوات الله وسلامه عليهم)، وسيرتهم، وفضائلهم، وكراماتهم.. وقد جرى فيه على سنن ونهج هؤلاء الذين ذكرناهم آنفاً وغيرهم.
وكذلك الحال تماماً بالنسبة لابن حجر الهيثمي في كتابه الصواعق المحرقة، فإنه كان شديد التعصب، وكثير التحامل، وظاهر التجني في رده لعقائد الشيعة.. ولكنه ذكر في نفس كتابه المذكور. نبذة عن أئمة أهل البيت وكراماتهم وفضائلهم أيضاً..
ومهما يكن من أمر، فإن هؤلاء، وكذلك غيرهم ممن سلك سبيلهم يشتركون في أمر واحد، هو: أنهم جميعاً يصححون خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان. ويدافعون عنها أشد دفاع، ويتحمسون لها بصورة ظاهرة، ومؤذية أحياناً، كما ألمحنا إليه بالنسبة للفضل بن روزبهان، ولابن حجر الهيثمي..
وهذا الجو اللافت يجعلنا نتجه نحو تفسير هذه الظاهرة.. بأن هذا الفريق كان أبعد نظراً من سائر علماء أهل نحلتهم، وذلك لأنه أراد أن يحتفظ بولائه العميق لأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي (عليه السلام)، ويحفظ بذلك تسننه الذي نشأ وشب عليه.. وأن يحل المشكلة الكبيرة جداً التي من شأنها زعزعة وتقويض ركن التسنن وأصله الأصيل، وهي مشكلة الحديث المروي في الصحاح وغيرها من أنه يكون بعد النبي (صلى الله عليه وآله) اثنا عشر أميراً أو خليفة، أو إماماً كلهم من قريش.. وفي بعض رواياتهم: كلهم من بني هاشم.. أو كلهم تجتمع عليه الأمة.. أو يعمل بالهدى أو نحو ذلك..
وذلك بأن يعتبر هو أن الأئمة الاثني عشر هم المعنيون بهذا الحديث الثابت، لأنهم من قريش، ومن بني هاشم.. وقد أجمعت الأمة على أنهم علماء، أتقياء أبرار ولا يدانيهم أحد في صفاتهم وميزاتهم..
فهؤلاء هم أئمة الأمة في الدين، والتقوى، والعلم، وإلخ.. وأبو بكر وعمر و.. هم أئمة في السياسة والحكم، ولهم تكون البيعة.. ولا بد من توليهم، والانقياد لهم، واعتقاد إمامتهم أيضاً..
وعليهم بعد هذا أن يؤولوا ما يمكن تأويله، وحيث لا يمكن التأويل، فلا بد من النفي أو التشكيك، ويكونون بذلك قد ثبّتوا أتباعهم على ولاية الشيخين، وجنبوا أنفسهم كارثة حقيقية، تتهدد أساس عقيدتهم وتغزوهم في عمق وجدانهم الديني والإيماني.
أما الذين يلتزمون مسالك الصوفية، ويريدون أن يكون لهم أولياء، وأقطاب ويريدون أن تكون للأولياء والأقطاب المقامات، والمراتب والكرامات، وأن يكون لديهم كشف، وجذب، وولاية، وتصوف وتدين إن هؤلاء يريدون أيضاً أن يحتفظوا بحقيقة التسنن، فهذا الحل إذن يروق لهم، ويتناغم مع منحاهم، ومع ما يرمون إليه، ولا سيما مع ربط الأمر بعلي (عليه السلام)، الذي تجسدت به حقيقة الزهد والتقوى، والعلم، والولاية..
وأصبح كل من يريد أن يسير في اتجاه أي فضيلة وكرامة بحاجة إلى وصل حبله به، وإنهاء نسبته إليه. وهذا ما أيدته وقائع التاريخ، فإنك لا تكاد تجد من يدعي لنفسه مقاماً وفضيلة تذكر، إلا ويسعى للانتساب إليه، أو التأسي به، والاعتماد عليه..
وبالفعل، فإن الذين ساروا في طريق التصوف، وربطوا أنفسهم بالأولياء والأقطاب، قد ساروا في نفس هذا الاتجاه.. والتزموا نفس هذا النهج، وراق لهم أن يدَّعوا لأوليائهم وأقطابهم ما شاؤوا، فإنهم ورثة علي والأئمة من ولده بزعمهم.. كما أنهم قد احتفظوا بحقيقة التسنن، القائم على تولي أبي بكر، وعمر، وعثمان..
