في الانطباع العام أن المفكر هو أعلى درجة وأرفع رتبة من المثقف، وأقل درجة وأنزل رتبة من الفيلسوف، وبحسب هذا الانطباع الشائع فإن المفكر يقع في منزلة وسطى بين المثقف والفيلسوف، منزلة تخطت مرحلة المثقف، ولم تصل بعد إلى مرحلة الفيلسوف، لكنها تقع على هذا الطريق.
الأمر الذي يعني أن المفكر لا يكون مفكرا إلا بعد أن يتخطى وضعية المثقف، والفيلسوف لا يكون فيلسوفا إلا بعد أن يتخطى وضعية المفكر.
وعلى هذا الأساس جاز القول إن كل مفكر هو مثقف بالضرورة، وليس كل مثقف مفكرا بالضرورة، وكل فيلسوف هو مفكر بالضرورة، وليس كل مفكر فيلسوفا بالضرورة.
وفي الظاهر العام أن الفارق أو المائز بين هذه النماذج الثلاثة، يتحدد في طبيعة الانتساب المعرفي، فالمثقف وصف يوحي بالانتساب إلى الثقافة، والمفكر وصف يوحي بالانتساب إلى الفكر، والفيلسوف وصف يوحي بالانتساب إلى الفلسفة، فهل هناك فروقات ومفارقات بين هذه الحقول الثلاثة الثقافة والفكر والفلسفة؟
إن الكشف عن هذه الفروقات والمفارقات، هو من مداخل البحث عن الحدود الفاصلة والمائزة بين المثقف والمفكر والفيلسوف، لكن هذا النمط من البحث فيه من الشرح والتفصيل والاستغراق النظري (اللغوي والاصطلاحي والمفهومي والتاريخي) ما لا يحتمل هنا.
ولعل الفارق الكلي والعام بين هذه النماذج الثلاثة، يتحدد وبإيجاز في أن الثقافة ناظرة في العادة إلى الجانب السلوكي والنظام السلوكي في حياة الفرد والجماعة والأمة، والفكر ناظر في العادة إلى الجانب الفكري والنظام الفكري في حياة الفرد والجماعة والأمة، والفلسفة ناظرة في العادة إلى الجانب السلوكي والجانب الفكري معا، الجانب السلوكي يتصل بمبحث القيم في الفلسفة، والجانب الفكري يتصل بمبحث المعرفة في الفلسفة، وهما إلى جانب مبحث الوجود المباحث الثلاثة الأساسية للفلسفة.
ومن هذه الجهة، يعد المثقف أقرب إلى نمط النقد السلوكي، بينما يعد المفكر أقرب إلى نمط النقد الفكري، في حين يعد الفيلسوف أقرب إلى نمط النقد المزدوج بما يشمل النقد السلوكي والنقد الفكري معا.
بعد هذا القدر من الفروق والمفارقات، فمن هو المفكر؟
لا أدري ما هي رؤية الآخرين وحدهم ورسمهم في الإجابة على هذا السؤال، لكن الذي أراه أن وصف المفكر يتحدد من خلال ثلاثة أمور رئيسة هي:
الأمر الأول: يتحدد على أساس عنصر التجربة، فالمفكر هو صاحب تجربة فكرية عادة ما تكون طويلة من ناحية الزمن، وجادة من ناحية التعامل، وثرية من المعرفة، ومميزة من ناحية التقاليد، وما اكتسب المفكر هذا الوصف إلا بفضل هذه التجربة المتفردة بهذه الملامح والسمات، وليس هناك مفكر من دون أن تكون في رصيده تجربة فكرية توصف غالبا بالتخلق والتفرد.
الأمر الثاني: يتحدد على أساس عنصر الذاتية، بمعنى أن المفكر هو من يتحدث عن ذاتيته لا عن ذاتية الآخرين، عن ذاتيته ليس بمعنى إبراز هذه الذاتية والتباهي بها، والإعلاء من شأنها، أو التمحور حولها، كما ليس بمعنى التنكر إلى الآخرين، وتغافلهم وعدم الاكتراث بهم، والإجحاف بحقهم، وإنما بمعنى من يشعر بذاتيته الفكرية على سبيل الفعل وليس على سبيل القوة، من يشعر بذاتيته الفكرية وليس بذاتيته النفسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو غيرها من الذاتيات الأخرى.
الذاتية التي تجعل المفكر صاحب هوية يستقل بها عن الآخرين ويتمايز، وتكسبه قوة ذاتية وثقة وشجاعة، تظهر وتتجلى في خطابه وفكره، في شخصه وسلوكه.
وهذه الذاتية لا تنشأ رغبة وتمنيا، ولا تظهر قولا وادعاء، ولا تتكوّن في دفعة واحدة، ولا بطريقة طفرة سريعة، وإنما تنشأ متدرجة وبصورة بطيئة، وتظل تتنامى حتى تتجلى راسخة في ظهورها وحضورها.
وتنشأ هذه الذاتية ابتداء عند المثقف، ويحس بها لكن بصورة أولية وبسيطة، وتظل في حالة نمو وتقدم إلى أن تصل لدرجة تكسب الإنسان صفة المفكر، وتصل هذه الذاتية إلى أعلى درجاتها عند الفيلسوف.
الأمر الثالث: يتحدد على أساس عنصر الابتكار، بمعنى أن المفكر هو الذي حقق ابتكارا بالفعل، على مستوى الأفكار أو النظريات أو المفاهيم أو المناهج، وعرف عند الآخرين، وفي ساحة الفكر والمعرفة بهذا الابتكار.
والمفكر ما قبل الابتكار، هو مفكر على سبيل القوة، وبعد الابتكار هو مفكر على سبيل الفعل، كما أن المفكر ما قبل الابتكار، هو مفكر على سبيل المجاز والشك، وبعد الابتكار هو مفكر على سبيل الحقيقة واليقين.
بهذه الأمور الثلاثة المتلازمة يمكن تحديد من هو المفكر!1
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة اليوم، الثلاثاء 16 يونيو 2015م، العدد 15341.