نص الشبهة:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين. وبعد..
الرواية قال ابن أبي الحديد: “.. روى المدائني قال: قال معاوية يوماً لعقيل بن أبي طالب: هل من حاجة فاقضيها لك؟ قال: نعم، جارية عرضت عليّ، وأبى أصحابها أن يبيعوها إلا بأربعين ألفاً. فأحب معاوية أن يمازحه، فقال: وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفاً، وأنت أعمى، تجتزئ بجارية قيمتها خمسون درهماً؟!! قال: أرجو أن أطأها، فتلد لي غلاماً إذا أغضبته يضرب عنقك بالسيف. فضحك معاوية، وقال: مازحناك يا أبا يزيد. وأمر فابتيعت له الجارية التي أولد منها مسلماً.. فلما أتت على مسلم ثماني عشرة سنة، وقد مات عقيل أبوه، قال لمعاوية: يا أمير المؤمنين: إن لي أرضاً بمكان كذا من المدينة، وإني أعطيت بها مئة ألف، وقد أحببت أن ابيعك إياها، فادفع إليّ ثمنها.. فأمر معاوية بقبض الأرض، ودفع الثمن إليه.. فبلغ ذلك الحسين عليه السلام، فكتب إلى معاوية: أما بعد فإنك غررت غلاماً من بني هاشم، فابتعت منه أرضاً لا يملكها، فاقبض من الغلام ما دفعته إليه، واردد إلينا أرضنا.. فبعث معاوية إلى مسلم، فاخبره بذلك، وأقرأه كتاب الحسين عليه السلام، وقال: اردد علينا مالنا، وخذ أرضك، فإنك بعت ما لا تملك. فقال مسلم: أما دون أن أضرب رأسك بالسيف فلا.. فاستلقى معاوية ضاحكاً، يضرب برجليه، فقال: يا بني، هذا والله كلام قاله لي أبو ك، حين ابتعت له أمك.. ثم كتب إلى الحسين: إني قد رددت عليكم الأرض، وسوغت مسلماً ما أخذ.. فقال الحسين عليه السلام: أبيتم آل سفيان إلا كرماً..” (شرح النهج للمعتزلي ج11 ص251 ،252 ، والبحار ج42 ص116، 117 عنه) انتهى.
الجواب:
رأينا في الرواية
ونحن نرى: أن هذه الرواية لا يمكن أن تصح، لأن ما بأيدينا من النصوص التاريخية، لا ينسجم، ولا يتوافق معها، بل يدحضها ويكذبها..
وقبل أن نذكر عمدة ما نستند إليه في حكمنا هذا يحسن بنا أن نشير إلى الملاحظات التالية:
ملاحظات لابد منها
1 ـ إن أول ما يطالعنا فيها: هو تلك البداية غير الطبيعية التي تقول: إن معاوية قد طلب من عقيل: أن يكلفه بقضاء حاجة له!!!.
فما كان من عقيل إلا أن كلفه بهذه الحاجة بالذات !!..
فطلب معاوية هذا قد جاء على خلاف العادة المألوفة على أقل تقدير..
كما أن طلب عقيل منه قضاء هذه الحاجة بالذات غير مألوف أيضاً، ولاسيما من شيخ قد طعن في السن جداً.. حتى إنه قد يناهز الثمانين، أو يزيد.. ذلك السن الذي تعزف فيه النفس عن النساء: إن لم يكن عن عجز وضعف، فعن ترفع وإباء..
ويزيد الأمر غرابة هنا أن عقيلاً ـ حسبما يدعون ـ قد أولد هذه الجارية ستة أطفال رغم كبر سنه وشيخوخته..
﴿ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾ 1.
﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ﴾ 2.
2 ـ إن الرواية لا سند لها، ليمكن التحقيق فيه، سوى أنها من نقل المدائني، وهو لايعد وعن أي يكون مؤرخاً، لا يتثبت فيما ينقله، ولا يتحقق من صحته في كثير من الأحيان..
هذا.. عدا عن أن ثمة بعض الشواهد التي تؤكد على تحيزه وممالأته لأعداء أهل البيت عليهم السلام.. 3.
3 ـ يلاحظ: أن الرواية ـ كغيرها من العديد من الروايات المفتعلة ـ 4 لا تعين النقود الواردة فيها: لا الأربعين ألفاً ثمن الجارية، ولا المئة ألف، التي تكرّم بها معاوية وسوغها لمسلم.. هل هي من الدراهم ؟! أو من الدنانير ؟!!.
4 ـ تنص الرواية: على أن ثمن الجارية كان أربعين ألفاً !! وهو أمر غريب !!. فإن أثمان الجواري، وإن كانت قد ارتفعت في أواخر العهد الأموي، وأوائل العهد العباسي، إلا أنها لم تكن في الصدر الأول الذي يفترض لهذه الرواية، وهو عهد الخلفاء الاربعة الأول بهذه المثابة.. ويتضح ذلك بالمقارنة بين ما افترضه معاوية ثمناً لجارية، وهو خمسون درهماً، وبين ما افترضه عقيل، وهو أربعون ألفاً. فمهما ترقّت الخمسون فإنها لن تصل إلى ربع أو ثلث ذلك المبلغ العظيم ـ أربعين الفاً.. مهما جمعت من الميزات، وحوت من الخصائص..
وقد اشترى معاذ بن عفراء خمس جواري بألف وخمسمائة درهم.. 5 وتواتر النقل بأن علياً عليه السلام لم يترك سوى سبعمائة درهم ادّخرها ليشتري بها خادماً لأهله..
أضف إلى ذلك كله: أن النقود كانت في تلك الفترة قليلة، الأمر الذي يجعل لها قيمة كبيرة، والقليل منها يكفي للشيء الكثير.. ولاسيما مع ملاحظة كثرة الرقيق آنئذ لأنه كان عهد الفتوحات، وكانوا قد كثروا بحيث خاف معاوية منهم، فأراد أن يقتل منهم شطراً، فنهاه الاحنف عن ذلك 6.
5 ـ إن الرواية تقول: إن مسلماً لم يبع أرضه في المدينة لمن دفع له بها مئة ألف، وباعها إلى معاوية بنفس هذا الثمن، وهنا يرد السؤال:
إذا كان معاوية بالشام، ومسلم يسكن المدينة طبعاً، فلماذا يتجشّم مسلم عناء السفر إلى الشام، ليبيعها إلى معاوية بنفس ذلك الثمن الذي كان بإمكانه أن يحصل عليه في المدينة ؟!.. ويؤيد أن مسلماً قد سافر إلى الشام ليبيع الأرض لمعاوية رسالة الحسين التي تقول الرواية أنه (ع) قد ارسلها إلى معاوية في خصوص هذا الأمر..
وإذا كان قد حصل البيع في المدينة، فلماذا يرغب مسلم في بيع الأرض لمعاوية بالذات، ولم لَم يبعها إلى ذلك الذي أعطاه بها نفس الثمن ؟!.
أم يعقل أن يكون مسلم قد كذب على معاوية، من أجل أن يحصل على المال ؟!.
6 ـ يلاحظ: أن الرواية تفيد: أن مسلماً قد خاطب معاوية بصورة جافة، لا أدب فعها. بل هو يصدر له الأمر من فوق بدفع الثمن، وأخذ الأرض. ومعاوية يستجيب له، ولا يبدي أية مقاومة ولا يتصدى للمساومة، ولا يتفحص عن صدق مسلم وكذبه، أو على الأقل عن الأرض التي يدعيها مسلم، ويفرض عليه أن يشتريها..
وعدا عما تقدم، فإننا نشير إلى الأمور التالية:
مستندنا في الحكم على هذه الرواية
أولاً: إن الرواية تقول: إن الحسين قد كتب إلى معاوية: بأنه غرّ مسلماً، واحتال عليه في شراء الأرض منه.. فلماذا يتهم الحسين معاوية بهذه التهمة التي كان معاوية بريئاً منها.. بل كان قد أرغم على قبول شراء هذه الأرض.. فإذا كان الحسين لا يعلم الحقيقة فلماذا يقول بغير علم، ويفتري على الأبرياء من دون تثبت.. وإذا كان يعلم الحقيقة فلماذا يتهم معاوية بما يعلم أنه بريء منه.. فهل يمكن أن نفهم من ذلك: أن الرواية تتعمد المساس بشخصية الحسين، والحط من كرامته ؟!. الحسين.. الذي هو من أهل ذلك البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهّرهم تطهيراً..
وبتعبير آخر أكثر تفصيلاً.. إنه إذا كان مسلم صادقاً في دعواه ملكية الأرض فما معنى ادعاء الحسين (ع): أن الأرض ليست لمسلم.. وأنه باع ما لا يملك؟!.
ولماذا لا يبادر مسلم إلى تبرئة نفسه، وتأكيد ملكيته للأرض. وتنزيه نفسه عن أحد أمرين: إما الجهل وكونه غرّاً كما ذكره الحسين عليه السلام.. وإما الاحتيال على معاوية ببيعه له أرضاً لا يملكها بهدف الحصول على المال..
وإذا كان مسلم غرّاً جاهلاً، أو محتالاً حقاً، فلماذا يرسله الحسين نفسه ممثلاً عنه بعد فترة وجيزة إلى الكوفة، ثم هو يقول عنه لأهلها: إنه أخاه وثقته من أهل بيته، ثم يأمر أهل الكوفة ـ أكبر مصر إسلامي وأكثرها حساسية ـ بإطاعته والامتثال لأوامره..
وإذا كان مسلم غلاماً غرّاً.. فلماذا لا يتحرى معاوية هذا الأمر ؟! وهل كان حقاً بهذه البساطة والسذاجة؟! وكيف استطاع هذا الغلام الغرّ أن يمرر حيلته على معاوية الرجل المسنّ والمحنّك الداهية..
وهل يكون ابن ثماني عشرة سنة غلاماً حدثاً، لا ينفذ بيعه، ولا يصح تصرفه ؟!.. أم أنه كان سفيهاً محجوراً عليه؟!
ثانياً: إن الرواية تنص على أن الحسين عليه السلام قد مدح معاوية، وآل أبي سفيان، جميعاً، وقال: ” أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرماً “. وذلك ينافي الواقع، وحقيقة الأمر، كما أنه ينافي رأي أهل البيت، والحسين عليه السلام بالذات في بني أمية عامة، والسفيانيين منهم خاصة وعلى الأخص معاوية، كما يظهر من تتبع أقواله عليه السلام فيهم، ومواقفه منهم. وكيف يقرض معاوية بهذا التقريض، وقد رأى رأي العين ما فعله معاوية مع أبيه علي، وأخيه الحسن عليهما السلام، وكان ولا يزال يلعنه وأباه وأخاه في صلاته، وعلى المنابر، ويطارد شيعتهم ومحبيهم في كل زمان ومكان، وتحت كل حجر ومدر، وفي كل سهل وجبل..
وثالثاً: إن تاريخ وفاة عقيل يأبى أن تكون هذه الرواية صحيحة، لأن هاهنا أربعة أقوال:
أحدها: إنه توفي سنة خمسين للهجرة، وكان عمره حين وفاته 96 سنة 7.
ثانيها: إنه مات في خلافة معاوية، من دون تعيين السنة.. 8.
ثالثها: إنه توفي قبل وفاة معاوية بسنتين 9.
رابعها: إنه توفي سنة ستين للهجرة، بعد وفاة معاوية.
ولعل القول الثاني يرجع إلى الأول أو إلى الثالث. أو على الأقل لا ينافيهما، كما هو واضح ولذا، ولعدم التعيين فيه، فلا يمكن المساعدة ولا الاعتماد عليه..
والقول الرابع هو الصحيح والمعتمد لسببين:
أحدهما: ما قاله ابن حجر: ” قال ابن سعد: قالوا: مات في خلافة معاوية بعدما عمي. قلت: في تاريخ البخاري الأصغر، بسند صحيح: إنه مات في أول خلافة يزيد بن معاوية، قبل وقعة الحرّة ” 10.
ثانيهما: إنه على هذا القول يمكن الملائمة بين مقدار عمره وتاريخ ميلاده، على بعض الروايات.. أما على غيره فلا يمكن ذلك على الإطلاق.. وبيان ذلك:
أن علياً عليه السلام قد توفي سنة 40 ﻫ عن عمر يناهز الـ 63 سنة ويقول البلاذري: إن عقيلاً كان يكبر جعفراً بتسع سنين، وكان جعفر أكبر من علي عليه السلام بأربع سنين، فيصير المجموع 13 سنة 11 تضاف إلى 63 عمر علي، ويضاف إليها 20 سنة من سنة 40 إلى سنة 60 عاشها عقيل بعد وفاة علي فيصير المجموع 96 سنة. وقد تقدم ان عقيلاً قد توفي عن 96 سنة..
وأما إذا أردنا أن نأخذ بالروايات الأخرى فلا يمكن أن يصح مقدار عمر عقيل، ولا يمكن تطبيقه مع عمر علي على 96 سنة، كما هو ظاهر، وكمثال على ذلك نقول:
لو قلنا إنه كان يكبر علياً بعشرين سنة فإن كان قد توفي سنة خمسين فيصير عمره حينئذ 93 سنة.. وإن كان قد توفي سنة ستين زاد عمره على المئة سنة.. وإن كان عمر علي 65 وكان عقيل قد توفي سنة ستين وكان يكبر علياً بعشرين زاد عمره على المئة أيضاً.. وإن كان يكبره بـ 12 أو 13 سنة صار عمره 97 أو 98.
ولو كان توفي سنة خمسين وكان يكبره بـ 12 أو 13 سنة صار عمره أقل من 90 وهكذا.. سائر الافتراضات. وتفصيلها أمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان..
وعليه فلا يمكن أن يصح إلا القول الذي وردت به رواية صحيحة وهو أنه توفي في أول خلافة يزيد.. وإذا كان كذلك فلا يمكن أن تصح رواية مسلم ومعاوية المتقدمة، لفرض أن عقيلاً قد توفي في أول خلافة يزيد، بعد موت معاوية.. مع أن الرواية تنص على العكس أي على أن عقيلاً مات قبل معاوية.. فكيف يذهب مسلم إلى معاوية الذي كان قد مات !! ويبيعه الأرض، ثم يكتب الحسين (ع) إلى معاوية الميت إلى آخر ما تذكره تلك القضية؟!..
ورابعاً: إن تلك الرواية تنص على أن عقيلاً كان حينما جرى بينه وبين معاوية ما جرى أعمى، وأن معاوية قال له: ” وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفاً، وأنت أعمى؟ “..
ولكن من الواضح: أن عقيلاً إنما عمي في أواخر خلافة علي عليه السلام أي بعد حرب الجمل وصفين والنهروان، وبعد غارة الضحاك بن قيس سنة 39ﻫ 12.
وأقل الروايات في عمر مسلم حينما قتل سنة ستين هي: 28 سنة، فمعنى ذلك: أن مسلماً كان قد ولد سنة 32..
وعلى هذا.. فحتى لو سلمنا: أن وفاة عقيل كانت سنة خمسين وأن عمر مسلم كان حين وفاة أبيه 18 سنة فيكون قد ولد سنة 32، فتوافق الرواية القول بأن مسلماً عاش 28 سنة ـ إننا حتى لو سلمنا ذلك ـ فإننا نجد: أن عقيلاً لم يكن قد عمي في سنة 32 بل كان صحيح العينين، مع أن الرواية تنص على أنه كان قد عمي حينئذ.. وكون عقيل قد ذهب إلى معاوية بعد عماه وقبل وفاة علي يرده أننا قد ذكرنا في مقال آخر: أن عقيلاً لم يذهب إلى معاوية في حياة علي أصلاً.. هذا بالإضافة إلى أنه لا يكون عمر مسلم حين استشهاده 28 سنة بناء على هذا بل أقل وكون ذلك قد جرى في سنة ستين. إنما يعني أن مسلماً كان عمره 18 سنة، حين استشهد، مع ان أقل الروايات في عمره هي 28 سنة..
وخامساً: وأخيراً.. إن عمر مسلم بن عقيل لا يتلاءم مع هذه الرواية، فقد نقل عن العقاد: أن عمره حين استشهد كان يناهز الأربعين.. وقال البعض بل كان عمره 28 سنة.. 13 وقيل غير ذلك 14..
ونحن نستقرب ما قاله العقاد وذلك:
أ ـ لما ذكره الواقدي، من أن المسلمين حينما فتحوا مدينة ” البهنسا ” في خلافة عمر كان مسلم بن عقيل مع الفاتحين، فدخلها وهو يقول:
ضناني الحرب والسهر الطويل ***و أقلقني الـتسهـد والعويل
فوا ثارات جعفر مع علي *** و ما أبدي جوابك يا عقيل
سأقتل بـالمهنّـد كل كلـب *** عسى في الحرب أن يشفى الغليل 15
وهذا يعني: أن مسلماً قد ولد في حياة النبي (ص)، أي قبل فتح الشام بزمن طويل هذا إن لم تكن ولادته قبل إسلام معاوية نفسه الذي أسلم عام الفتح..
وعليه.. فكيف يكون عمره حين وفاة أبيه سنة ستين، أو خمسين 18 سنة فقط؟!..
نعم يمكن المناقشة في ذلك بأن أحداً لم يذكر مسلماً في الصحابة رغم اعتنائهم الشديد في ضبط أسمائهم، والتعرف على أحوالهم، حتى الشاذ النادر، فكيف بمن هو من أهل بيت النبي (ص) إلاّ أن يقال: ربما يهمل ذلك من أجل أن لا يتهم نظام الحكم بأنه قتل صحابياً !! ولعل لذلك شواهد عديدة لا تخفى.
ولكننا مع ذلك نبقى غير مطمئنين لنقل الواقدي هنا، باعتبار أنه ـ لو صحت نسبة هذا الكتاب للواقدي وأنا أشك في ذلك ـ فإن الواقدي قد اتبع في هذا الكتاب أسلوب الروائيين والقصاصين، ولم يعتمد فيه الحقائق التاريخية بشكل دقيق.. وإذن.. فلابد من التطلع إلى أدلة أخرى غير ما ذكرناه هنا لإثبات ما يراد إثباته. وذلك أيضاً غير عزيز، إذ:
ب ـ أن مسلماً قد حضر حرب صفين، وكان في ميمنة علي عليه السلام، مع الحسن، والحسين، وعبد الله بن جعفر 16 وكانت صفين في سنة 37ﻫ. فهو يدل على أنه كان حينئذٍ بحيث يستطيع الحرب، ويجيد الطعن والضرب، بل يمكن الاستفادة: أنه قد ولد في زمن النبي (ص) أيضاً ـ ويصح قول الواقدي السابق، إذ من البعيد أن يقرن بالحسن والحسين، وابن جعفر، وهو لا يدانيهم بحسب السن، وكلهم قد ولد في عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
ج ـ إنهم يقولون: أنه كان لمسلم ولدان قد حاربا مع الحسين عليه السلام في كربلاء، وقتلا العديد من الأبطال والشجعان، وهما عبد الله، ومحمد، هذا عدا عن طفلين آخرين مميزين، قتلا على شط الفرات في الكوفة.. فاللذان قتلا في كربلاء، كانا قد بلغا الحلم على الأقل، وهذا لا يلائم ما يقال، من أن أباهما قد استشهد وعمره 28 عاماً على أقل الروايات.. هذا لو كان عقيل قد توفي في سنة خمسين..
وأما على حسب ما ذكرناه آنفاً من ان عقيلاً قد توفي في أول خلافة يزيد، فلو فرضنا أن مسلماً قد ذهب إلى معاوية بعد وفاة عقيل فمعنى ذلك هو أنه قد استشهد وعمره 18 سنة حسب نص الرواية، ولا نستطيع: أن نتعقل حينئذ أنه في غضون هذه الفترة يتزوج عقيل المسن جداً، ويولد له من تلك الجارية ستة أولاد منهم مسلم 17 يقتل منهم ثلاثة مع الحسين (ع) هم: مسلم، وعبد الله، وعبد الرحمن. ويذكر أن كل هؤلاء كانوا رجالاً لهم أولاد 18، وكان لمسلم ستة أولاد أو ثمانية من ثلاثة نساء 19 ويكبر أولاد مسلم ويصيرون شباناً، ويقتل منهم اثنان مع الحسين في كربلاء، وطفلان مميزان في الكوفة..
إن كل ذلك مما لا يمكن ان يتم في غضوم ثمانية عشر سنة كما هو ظاهر.
واحتمال أن يكون قد اشترى معاوية منه الأرض في أيام إمارته لا في أيام خلافته 20.
غير صحيح، لأن الحسين عليه السلام لم يكن له حق التصرف حينئذٍ، إذ كانت الإمامة لأبيه أو لأخيه.
فضلاً عن أن عقيلاً أبا مسلم قد كان حياً حينئذٍ، وإنما كان عمر مسلم ثمانية عشر سنة بعد وفاة أبيه حسب نص الرواية..
وهكذا.. يتضح: أن هذه الرواية مفتعلة ومختلقة، ولا يمكن أن تصح.
سبب افتعال الرواية
وبعد.. فلعل سبب افتعال تلك الرواية مما لا يحتاج إلى مزيد بيان بعد أن كانت الرواية نفسها صريحة في ذلك كل الصراحة، وذلك لأنها تتضمن:
أولاً: النص على كرم معاوية، وحلمه ؛ لأنه اشترى لعقيل الجارية بعدما اسمعه عقيل الكلام الجارح، لمجرد أن معاوية كان قد أحب ممازحته، كما أنه قد صفح عن جرأة مسلم، وتهديداته له، وأحسن إليه بأن سوغه المئة ألف، وردّ عليه الأرض.. وكل هذا ولاشك كرم عظيم، وحلم رجل وفيّ كريم. ولاسيما إذا اعترف بذلك له ولكل آل أبي سفيان مثل الإمام الحسين بن علي عليهما السلام..
ثانياً: الرواية تنسب في مقابل ذلك إلى الإمام الحسين عليه السلام: أنه يلقي التهم جزافاً، بلا مبرر ظاهر، بل مبنية على الحدس والتخمين المخالف للواقع، وذلك ينافي ما يقال عنه من أنه ممن أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيراً..
هذا عدا عن أن الرواية تتهم مسلماً بالاحتيال، حيث يبيع أرضاً ليست له، ثم إن الحسين (ع) يجعل هذا المحتال بالذات ممثلاً له ونائباً عنه، ويصفه بأنه أخاه، وثقته من أهل بيته !! ـ هؤلاء هم أصحاب الحسين وثقاته محتالون دجّالون !.
ثالثاً: الرواية تظهر: أن آل أبي طالب: سواء في ذلك عقيل أو مسلم، أو الحسين أو غيرهم.. هم أهل فظاظة وعدوان.. وأما آل أبي سفيان، وعلى رأسهم معاوية، الذي حارب علياً، وسن لعنه على المنابر، وقتل ولده الحسن، وفعل غير ذلك من الأفاعيل، فهم ـ باعتراف من الحسين نفسه ـ أهل حلم، وكرم، وصفح، حتى بالنسبة لأعدى أعدائهم الذين ما فتئوا يواجهونهم بقوارع القول، وقواذع الكلام، وهم في المقابل يوسعونهم صفحاً وحلماً وكرماً..
ومعنى ذلك: أن الأمويين إذا ما قسوا في وقت ما على آل أبي طالب، أو لعنوا علياً، والحسن والحسين، وغيرهم على المنابر.. فلابد وأن آل أبي طالب أنفسهم قد اضطروهم لذلك، وألجأوهم إليه، لأنهم دائماً هم المعتدون، ولمثل ذلك العقاب مستحقون.
أي أن السوء ليس في معاوية والأمويين، وإنما السوء كل السوء هو في علي، وأهل بيته من العلويين.. وقد أوضحت الرواية كيف واجه عقيل والحسين ومسلم معاوية بتلك القسوة، التي لا تصدر من أي من شذاذ الأعراب. وكيف كان معاوية بهم جميعاً رفيقاً، وبالكرم والصفح عنهم حقيقاً ـ حتى لقد اضطر الحسين لأن يعلن رأياً في آل أبي سفيان يخالف رأيه ورأي الهاشميين المعروف فيهم.. وعليه فلابد وأن يكون قتل مسلم والحسين فيما بعد، على يد يزيد ولد معاوية إنما هو بما جنته أيديهما، لا ظلماً لهما واعتداء عليهما.. كما يصوره الهاشميون، ومن يتشيع لهم..
الكلمة الأخيرة
ولكن.. وبعد أن ثبت بما لا مجال معه للشك كذب وافتعال تلك الرواية.. فإن خير ما نختم به كلامنا هنا هو قوله تعالى: ﴿ … فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ … ﴾ 21.
- 1. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 73، الصفحة: 230.
- 2. القران الكريم: سورة مريم (19)، الآية: 8، الصفحة: 305.
- 3. الشهيد مسلم للمقرّم / ص46، 47.
- 4. راجع: مقالنا حول: (الإمام علي بن الحسين (ع) وأموال مروان).
- 5. صفة الصفوة / ج1 ص188، وحياة الصحابة / ج2 ص318.
- 6. راجع: كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا (ع)، فصل: قيام الدولة العباسية.
- 7. شرح النهج للمعتزلي / ج11 ص250، والدرجات الرفيعة / ص165 عنه. فليراجع: البحار ج42 ص115، عنه ورجال المامقاني / ج3 ص214، ونكت الهميان / ص201، وقال: ” توفي في حدود الخمسين ” وتذكرة الخواص / ص11.
- 8. طبقات ابن سعد ط ليدن / ج4 ص30، والبداية والنهاية / ج7 ص47، وأسد الغابة / ج3 ص424، والإصابة / ج2 ص494 عن ابن سعد، ومعارف ابن قتيبة / ص88. وفي الدرجات الرفيعة، وذخائر العقبى / ص223، وتاريخ الخميس / ج1 ص163: أنه لم يوقف على السنة التي توفي فيها.
- 9. سفير الحسين ص11.
- 10. تهذيب التهذيب / ج7 ص254، وتقريب التهذيب / ج2 ص29، والإصابة / ج2 ص494.
- 11. أنساب الأشراف ط الأعلمي / ص40ـ41 عن الصادق عليه السلام. وفي مروج الذهب / ج2 ص350: أن عقيلاً كان يكبر جعفراً بسنتين وجعفر كان يكبر علياً بعشر سنين. فيصير المجموع بناء على وفاة عقيل سنة ستين: 94 سنة..
- 12. راجع مقال: متى ذهب عقيل إلى معاوية.
- 13. رجال المامقاني / ج3 ص214.
- 14. فقيل: كان عمره 34 سنة، وقيل: 38 سنة. راجع: سفير الحسين ص12.
- 15. فتوح الشام للواقدي / ج2 ص99.
- 16. المناقب لابن شهر أشوب / ج3 ص168، وسفينة البحار / ج1 ص653 عن البحار / ج8 ص511. والفتوح لابن أعثم ج3 ص32. وفيه: أنه كان على رجالة الميمنة. وفي كتاب سفير الحسين ص35 مناقشة أوردها فمن أراده فليراجعه.
- 17. راجع: أنساب الأشراف للبلاذري ط الاعلمي / ج2 ص69 ولكن في طبقات ابن سعد / ج4 ص29 وكذا في المعارف ذكر خمسة فقط..
- 18. راجع: أنساب الأشراف / ص71 ط الأعلمي / ج2.
- 19. لمسلم خمسة أولاد ذكورهم: عبد الله، ومحمد، وقد قتلا في كربلاء، وعلي ومسلم، وعبد الله.
فأما عبد الله وعلي، فأمهما رقية بنت أمير المؤمنين (ع) وقد استشهد عبد الله في كربلاء.
وأم مسلم، من بني عامر بن صعصعة.
وعبد الله لأم ولد ـ ولعل الصحيح؛ ” عبد العزيز ” فتأمل ـ.
ومحمد لأم ولد أيضاً راجع: أنساب الأشراف / ج2 ص70و71، والمعارف لابن قتيبة / ص88 ومقاتل الطالبيين، وتذكرة الخواص. وفي عمدة الطالب / ص16، ذكر له ايضاً بنتاً اسمها حميدة.
وفي عمدة الطالب / ص16، ذكر له ايضاً بنتاً اسمها حميدة.
وهناك ولدان آخران له اسمهما: إبراهيم، وأحمد. وقيل: طاهر ومطهر، وهما المذبوحان في المسيّب كما قال الصدوق. وقال الطبري: بل هما من أولاد عبد الله جعفر، والأول أقوى. وكان مسلم قد تزوج ببنتين لامير المؤمنين (ع) إحداهما بعد موت الاخرى، وكلتاهما تسمى ( رقية ). والتي ولدت له هي الصغرى منهما، وهي الملقبة بام كلثوم.. - 20. سفير الحسين ص10.
- 21. القران الكريم: سورة الرعد (13)، الآية: 17، الصفحة: 251.