مقالات

مفهوم الحق قرآنيا…

استعمالات الحق كثيرة في القرآن الكريم ، لكنها بحسب الظاهر تطبيقات لمفهوم واحد وبأساليب متعددة ، ولعل من أهم تلك الاستعمالات الكاشفة عن مفهوم الحق الآيات التي اعتبرته نقيضاً للباطل ، والنقيض للباطل إنما هو الحقيقة المطلقة والثابتة يقيناً ، كقوله سبحانه :﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ 1 ، وقوله عز من قائل : ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ 2 ، وقوله تعالى : ﴿ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ 3 ، وقوله جل شأنه :  ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ 4 .

وهذا الاستعمال يشير إلى المفهوم اللغوي السابق الذكر ، ويؤيِّد ذلك الاستعمالات المتفرِّقة في السور القرآنية لهذا اللفظ وباشتقاقات متعددة في معاني الثبوت والإلزام والمطابقة للواقع اليقيني ، ومن أمثلة ذلك :
قوله سبحانه : ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ 4 فالله هو الحق أي أنه هو الثابت المطابق ثبوته للواقع اليقيني ، وقد رأينا لهذا المعنى أثراً في سياق تقريرات بعض الأصوليين لمفهوم الحق ، كما هو ملاحظ في كلمات المحقق الأصفهاني عند تعريفه لمفهوم الحق ، قال : « فالحق بمعنى المبدء هو الثبوت ، والحق بالمعنى الوصفي هو الثابت ، وبهذا الاعتبار يطلق الحق عليه تعالى لثبوته بأفضل أنحاء الثبوت الذي لا يخالطه عدم أو عدمي» 5 . فالثبوت في كلامه هو المراد بالمطابقة مع الواقع اليقيني كما سبق الكلام .

قوله عز وجل: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾ 6 ، فالحق هنا إشارة إلى الحقيقة الثابتة المطابقة للواقع والملزِمة للمخاطَب ، وإنما هي حقيقة لأن من اتبعها كان على هدى ، ومن خالفها كان كان ضلال ، كما تنص الآية ، وأما كونها ملزِمة لوجوب اتِّباعها والإلتزام بها ، إذ لا معنى للهداية في الآية إلا وجوب الإتباع ، كما لا معنى للضلال إلا حرمة المخالفة .

ما جاء في الآيات المباركة من التأكيد على أن الكثير من الأمور المرتبطة بالتكوين أوالتشريع إنما حصلت بمحض الحق ، كما في الآيات المباركة التالية : ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا … ﴾ 7 ، ﴿ … نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ … ﴾ 8 ، ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ … ﴾ 9، فإرسال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، وتنزيل الكتاب ، وخلق السماوات والأرض ، كل ذلك إنما حصل بالحق والثبوت والمطابق للواقع . مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن للحق في هذه الآيات ظلالاً ومعاني أوسع يتكفّل بها البحث التفسيري ولسنا  في صددها في هذا المقام .

النص على مطابقة الحق للواقع التام من دون أي شائبة ، وذلك من خلال التأكيد على أن كل ما عداه خارج تخصُّصاً عنه ، بمعنى المباينة التامة للواقع والحقيقة ، كما في قوله جل شأنه :﴿ فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ﴾ 10 ،  ﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ 11 ، فإذا كان كل شيء غير الحق ضلالاً ، كما تنص الآية الأولى ، والضلال هو «العدول عن الطريق المستقيم ، ويضادّه الهداية» 12 ، فمعنى ذلك أن الحق هو الهداية إلى الحقيقة الثابتة والواقع اليقيني . وهكذا إذا وقع الحق وتحقق خارجاً ، تبيَّن أن كل شيء عداه باطل ، كما تنص الآية الثانية ، إذاً فالحق هو الثابت والمطابق للواقع .

وهكذا سائر الاستعمالات في القرآن الكريم ، فجميعها تشير وتعبِّر عن المعنى اللغوي الذي قرَّرناه في العنوان السابق . بالتالي فالاستعمال القرآني لا يضيف خصوصيّة للمعنى اللغوي ، وإنما يلتزم بالمعنى نفسه ، كما هو الشأن في سائر الخطابات القرآنية ، نظراً لأن القرآن إنما جاء باللغة الدارجة عند العرب .
وهذا هو الظاهر تماماً في الاستعمالات الروائية أيضاً ، فجميعها متطابق مع الاستعمالات القرآنية . نعم سيأتي كلام حول التمايز بين الاستعمالات الروائية لمفهوم الحق وبين المفهوم الفقهي الخاص للحق 13 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى