هناك ظاهرة ظلت تنبعث باستمرار في ثقافتنا ومجتمعنا، مع كل تطور وتغير حادث وجديد، تكون له طبيعة مغايرة، حتى لو كانت هذه الطبيعة مغايرة بعض الشيء، وليس كل الشيء لما هو سائد ومؤتلف في حياتنا الاجتماعية. وسواء كان هذا التطور والتغير حادث من داخلنا، وبفعل قوانا وديناميتنا وتجاربنا وخبراتنا، أو أنه حادث من خارجنا ويصل إلينا بإرادتنا أو بدون إرادتنا، ويكون له تأثير علينا برغبتنا أو بدون رغبتنا، كما يصل إلى الآخرين أيضاً ويؤثر عليهم بقدر ما يؤثر علينا.
وتتجلى هذه الظاهرة في صورة التعبير عن الخوف، أو ما يمكن أن نسميه بثقافة الخوف أمام كل جديد غير مألوف نحدثه بأنفسنا، أو يفد علينا من الآخرين. ونسميه ثقافة الخوف لأن التعبير عن هذا الموقف يتجاوز حدود التعبير أو الانطباع النفسي والداخلي، ويصل إلى المكوّن الذهني والفكري، بمعنى أن هذا الموقف يعطى له مضامين ومكونات ذهنية وفكرية، ويبرر له، ويدافع عنه بتلك المضامين والمكونات، هذا من جهة. ومن جهة أخرى أن التعبير عن هذا الموقف لا يعد مجرد تعبير عن موقف حادث وطارئ منفصل ومنقطع، فقد ظل ينبعث ويتجدد بصورة مستمرة ودائمة، وبطريقة يكشف عن ذهنية لها نمط من التفكير، كما يكشف عن ثقافة يتأصل ذلك الموقف فيها.
وقديماً تجلت ثقافة الخوف في الموقف من فتح فرص التعليم بكافة مراحله للبنات في المدارس والكليات، وتجلى هذا الموقف لاحقاً مع دخول التلفاز في حياة الناس.. إلى غير ذلك من مواقف. ويتجلى ذلك الموقف اليوم بصورة أوسع مما كان عليه من قبل، ولا يقل عنه حدة وشراسة أيضاً، كالذي ظهر في الموقف من استقبال المحطات التلفزيونية عبر الكابل أو النظام الرقمي أو الأقمار الصناعية، وهكذا الموقف من التعاطي مع خدمة الانترنت، ومع الهاتف النقال المزود بالكاميرا التصويرية، ومروراً بقرار إدماج إدارة تعليم البنات في إدارة واحدة مع تعليم الأولاد، وصولاً إلى قضية قيادة المرأة للسيارة. ولن تكون هذه بالتأكيد آخر قضية، ما دامت أن الثقافة المولدة لمثل تلك المواقف على حالها من دون تجديد وتطوير.
والموقف نفسه نلمسه أيضاً تجاه العولمة، وثورة المعلومات، ومن التقريب بين المذاهب الإسلامية، والحوار بين الديانات السماوية، وحتى الحوار بين الثقافات والحضارات.. إلى غير ذلك من قضايا أخرى حدثت أو لم تحدث بعد.
والمشكلة ليست في التعبير عن الخوف، أو التظاهر بالخوف تجاه تلك القضايا والتطورات، وإنما في الإسراف والمبالغة الشديدة في التعبير عن ذلك الموقف، والتظاهر المستمر بذلك الموقف، وتغليب ذلك الموقف على أي موقف آخر، والنظر إلى تلك القضايا من زاوية الخوف فحسب، بعيداً عن التوازن في النظر والتحليل.
ولا أقول أنه لا ينبغي أن نخاف، فالعاقل هو من يخاف، وإنما لأن الخوف وحده ليس كافياً، ولا يعالج مشكلة، أو يصنع حلاً، أو يخلق ثباتاً واطمئناناً، كما لا يصلح أن يكون بديلاً، ومنهجاً دائماً في التفكير، ولا يستطيع كذلك أن يوفر حماية، أو يؤمن تحصناً، أو يعزز ممانعة.
والأهم من كل ذلك أن ثقافة الخوف لا تبني مجتمعاً، ولا تصنع تقدماً وتمدنا، ولا بد من التحول والانتقال من مرجحات الخوف إلى البحث عن مقتضيات التقدم والتمدن1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 20 يوليو 2005م، العدد 14207.