مقالات

من دواعي خفاء التَّواتر على قوم بعد ثبوته عند آخرين…

بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم: زكريَّا بركات
16 أكتوبر 2022


حين تُطرح دعوى التواتر من قبل جماعة من أهل العلم، قد يتصدَّى آخرون لإنكار ذلك بدعوى أنَّ الخبر لو كان متواتراً لما اختصَّ به أناسٌ دون آخرين.. وهذا المنطلق في الاعتراض قد يكون صحيحاً في بعض الموارد، وقد يكون غيرَ صحيحٍ في مواردَ أُخرى، فالحقيقة أنَّ قاعدة (لو كان لبان) ليست مطَّردة؛ لأنَّ كثيراً ما تكون دواعي الخفاءِ متوافرةً أيضاً، فلا يستلزم الثبوتُ الظهورَ للجميع، وهذا يحتاجُ إلى إنصاف يفتقر إليه كثيرٌ من المتصدِّين للمناقشات المذهبيَّة ممَّن همُّهم الأوَّل الردُّ والتفنيد؛ خدمةً لانتماءاتهم، وتعصُّباً لمذاهبهم.

ومن دواعي خفاء التواتر: القطيعةُ والجفاءُ اللَّذان غلبا على معظم العلماء في مختلف الفرق، ومن شواهد ذلك كلامُ ابن خلدون المالكي (ت 808 هـ) في مقدِّمة تاريخه (1/ 446) حيث تحدَّث عن ثلاثة مذاهبَ فقهيَّةٍ للجُمهور: مذهبِ أهل الرأي والقياس في العراق والَّذي تزعَّمه أبو حنيفة، ومذهبِ الحديث في الحجاز بإمامة مالك والشافعي، ومذهب الظاهريَّة بإمامة داود بن علي وابنه وأصحابهما الَّذين أنكروا القياس وحصروا المدارك في النصوص والإجماع.. فقال ابنُ خلدون بعد أن استعرض هذه المذاهب: “كانت هذه المذاهب الثلاثة هي مذاهب الجمهور المشتهرة بين الأمَّة، وشذَّ أهلُ البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به، وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصَّحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمَّة ورفع الخلاف عن أقوالهم، وهي كلُّها أصول واهية، وشذَّ بمثل ذلك الخوارجُ ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم، بل أوسعوها جانبَ الإنكار والقدح، فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم، ولا نروي كتبهم، ولا أثر لشيء منها إلَّا في مواطنهم، فكتب الشِّيعة في بلادهم..” إلخ كلامه.

إنَّ هذا التحامُل الصادم على أهل البيت من عالم مالكيٍّ تولَّى القضاء مراراً، وارتبط بالأمراء والسلاطين في مختلف بلدان المغرب والأندلس، حتَّى إنه قبَّل يد تيمورلنك المغولي وفاوضه على تسليم دمشق من غير قتال حقناً للدماء، واستمرَّت أواصره بالمغول بعد سفكهم الفظيع للدماء وتخريبهم لحلب وغيرها.. كل ذلك دليل على أنَّ العلماء الذين تزلَّفوا للسلاطين والأمراء من أجل الرئاسة وحطام الدُّنيا، بقيت دوافعهم الطائفيَّة شديدة ضدَّ مذهب أهل البيت، ولم يكتفوا بعدم الاعتناء بوصايا رسول الله (ص) بالتمسُّك بأهل البيت وركوب سفينتهم، بل تحاملوا عليهم بهذا الشكل الصادم والقبيح، وعدُّوهم مُبتدعةً، وشبَّهوهم بالخوارج..!

والشاهد الَّذي يرتبط بموضوعنا من كلام ابن خلدون ما ذكره من أنَّهم لا يعرفون مذاهب أهل البيت، ولا يروون كتبهم، ولا أثر لشيء من ذلك إلَّا في بلدان الشِّيعة.. فهذه هي القطيعة التي نقول إنَّها من أهمِّ دواعي خفاء التَّواتر وحرمان كثير من علماء المسلمين من العلم الَّذي اختصَّ به أهلُ البيت.. فكيف يصحُّ بعد هذا أن يقول إنسانٌ لأهل البيت: لو صحَّ ما تدَّعون أنَّه متواتر لعلمنا به وتواتر عندنا؟!

نقول: وكيف تعلمون به وقد تعمَّدتُم القدحَ فيهم، وانزويتم عنهم وانزووا عنكم، وكانت لكم بلدان وممالك لا توجد فيها كتبهم وآثارهم، وربَّما حاربتموهم بعد أن رميتموهم بالابتداع في الدِّين والانحراف عن الجادَّة..؟ ولو أنكم قبَّلتم أيديهم وتزلَّفتم إليهم كما صنعتم مع سلاطين الدُّنيا وأمراء الجور، لعرفتم فضلهم، وحظيتم بشيء من علومهم التي تُغنيكم عن علوم من سواهم.

نعم، لقد كان أناسٌ من شيعتهم من أقطار الأرض، يهاجرون إليهم، ويقبِّلون أيديهم ويطلبون عندهم علمَ الدِّين وتزكيةَ النَّفس، فعرفوا ما لم تعرفوا، ورَوَوْا ما لم تَرْوُوْا، فتواترت الأخبارُ عند الشِّيعة في مختلف المواضيع الدينيَّة روايةً عن أهل البيت، وحُرم منها علماءُ البلاط و وُعَّاظُ السلاطين، وحُرم على إثرهم كثيرٌ من أبناء الأمَّة ممَّن ظنَّ أنَّ الدارَ الآخرةَ يُمكن أن تُنال من أعتاب الأمراء وقصور السلاطين.

ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى