تشتد اليوم موجة التشكيك حول مفهوم التقريب، بوصفه مفهوماً يتصل بمجال العلاقات بين المذاهب الإسلامية، ولأول مرة ترتفع وتيرة هذه الموجة من التشكيك، وبهذه الصورة التي تكاد تحاصر هذا المفهوم الخلاق، وتضيق الخناق عليه، وتسلب منه فضيلته وقيمته، وتضعه في دائرة الاتهام والمساءلة.
ولا شك أن هذه الموجة من التشكيك، واشتدادها وارتفاع وتيرتها اليوم، جاءت متأثرة بطبيعة الأوضاع والظروف المتأزمة في مجتمعات المسلمين، التي نشهد فيها ما يمكن تسميته بانفجار المشكلة المذهبية أو الفتنة المذهبية، المشكلة التي باتت شديدة الظهور والانكشاف.
ولأول مرة في التاريخ الإسلامي الحديث، وتحديداً منذ بداية القرن العشرين تظهر هذه المشكلة بهذا الانكشاف، وبهذا الاتساع المخيف والمرعب، الذي بات يقلق جميع العقلاء والحكماء في الأمة، وكل المتنورين والمصلحين.
وعند النظر في هذه التشكيكات، يمكن التوقف أمام ثلاثة أنماط منها، تختلف من حيث الدرجة والشدة، ومن حيث البواعث والخلفيات، ومن حيث منظورات الرؤية، وهذه الأنماط هي:
أولاً: هناك من يرى أن مفهوم التقريب كان وما زال مفهوما ملتبساً، منذ الإعلان عنه في أربعينيات القرن العشرين إلى اليوم، بشكل يصعب الإمساك بمضمونه، والاتفاق على هويته وماهيته، ونظراً لهذا الالتباس فإن المقولات الاحترازية هي التي تتقدم عند بيان هذا المفهوم، وشرحه من قبل المنخرطين في عملية التقريب.
وهذا القدر ليس كافياً في تحديد المفهوم وضبط مضمونه، والاتفاق عليه، ولكون هذا المفهوم بقي ملتبساً، فإن التباسه يمثل أحد عوامل عدم تحقق وتحقيق مضمونه فعلياً على الأرض، وفي ساحة المسلمين.
ثانياً: هناك من يرى أن مفهوم التقريب أصبح مفهوماً يرجع بنا إلى الوراء، ويجعلنا ننظر إلى الخلف، وتحديداً إلى تجربة دار التقريب في أربعينيات القرن العشرين، في حين أن الأوضاع العامة للأمة اليوم اختلفت كلياً وعلى المستويات كافة، وأصبحت أكثر تعقيداً.
وظهرت في ساحة المسلمين مشكلات وأزمات خطيرة للغاية، أدت في بعض الحالات، وفي بعض المجتمعات إلى حالة من الاقتتال، وهددت ولأول مرة بحصول حروب دينية بين المسلمين، وهذا ما لم يحصل في كل التاريخ الإسلامي.
ومن جهة أخرى، تغيرت صورة العالم في ظل عصر العولمة، وثورة المعلومات، وفي ظل التطورات المذهلة في شبكات الإعلام، وتكنولوجيا الاتصال، إلى جانب أننا انتقلنا من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين.
الوضع الذي يقتضي عند القائلين بهذا الرأي، البحث عن مفهوم آخر غير مفهوم التقريب، يكون أكثر وفاء واستجابة لهذه التطورات والوضعيات الراهنة في الأمة والعالم، وفي هذا الصدد هناك من يدعو إلى مفهوم التآخي بين المسلمين كبديل لمفهوم التقريب، ولعل هناك من يدعو إلى مفهوم آخر أيضاً.
ثالثاً: هناك من أظهر تحفظاً على مفهوم التقريب، واعتراضاً عليه أحياناً، وتبنى بدلاً منه مفهوم التعايش، وجاء هذا الموقف على خلفية أن مفهوم التقريب لكونه يتصل بالمجال الفكري والمذهبي والكلامي، وهذا من غير الممكن، في حين أن مفهوم التعايش لكونه يتصل بالمجال الاجتماعي وله علاقة بالسلم المجتمعي، فإنه ممكن، ويمثل ضرورة من هذه الناحية.
وقد تبلور هذا الموقف في ساحة أولئك الذين ظلوا بعيدين عن مسلك التقريب، وكانوا يبدون تحفظاً على هذا النمط من العلاقة بين المذاهب الإسلامية، ولا يرغبون في تطوير العلاقة إلى مستويات متقدمة، ويطالبون بالحد الأدنى من هذه العلاقة، والتي تتحدد حسب منظورهم في مفهوم التعايش.
والتغير الذي حصل في هذا الشأن، أن أصحاب هذا الموقف كانوا سابقاً يتحفظون على مفهوم التقريب ويعترضون عليه، ويشككون فيه، من دون تبني مفهوم آخر يكون بديلاً عنه من جهة، ومتناغماً مع مسلكهم الفكري من جهة أخرى، وحديثهم اليوم عن مفهوم التعايش بهذا القدر يمثل تطوراً في موقفهم الفكري.
هذه لعلها أبرز أنماط الشكوك التي يمكن التوقف عندها، وهناك أنماط أخرى جرى النقاش عنها من قبل، وتطرح من خارج ساحة التقريب، ومن البعيدين عنه نفسياً وفكرياً، من قبيل أن التقريب يستدعي تقديم تنازلات، وهذا ما يرفضه هؤلاء حسب منطقهم، ومن الفريقين سنة وشيعة، ومن قبيل أن الاختلاف بين المسلمين السنة والشيعة هو اختلاف أصول وليس اختلاف فروع حتى يجري التقريب بينهم، في حين أن التقريب جاء للبرهنة على أن هذا الاختلاف هو اختلاف فروع، وليس اختلاف أصول، إلى جانب اعتراضات أخرى تطرح بعيداً عن ساحة التقريب1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الخميس / 3 فبراير 2011م، العدد 16231.