تبدأ هذه المرحلة من نهاية العام السابع إلى نهاية العام الرابع عشر من عمر الطفل ، وهي مرحلة إعداد الشخصية ليصبح الطفل راشداً ناضجاً وعضواً في المجتمع الكبير، وفي بداية هذه المرحلة أو قبلها بعامٍ ينتهي بالتدريج تقليد الطفل للكبار ويبدأ بالاهتمام بما حوله ، وتكون امكانياته العقلية قادرة على التخيّل المجرد ، وقادرة على استيعاب المفاهيم المعنوية.
وفي هذه المرحلة يبدأ الطفل بالتفكير في ذاته وينظر إلى نفسه انها كائن موجود مستقل ، له ارادة غير ارادة الكبار ، فيحاول أن (يتحدى وان يفعل ما يغيظ الاهل ليعلن انه كائن موجود مستقل) 1.
ويحاول التأكيد على استقلاليته بشتى الوسائل والمواقف والتي تكون غالباً مخالفة لما ألفه في المرحلة السابقة ، فيختار كل ما يخصّه أو يتعلّق به باسلوبه الخاص وبالطريقة التي يفهمها ، فيكون له ذوق خاص في اختيار ملابسه ، والرغبة في اكتساب المهارات العقلية والعلمية بمفرده ، ويحاول إقامة علاقات اجتماعية مع بقية الاطفال بالطريقة التي يختارها .
وهذه المرحلة هي من أهم المراحل التي ينبغي للوالدين ابداء عناية تربوية اضافية بالطفل لانّها أول المراحل التي يدخل فيها الطفل في علاقات اجتماعية أوسع من قبل ، وهي مرحلة الدخول في المدرسة .
ومن العوامل المؤثرة في اعداد وبناء شخصية الطفل ، علاقاته مع والديه وباقي أفراد أُسرته ، هذه العلاقة بجميع تفاصيلها تؤدي إلى اتّصافه بصفات خاصة تصحبه حتى الكبر ، وللمدرسة ايضاً أثر عميق في شخصيته حيثُ يجد فيها اطفالاً من مختلف المستويات العلمية أكثر أو أقل منه ذكاءً أو أكثر أو أقل نشاطاً منه (فيباريهم أو يتغلب عليهم أو يخضع لهم فيؤثر ذلك في تكوين شخصيته) 2.
وهنالك عوامل أُخرى مؤثرة في بناء الشخصية وهي مواصفات الجسم من حيثُ الطول والقصر ومن ناحية الضخامة والضعف ، ومن ناحية الصحة والمرض .
ومن أهم العوامل الاَُخرى هو تأثير الافكار التي تعلمها الطفل في بناء شخصيته وفي هذه المرحلة تزداد حاجاته ، فيجب على الوالدين إشباعها ومنها 3.
الدوافع الحيوية كالحاجة إلى المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك .
والحاجة إلى السلامة النفسية والعاطفية والتحرر من القلق .
والحاجة إلى القبول من قبل المجتمع أثناء علاقته به .
والحاجة إلى الاِهتمام به وتقدير مكانته .
والحاجة إلى تعلم المهارات اللازمة للنجاح في الحياة الجديدة .
ونضيف إلى ذلك الحاجة إلى فلسفة وأفكار ومفاهيم ملائمة لمستواه العقلي ، وهذه المرحلة هي مرحلة الحاجة إلى التربية المكثّفة والمتابعة المكثّفة ، مع ملاحظة الحاجة إلى الاستقلال المتولدة عند الطفل.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «الولد سيّد سبع سنين وعبد سبع سنين ووزير سبع سنين» 4.
وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام : «يرخى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً ويستخدم سبع» 5.
وقال الاِمام جعفر الصادق عليه السلام : «دع ابنك يلعب سبع سنين ويؤدّب سبعاً والزمه نفسك سبع سنين» 4.
فهذه المرحلة مرحلة تربوية شاقّة لرغبة الطفل في الاستقلال ، ولتوسع علاقاته خارج الاسرة ، فتحتاج إلى جهد متواصل في التربية والمراقبة في جميع ما يخصُّ الطفل ، في أفكاره وعواطفه وفي علاقاته ، وفي دراسته وتعلمّه ، وفي إشباع حاجاته المختلفة فهو بحاجة إلى التوجيه المستمر والارشاد والتعليم ، والمساعدة في رسم طريق الحياة وتحمّل ما يصدر منه برحابة صدر وانفتاح مصحوباً بالحسم في كثير من الاحوال . وتتحدد معالم هذه المرحلة بما يأتي :
أولاً : تكثيف التربية
التربية الصالحة وحسن الاَدب من أهم المسؤوليات الملقاة على عاتق الوالدين ، وهي حق للطفل أوجبه الاِسلام على الوالدين ، والطفل في هذه المرحلة التي تسبق بلوغ سن الرشد بحاجة إلى تربيّة مكثّفة وجهد اضافي، قال الاِمام علي بن الحسين عليه السلام : «وأمّا حق ولدك… انك مسؤول عمّا وليته من حسن الاَدب والدلالة على ربّه والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه فمثاب على ذلك ومعاقب ، فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا ، المعذر إلى ربّه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه والاَخذ له منه» 6.
ولحراجة المرحلة التي يمرُّ بها الطفل فانّ الوالدين بحاجة إلى الرعاية الالهية للقيام بمهام المسؤولية التربوية ، قال الاِمام علي بن الحسين عليه السلام : «اللهّم ومُنّ عليّ ببقاء ولدي… وربِّ لي صغيرهم… وأصِحّ لي ابدانهم وأديانهم واخلاقهم… واجعلهم ابراراً اتقياء بُصراء… وأعنّي على تربيتهم وتأديبهم وبرِّهم… واعذني وذريتي من الشيطان الرجيم» 7.
وقد أكدّت الروايات على المبادرة إلى التربية وحسن الاَدب .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «أكرموا أولادكم واحسنوا آدابهم» 8.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : «إنّ للولد على الوالد حقاً ، وإنّ للوالد على الولد حقّاً ، فحقُّ الوالد على الولد أن يطيعه في كلِّ شيء ، إلاّ في معصية الله سبحانه ، وحقُّ الولد على الوالد أن يحسِّن اسمه ، ويحسِّن أدبه ، ويعلمّه القرآن» 9.
والتربية في هذه المرحلة أكثر ضرورة من المراحل الاخرى ، لان فطرة الطفل في هذه المرحلة لا تزال سليمة ونقية تتقبّل ما يُلقى اليها من توجيهات وارشادات ونصائح قبل أن تتلوّث ويستحكم التلوث فيها ، فيجب على الوالدين استثمار الفرصة لاَداء المسؤولية التربوية .
قال الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته للاِمام الحسن عليه السلام : «… وانّما قلب الحدث كالاَرض الخالية ما أُلقي فيها من شيءٍ قبلته . فبادرتك بالاَدب قبل أن يقسو قلبك ، ويشتغل لبُّك ، لتستقبل بجدِّ رأيكَ من الاَمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته..» 10.
وقال عليه السلام : «علمّوا انفسكم وأهليكم الخير وادّبوهم» 11 والمنهج التربوي المراد تحكيمه في الواقع هو المنهج الاِسلامي الذي يدور حول العبودية والطاعة لله تعالى في كلِّ شؤون الحياة .
قال الاِمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام : «اعملوا الخير وذكّروا به أهليكم وأدّبوهم على طاعة الله» 12.
وقال عليه السلام : «تأمرهم بما أمر الله به وتنهاهم عمّا نهاهم الله عنه…» 13.
وهذا الحديث جامع للقواعد الكلية التي تقوم عليها أعمدة المنهج التربوي السليم في كلِّ جوانب الحياة الفردية والاجتماعية ، العاطفية والروحية ، فإذا أبدى الوالدان عناية فائقة في العمل على ضوء المنهج التربوي فانّ الطفل سيكون عضواً صالحاً في المجتمع .
وقد كان أهل البيت عليهم السلام قد أبدوا عناية خاصة بتربية أبنائهم في هذه المرحلة حتى أعدّوهم إعداداً متكاملاً فكانوا قمة ونموذجاً أعلى في كلِّ شيء ، فأمير المؤمنين عليه السلام تربّى في مرحلة الصبا في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل ان يُبعث ، فآمن في اللحظات الاَُولى لدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخلص في ايمانه وطاعته لله ولرسوله ، وكان قمة في الشجاعة والاقدام وفي التضحية والفداء وفي الكرم والتواضع والصدق وفي كلِّ الفضائل الخلقية، وربّى عليه السلام بدوره أبناءه فكانوا على شاكلته في الارتقاء إلى القمة الشامخة في جميع المكارم والفضائل ، وهكذا كان بقية الاَئمة عليهم السلام .
وتزداد مسؤولية الوالدين في التربية والتأديب كلمّا ابتعد المجتمع عن الاِسلام أو كان مجتمعاً اسلامياً في الظاهر ولم يتبنَّ الاِسلام منهاجاً له في الواقع العملي لتأثير العادات والتقاليد والافكار والمناهج التربوية غير السليمة على تربية الطفل وخصوصاً أجهزة الاعلام كالراديو والتلفزيون والسينما وغيرها .
ويلحق بالتربية الروحية والنفسية والعاطفية ، شطرها الآخر وهو التربية البدنية فهي ضرورية جداً للطفل للحفاظ على صحته البدنية واعداده للعمل البدني ، حيثُ حثّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على التربية البدنية قائلاً : «علمّوا أولادكم السباحة والرماية» 14.
وجعل الاِمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام حمل الطفل وتدريبه على الامور الشاقة من المستحبّات فقال : «تستحب عرامة الصبي في صغره ليكون حليماً في كبره» 15.
والصحة البدنية لها تأثير واضح على الصحة النفسية كما هو مشهور عند علماء النفس والتربية 16.
ثانياً : المبادرة إلى التعليم
التعليم في هذه المرحلة ضروري للطفل ، فهي أفضل مرحلة للمبادرة إلى التعليم ، لنضوج القوى العقلية عند الطفل ، وللرغبة الذاتية لدى الطفل في (اكتساب المهارة العلمية) 17.
والطفل في هذه المرحلة لديه الاستعداد التام لحفظ كل ما يُلقى على مسامعه ، والتعليم في هذهِ المرحلة يساعد على رسوخ المعلومات في ذهنه وبقائها محفوظة في الذاكرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «مثل الذي يتعلّم في صغره كالنقش في الحجر» 18.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : «حفظ الغلام كالوسم على الحجر» 19.
ولضرورة تعليم الطفل أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوالدين به : «مروا أولادكم بطلب العلم» 20.
وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعليم الطفل باباً من ابواب الرحمة الالهية للاَب فقال : «رحم الله عبداً أعان ولده على برّه بالاحسان إليه ، والتألف له وتعليمه وتأديبه» 21.
والتعليم حق للطفل على والديه ، قال الاِمام علي بن الحسين عليه السلام : «…وأمّا حق الصغير فرحمته وتثقيفه وتعليمه…» 22.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «من حقِّ الولد على والده ثلاثة : يحسّن اسمه ويعلّمه الكتابة ، ويزوجّه اذا بلغ» ) 23.
والتعليم على القراءة والكتابة في عصرنا الراهن تقوم به المؤسسات التعليمية وخصوصاً المدرسة ، ولكنّ ذلك لا يعني انتفاء الحاجة إلى الوالدين في التعليم ، بل يجب التعاون بين المدرسة والوالدين في التعليم.
ويجب ان يكون التعليم غير مقتصر على القراءة والكتابة بل يكون شاملاً لكلِّ جوانب العلم ، في مجالاته المختلفة كعلوم الطبيعة والعلوم الاِنسانية كالادب والتاريخ والفلسفة وغيرها ، اضافة إلى التركيز على الجوانب الروحية والعبادية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تأكيده على تعليم القرآن : «… ومن علّمه القرآن دُعي بالابوين فكسيا حلّتين تضيء من نورهما وجوه أهل الجنة» 24.
وتعليم القرآن يكون شاملاً لجميع جوانبه ابتداءً بتعلّم القراءة الصحيحة وفق الضوابط اللغوية ثم التشجيع على الحفظ مع مراعاة المستوى العقلي للطفل ، والتعليم على التفسير الصحيح لبعض الآيات والسور التي يحتاجها الطفل في هذه المرحلة ، وخصوصاً ما يتعلّق بالجانب العقائدي والاخلاقي ، والجانب الفقهي المتعلّق بالاحكام الشرعية المختلفة من العبادات والمعاملات .
وفي هذه المرحلة يجب تعليم الطفل على كيفية العبادات ومقدماتها كالوضوء والصلاة ، قال الاِمام محمد بن علي الباقر عليه السلام : «… حتى يتّم له سبع سنين قيل له اغسل وجهك وكفّيك فاذا غسلهما قيل له صلِّ ، ثم يترك حتى يتم له تسع سنين فاذا تمّت له تسع سنين علّم الوضوء…» 25.
والطفل بحاجة إلى تعلّم الحديث لتحصينه من التأثر بالتيارات المنحرفة ، قال الاِمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام : «بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليه المرجئة» 26.
وقال الاِمام الحسن عليه السلام موضحاً ما تعلّمه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «علمّني جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلمات أقولهّن في قنوت الوتر… اللهّم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليّت» 27.
ويجب على الوالدين تعليم الطفل على كلِّ ما ينفعه في حياته ففي الرواية التالية يعلم أمير المؤمنين عليه السلام ولده الحسن على الخطابة (قال علي ابن أبي طالب عليه السلام للحسن : «يا بنيّ قم فأخطب حتى اسمع كلامك ، قال : يا أبتاه كيف أخطب وأنا أنظر إلى وجهك استحيي منك» ؟ فجمع عليّ بن أبي طالب عليه السلام امهات أولاده ثم توارى عنه حيثُ يسمع كلامه…) 28.
ومن مصاديق التعليم تعليم الرمي والسباحة كما تقدّم ، ولاَهمية التعليم شجّع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المعلّم والصبي والوالدين على حدٍ سواء فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «إنّ المعلّم إذا قال للصبيّ : بسم الله ، كتب الله له وللصبي ولوالديه برائة من النار» 8.
وكان أمير المؤمنين عليه السلام يشجّع على تعليم الاطفال شعر أبي طالب عليه السلام ، فعن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال : «كان أمير المؤمنين عليه السلام يعجبه أن يروي شعر أبي طالب وأن يدوّن ، وقال : تعلّموه وعلمّوه أولادكم فانه كان على دين الله وفيه علم كثير» 8.
ثالثاً : تمرين الطفل على الطاعات
الطاعات وان كانت سهلة ويسيرة إلاّ انّها تحتاج إلى تمرين وتدريب ينسجم مع القدرة على الاَداء ، والطفل يحتاج إلى عناية خاصة في التمرين والتدريب على الطاعات من أجل ان تذلّل مشقتها عليه وأن يحدث الاَُنس بينه وبينها فتكون متفاعلة مع عواطفه وشعوره لكي تتحول إلى عادة ثابتة في حياته اليومية ، يقدم عليها بشوق واندفاع ذاتيين دون ضغط أو اكراه أو كلل أو ملل .
ويبدأ المنهج التربوي الاسلامي في وضع قواعد أساسية تتناسب مع أعمار الاطفال للتمرين على الطاعات مع مراعاة القدرة العقلية والبدنية للاطفال ، ففي التمرين على الصلاة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبع سنين واضربوهم على تركها اذا بلغوا تسع» 29.
