تمييزاً للإنسان عن بقية المخلوقات، وتفضيلاً له عليهم، وهب الله له عقلاً يمتلك به قدرة التفكير وصنع الرأي، ومنحه إرادة يتمكن بها من اتخاذ القرار وحرية الاختيار.
وبذلك أصبح أهلاً للتكليف والخطاب الإلهي، وكان مؤهلاً للثواب عند الطاعة، مستحقاً للعقاب على المعصية، وبعقله وإرادته يستطيع الإنسان القيام بمهمة عمارة الأرض وتسخير إمكانيات الحياة، واستثمار خيرات الكون.
هكذا شاءت حكمة الله تعالى أن يكون الإنسان مفكراً مريداً له حرية القرار والاختيار، لكن بعض الإرادات الشريرة في عالم الإنسان نفسه، ومن وسط أبناء جنسه، تحاول حرمانه من هذه الميزة العظيمة التي منحها الله تعالى إياه.
حيث يسعى بعض الأفراد والفئات لممارسة الهيمنة والتسلط على من حولهم من البشر، ويصادرون حريتهم في التفكير وحقهم في الاختيار.
لقد عانى الإنسان ولازال يعاني من نوعين من محاولات الاستعباد والتسلط. استعباد لجسمه يقيّد حركته ونشاطه، وتسلط على فكره يصادر حرية رأيه، وحقه في التعبير عنه.
وإذا كانت مظاهر الاستعباد المادي قد تقلصت، فإن ممارسات الوصاية الفكرية لا تزال واسعة النطاق، خاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
وتعني الوصاية الفكرية: أن جهة ما تعطي لنفسها الحق في تحديد ساحة التفكير أمام الناس، وتسعى لإلزامهم بآرائها وأفكارها عن طريق الفرض والهيمنة.
ومن أبرز مظاهر الوصاية الفكرية ما يلي:
١. فرض الرأي على الآخرين بالقوة، ومصادرة حريتهم في الاختيار.
٢. النيل من الحقوق المادية والمعنوية للآخرين بسبب اختياراتهم الفكرية.
٣. الاحتقار وسوء التعامل مع ذوي الرأي الآخر.
لماذا الوصاية الفكرية؟
إذا كان الله تعالى قد منح الإنسان عقلاً ليفكر به، وإرادة ليقرر ويختار، وليتحمل مسؤولية قراره واختياره، فلماذا يحاول البعض حرمان الآخرين من استخدام هذه المنحة الإلهية واستثمارها، فيمارسون الوصاية على عقول الآخرين وإراداتهم، فهم يفكرون نيابة عن الناس، وعلى الناس أن يقبلوا آراءهم. ومن تجرأ على المخالفة، ومارس حرية التفكير وحق الاختيار لما اقتنع به من رأي، فله منهم الويل والأذى!! حيث يستخدمون ضد المتمردين على هيمنتهم الفكرية، كل وسائل الضغط والتنكيل المادية والمعنوية.
إن الدافع الحقيقي لهؤلاء في ممارسة الوصاية الفكرية، هو في الغالب دافع مصلحي، بهدف تحقيق الهيمنة على الآخرين، واستتباعهم للذات.
لكنهم يتحدثون عن دافع آخر يبررون به ممارستهم للوصاية الفكرية، وهو دافع الإخلاص للحق الذي يعتقدونه في رأيهم، والرغبة في نشر الحق وهداية الآخرين إليه.
وإذا ما تأملنا هذا الادعاء، وناقشنا هذا التبرير على ضوء العقل والشرع، فسنجده إدعاءً زائفاً، وتبريراً خاطئا.
ذلك أن ادعاءهم أحقية رأيهم يقابله ادعاء مماثل من الآخرين، فكل صاحب دين أو مذهب أو رأي، يرى أحقية مسلكه، فهل يقبلون محاولة الآخرين لفرض رأيهم عليهم؟
إن اعتقاد الإنسان بصوابية رأيه، وإخلاصه لذلك الرأي، ورغبته في إتباع الآخرين له، كل ذلك أمر مشروع، ولكن ليس عبر الفرض والوصاية، وإنما عن طريق إقناع الآخرين بذلك الرأي، ومن يرفض الاقتناع فهو حر في اختياره محقاً كان أو مبطلاً، وليس من العقل والمنطق إجباره.
ولأن الساحة الدينية عادة ما تبتلى بوجود فئات وجهات تمارس الوصاية الفكرية، وتسعى لفرض آرائها، باعتبار ذلك وظيفة دينية، وتكليفاً شرعياً، كان لا بد من مناقشة هذه الممارسة على ضوء تعاليم الدين ومفاهيمه.
فهل يشرّع الدين لممارسة الوصاية الفكرية بمعنى فرض الرأي بالقوة، والنيل من حقوق المخالفين، وسوء التعامل معهم؟
إن القراءة الواعية لآيات القرآن الكريم، ونصوص السنة والسيرة النبوية الشريفة، وأقوال وسيرة أئمة أهل البيت (ع)، تكشف عن منظومة من المفاهيم والتعاليم الدينية تؤكد على حرية الإنسان وحقه في الاختيار، وأنه يتحمل مسؤولية قراره واختياره أمام الله تعالى، وترفض الاستعباد والوصاية الفكرية على الناس.
الخالق لم يفرض الإيمان به
لتقرير حرية الإنسان وتأصيل وجودها، تؤكد كثير من آيات القرآن الكريم، أن الله تعالى لم يشأ أن يفرض الإيمان به على خلقه بالإجبار والقوة، بل أودعهم عقولاً تقودهم نحوه وفطرة ترشدهم إليه، وبعث لهم أنبياء يدعونهم إلى الإيمان به، ثم ترك للناس حرية الاختيار في هذه الحياة.
يقول تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ … ﴾ 1.
ويقول تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ 2.
وتشير آيات أخرى في القرآن الكريم إلى أن الله تعالى جعل فرص الحياة متساوية بين المؤمنين والكافرين، يقول تعالى:﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ 3.
وإذا كان الله تعالى لم يفرض على عباده الإيمان به قسراً، لتكون الحياة دار اختيار واختبار، كما شاءت حكمته، فكيف يحق لأحد أن يمارس فرض الإيمان على الناس باسم الله ونيابة عنه؟
إنه تعالى لا يريد الإيمان به عن طريق القوة والقسر، لأنه حينئذٍ لن يكون إيماناً حقيقياً، ولو أراد الله تعالى إخضاع الإنسان للإيمان قسراً لكان ذلك ميسوراً عليه. يقول تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ 4.
وبضرس قاطع ورفض صريح يقول تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ … ﴾ 5، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبي (ص): ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك6.
- 1. القران الكريم: سورة الكهف (18)، الآية: 29، الصفحة: 297.
- 2. القران الكريم: سورة الانسان (76)، الآية: 3، الصفحة: 578.
- 3. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 20، الصفحة: 284.
- 4. القران الكريم: سورة يونس (10)، الآية: 99، الصفحة: 220.
- 5. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 256، الصفحة: 42.
- 6. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ حسن الصفار حفظه الله_ «صحيفة الأيام البحرينية» يوم الأربعاء 1 جمادى الأولى 1426هـ الموافق 8 يونيو 2005م في عددها الصادر رقم 5933.