وما الذي يمنع بعد هذا من أن يتحدثوا عن علي والأئمة بأنهم معصومون، وبأنهم أقطاب، وأولياء، لهم مقامات سامية في التصرف والتدبير؟!
فيقرأ الشيعي كلامهم فيظن أنهم شيعة إمامية.. وتخدعه تلك البيانات الراقية عنهم (عليهم السلام)، وعن مراتبهم، ومقاماتهم.. تماماً كما انخدع بعض الشيعة بشعر ابن أبي الحديد المعتزلي الذي كان من معتزلة بغداد الذين كانوا يرون أفضلية علي (عليه السلام) على جميع الخلق ولكنه يصحح خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، ويدافع عنها بشراسة وقوة نعم لقد انخدعوا بمدائحه لعلي أمير المؤمنين (عليه السلام)، في قصائده السبع.. مع أنه من أحرص الناس على تصحيح إمامة، وخلافة أبي بكر، وعمر، وإبطال كلام الشيعة في الإمامة كما ظهر من كتابه شرح نهج البلاغة..
أخي الكريم..
بعد هذه المقدمة نقول: ربما يكون ذلك هو بعض ما يفسر لنا ظهور نصوص وتعابير في كلمات ابن عربي الصوفي فيما يرتبط بأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فإنها ليس فقط تقترب من تعابير شيعة أهل البيت (عليهم السلام) عن أئمتهم، بل ربما تزيد عليها أيضاً..
ثم نجده، في مقابل ذلك يتحدث عن أبي بكر وعمر وعثمان، وعلي (عليه السلام)، على أنهم أركان الكون، كما لعلّي أشرت إليه في رسالتي السابقة إليك..
ولعلك تستطيع بعد هذا أن تحدد السبب الذي نشأت عنه شهادات من الوزن الثقيل على حد تعبيرك بتشيع ابن عربي وبعض آخر.. فإنهم قد التفتوا إلى حديثه عن الأئمة بالطريقة التي تناسب مشرب التشيع.. فاعتبروا أن ذلك يمثل انفصالاً عن التسنن، كما أن من حكموا بتسننه إنما استندوا في حكمهم هذا إلى تصريحاته المقابلة.. فوقع النزاع، واختلفت الآراء..
والذي ذكرناه، يوضح: أن وجود المدح للخلفاء، أبي بكر وعمر، إلى جانب تعظيم أهل البيت (عليهم السلام)، والحديث عن ولايتهم، وإمامتهم وعصمتهم.. و.. هو السبب في إفراط هؤلاء وأولئك، فيما قالوا، أو فيما حكموا به.
أما فيما يرتبط بابن سينا، فربما يكون سبب الاختلاف هو بعض ما ذكرناه، وقد يكون له أسباب أخرى.. غير أن ما أحب التنويه به، هو أن هناك شخصيات ظاهرة المشرب والمذهب والاتجاه.. إما إلى التسنن أو إلى التشيع، فيكون الموقف منها على أساس ما هو ظاهر وثابت..
وأما أولئك الذين تدور حولهم الشبهات، وتتعدد الآراء فيهم.. فليس اتخاذ الموقف السلبي أو الإيجابي تجاههم بالأمر اللازم..
فيؤخذ من كلامهم ما يفيد في تأييد الحق، وتشييده، ويترك ما عداه.. إلا إذا كان ثمة ضرورة لتحديد اتجاه إنسان بعينه، وكان ذلك مما يتوقف عليه إحقاق الحق، وإبطال الباطل فإن الإنسان من أجل ذلك، يأخذ نفسه بالبحث والتقصي عن ذلك.
وإلا، فإن صرف العمر في إثبات تشيع هذا أو تسنن ذاك، إذا كان بلا فائدة ولا عائدة، قد لا يكون مرضياً لصاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فهناك ما هو أهم، ونفعه أعم..
والحمد لله، وصلاته وسلامه على رسوله محمد وآله الطاهرين.. 1.
- 1. مختصر مفيد.. ( أسئلة وأجوبة في الدين والعقيدة )، للسيد جعفر مرتضى العاملي، «المجموعة الثانية»، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، 1423 2002، السؤال (109).