عاش الإمام الحسن (عليه السلام) الطفولة بأسعد ما يمكنه أن يعيشها طفل في العالم، فقد كان بين أناس يختصرون في نفوسهم كلّ معاني الإيمان والأخلاق والقيم الإنسانيّة كافّة وهم جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبوه “أمير المؤمنين” (عليه السلام) وأمّه “فاطمة الزهراء” (عليها السلام) وأخوه الإمام الحسين (عليه السلام)، وارتوت نفسه ونفس أخيه من تلك الينابيع الفيّاضة مع كونه حديث السّن ولم يكن قد تجاوز السّابعة أو الثامنة من عمره عندما ارتحل جدّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الدنيا. إلّا أنّ مجريات الأمور بعد رحيل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تسر كما كان مقرّراً، إلى أن استلم الخلافة أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).. بعد خمس وعشرين سنة على رحيل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعاد إليه حقّه بالولاية، إلاّ أنّ ضعفاء النفوس والمتخاذلين أبَوا إلّا أن يحاربوه فكانت حروب الجمل وصفّين والنهروان، ثمّ انتهى الأمر باستشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) في مسجد الكوفة على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم.
والإمام الحسن (عليه السلام)عايش كلّ تلك الأحداث وكان يتابعها ويشارك فيها مع أبيه وأخيه، وبعد استشهاد الإمام علي (عليه السلام) بويع الإمام الحسن (عليه السلام) بالخلافة كقائدٍ ووليٍ للأمّة، ولكن في فترةٍ حرجة وصعبة جداً بسبب الحروب التي افتعلها المتآمرون على أبيه (عليه السلام). وأوّل ما عمد الإمام الحسن (عليه السلام) إلى فعله هو إكمال تهيئة الجيش الذي كان يحشده أبوه (عليه السلام) لقتال معاوية بعد “مهزلة التحكيم” في موقعة صفّين عندما كاد معاوية أن يخسر الحرب لولا تلك الخديعة الماكرة، وخطب في الناس فقال (عليه السلام): (أيّها الناس: إنّ الدنيا دار بلاءٍ وفتنة، وكلّ ما فيها إلى زوالٍ واضمحلال… وإنّي أبايعكم على أن تحاربوا من حاربت، وتسالموا من سالمت..)، فقال الناس: “سمعنا وأطعنا فمرنا بأمرك يا أمير المؤمنين”. وسار الإمام (عليه السلام) بالجيش لملاقاة معاوية الذي كان قد خرج من الشام قاصداً العراق لحرب الإمام (عليه السلام)، إلّا أنّ ما يؤسف له أنّ الكثير من قادة جيش الإمام الحسن (عليه السلام) خانوه وانحازوا إلى معاوية بالترغيب بالأموال والمناصب ومنهم الحكم الكندي والمرادي وعبيد الله بن العباس وهو من أرحام الإمام الحسن (عليه السلام) وأخذوا معهم أكثرية الجيش، فلم يبق مع الإمام (عليه السلام) إلّا العدد القليل، فأراد أن يمتحنهم ليرى مقدار ولائهم له فقال لهم: (أمّا بعد: فإنّي والله لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه، وأنا أنصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة، ولا مريداً له بسوء ولا غائلة، ألا وإنّ ما تكرهون في الجماعة خيرٌ لكم ممّا تحبّون في الفرقة، ألا وإنّي ناظركم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردّوا عليّ رأيي، غفر الله لي ولكم، وأرشدني وإيّاكم لما فيه المحبّة والرضى). عندها نظر الناس إلى بعضهم وقالوا بأنّ الإمام (عليه السلام) يريد من هذا الكلام أن يصالح معاوية وقالوا والعياذ بالله “كفر والله الرجل”، ثمّ هجموا على الإمام (عليه السلام) ونهبوا خيمته وما كان فيها حتى أنّهم أخذوا مصلاه من تحته، وهجم شخص اسمه “الجرّاح بن سنان” من بني أسد، وضرب الإمام (عليه السلام) بخنجرة يريد قتله بعد أن وصفه بالشرك والعياذ بالله، وكان لهذا الشخص وغيره ممّن هاجموا الإمام ميول للخوارج وكانوا يضمرون الكره لأمير المؤمنين (عليه السلام) بسبب قتله لهم في “معركة النهروان”، وحتى أنّ البعض من هؤلاء المنحرفين اقترح تسليم الإمام (عليه السلام) إلى معاوية حياً لقتله. وهكذا انهار جيش الإمام قبل البدء بالحرب بسبب الإنحراف والإغراءات، بحيث لم يعد أمام الإمام الحسن (عليه السلام) سوى طريق الصلح لحقن الدماء من شيعته وشيعة أبيه، وقد قال الإمام (عليه السلام) كلاماً مهمّاً عن تلك الخيانة من جيشه فقال: (غررتموني كما غررتم من كان قبلي، مع أيّ إمامٍ تقاتلون بعدي؟ مع الكافر الظالم الذي لم يؤمن بالله ولا برسوله قط، ولا أظهر الإسلام هو وبني أمية إلّا فرقاً من السيف؟)
ومن هنا يمكن أن نختصر أسباب الصلح الذي أجبرت الإمام اللجوء إليه بالتالي:
التمرّد الحاصل من مجموعات كبيرة من جيش الإمام الحسن (عليه السلام) مع قادتهم الذين اشتراهم معاوية بالمال والمنصب.
التعب والإرهاق اللذين نالا من الجيش بسبب الحروب زمن أمير المؤمنين (عليه السلام).
ما قاله السيد المرتضى علم الهدى (أنّ المجتمعين له من الأصحاب وإن كانوا كثيري العدد، فقد كانت قلوبهم نغلة غير صافية، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية من غير مراقبة ولا مساترة).
حفظ شيعته وأصحابه من القتل على يد معاوية وأزلامه، لأنّه كان يعلم أنّ معاوية لن يتركهم أحياء بدون أخذ تعهّد منه، ومع ذلك فقد قتل معاوية الكثير من أصحاب الإمام الحسن (عليه السلام) وأصحاب أبيه (عليه السلام) كذلك.
حفظ حقّه بالخلافة بعد موت معاوية، لأنّ الأخير كان يطلب الحكم لنفسه لا لله ولا لتطبيق شرع الله، وإن لم يكن الإمام الحسن (عليه السلام) حياً عند موت معاوية فالخلافة تعود للإمام الحسن (عليه السلام) من بعده.
ولا بدّ أن نذكر هنا أنّ الذي طرح فكرة الصلح هو معاوية وليس الإمام الحسن (عليه السلام) لعلمه بأنّ قتل الإمام الحسن (عليه السلام) على يديه ستكون له إنعكاسات سلبية لوصوله إلى الحكم الدنيوي الذي يسعى إليه. وما يؤكّد عدم لجوء الإمام إلى الصلح إلّا بعد اليقين بأنّ الغدر والمكر والخديعة انحرفت بأكثرية جيشه إلى دنيا معاوية ما قاله بعد علمه بكلّ ما جرى: (يا عجباً من قومٍ لا حياء لهم ولا دين، لو سلّمت له الأمر فأيم الله لا ترون فرحاً أبداً من بني أميّة، والله ليسومونكم سوء العذاب، ولو وجدت أعواناً ما سلّمت له الأمر، لأنّه محرّم على بني أميّة، فأفٍ وترهاً يا عبيد الدنيا)، ثمّ ردّ على كتب معاوية بالصلح قائلاً له: (أمّا أني أريد أن أحيي الحق وأميت الباطل، وأجري كتاب الله وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن الناس لم يوافقني، والآن أنا أصالحك على شروط أعرف أنك لن تفي بها، فلا يسرّك أنّ الملك ميسّر لك، فسرعان ما ستندم كما ندم من غصبوا الخلافة، لكن ندمهم لم يعقب لهم نفعاً). وقد سأل بعضهم الإمام (عليه السلام) عن سبب صلحه مع معاوية فأجابهم: (ألا ترى الخضر (عليه السلام) لمّا خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط النبيّ موسى فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى اخبره فرضي، هكذا أنا سخطتم عليَ بجهلكم وجه الحكمة فيه “الصلح” ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلّا قتل).
وهكذا كانت مظلومية الإمام الحسن (عليه السلام)في حياته نتيجة الجهل بأبعاد فعل الإمام المعصوم (عليه السلام) بنص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما قال (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)، حتى وصل الأمر ببعض أخلص أصحابه أن يقول للإمام (عليه السلام): “سوّدت وجوه المؤمنين”، فقال له الإمام الحسن (عليه السلام): (ما كلّ أحدٍ يحبّ ما تحب ولا رأيه كرأيك، وإنّما فعلت ما فعلت إبقاءً عليكم). وأمّا مظلومية الإمام الحسن (عليه السلام) بعد استشهاده فهي في التهجّم عليه من بعض من كتبوا التاريخ وافتروا على الإمام (عليه السلام) بأنّه كان صاحب شخصيّة عبثيّة وكان كثير الزواج والطلاق كما ادّعوا أنّه لم يكن كثير الإهتمام بقضايا المسلمين وشؤونهم وأنّه ليس أهلاً للحكم والولاية وإدارة البلاد والعباد، وليس مؤهّلاً لحمل أمانة الرسالة الإسلامية الخالدة والقيام بخدمتها والدفاع عنها، ومن الواضح أنّ كلّ تلك الإفتراءات لم تكن سوى مبرّرات واهية ولا تصمد عند ذكر الأحداث التاريخية التي أدّت إلى ذلك الصلح، ولم تكن سوى مبرّرات لكيفية وصول معاوية إلى الحكم بالحيلة والخديعة وغصب الحق من صاحبه الشرعي، بادّعاء أنّ معاوية أقدر على إدارة شؤون البلاد والعباد وما شابه ذلك من النصوص التي أوردها بعض من باعوا دينهم بدنيا غيرهم ليبرّروا لمعاوية ما فعل حتى وصل إلى مقام الخلافة المحرّمة عليه بنص النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وما يدلّ على مظلومية الإمام الحسن (عليه السلام) هو إغراء معاوية لجعدة بنت الأشعث بدسّ السم للإمام (عليه السلام) لقتله ولتزويجها من ولده يزيد وإعطاؤها مبلغ ضخم من المال، وهكذا انتقل الإمام الحسن (عليه السلام) إلى ربّه شهيداً مسموماً، وعند احتضاره قال لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام): (لا يوم كيومك يا أبا عبد الله) قاصداً بذلك مظلومية الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء وما جرى عليه ممّا كان الإمام الحسن (عليه السلام) يعرفه عن أبيه وأمّه وجدَه (صلى الله عليه وآله وسلم). فسلامٌ على الإمام الحسن (عليه السلام) يوم وُلد ويوم استُشهد ويوم يُبعث حياً، ونسأل الله تعالى شفاعته وشفاعة جدّه وأبيه وأمّه وأخيه وأبناء أخيه الأئمة الأطهار (عليهم السلام). والحمد لله ربّ العالمين1.
- 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.