وفي رواية : «مروا صبيانكم بالصلاة اذا بلغوا سبع سنين واضربوهم اذا كانوا أبناء تسع سنين» 30.
والمقصود من الضرب إمّا الضرب الحقيقي في حالة تمرّد الاطفال أو استخدام الشدّة النفسية ، فانها وان كان لها ضرر سلبي على الطفل ولكنّه ضرر وقتي سرعان ما ينتفي ، ولا يمكن اعتباره ضرراً بالقياس إلى المصلحة الاكبر وهو التمرين على الصلاة .
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : «أدّب صغار بيتك بلسانك على الصلاة والطهور ، فإذا بلغوا عشر سنين فاضرب ولا تجاوز ثلاث» 31.
والافضل أن يكون التمرين غير شاقٍ للطفل ، لانه يؤدي إلى النفور من الصلاة وخلق الحاجز النفسي بينه وبينها ، فعن الاِمام عليّ بن الحسين عليه السلام : (إنّه كان يأخذ من عنده الصبيان بأن يصلّوا الظهر والعصر في وقتٍ واحد والمغرب والعشاء في وقتٍ واحد ، فقيل له في ذلك ، فقال عليه السلام : «هو أخف عليهم وأجدر ان يسارعوا اليها ولا يضيّعوها ولا يناموا عنها ولا يشتغلو» ، وكان لا يأخذهم بغير الصلاة المكتوبة ، ويقول : «اذا أطاقوا فلا تؤخرونها عن المكتوبة») 29.
فيجب على الوالدين مراعاة الاستعداد النفسي والبدني للطفل ، وعدم إرهاقه بما لا يطيق ، فيبدأ معه بالصلاة الواجبة دون المستحبّة ، فاذا تمرّن عليها وحدث الانس بينه وبينها فانّه على غيرها أقدر إن تقدّم به العمر .
ويبدأ التمرين على الصوم من العام السابع ويستمر بالتدريج كلما تقدّم العمر مع مراعاة الطاقة والقدرة البدنية والاستعداد النفسي له ، قال الاِمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام : «إنّا نأمر صبياننا بالصيام اذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم ، فان كان إلى نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقل ، فاذا غلبهم العطش والغرث أفطروا حتى يتعودوا الصوم ويطيقوه فمروا صبيانكم اذا كانوا أبناء تسع سنين بما أطاقوا من صيام فاذا غلبهم العطش أفطرو» 32.
وعن سماعة قال : سألته عن الصبي متى يصوم ؟ قال الاِمام الصادق عليه السلام : «إذا قوى على الصيّام» 33.
فاذا تمرّن على الصيام في السنوات السابقة لسن التكليف فانه سيؤديه بأتم صوره ولا يجد في ذلك حرجاً .
عن معاوية بن وهب قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام في كم يؤخذ الصبي بالصيام قال عليه السلام : «ما بينه وبين خمس عشرة سنة وأربع عشرة سنة فان هو صام قبل ذلك فدعه ، ولقد صام ابني فلان قبل ذلك فتركته» 34.
ويستحبّ تمرين الطفل على الحج فعن أحد الامامين الباقر أو الصادق عليهما السلام قال : «إذا حجّ الرجل بابنه وهو صغير فإنّه يأمره ان يلبّي ويفرض الحجَّ فان لم يحسن أن يلبي لبّى عنه ويطاف به ويصلّي عنه… يذبح عن الصغار ويصوم الكبار ويتّقى عليهم ما يتّقى على المحرم من الثياب والطيّب فان قتل صيداً فعلى أبيه» 35.
وفي جواب للاِمام جعفر الصادق عليه السلام عن سؤالٍ حول الخوف على الصبي من البرد في حالة الاحرام قال : «ائتِ بهم العرج فيحرموا منها… فان خفت عليهم فائتِ بهم الجحفة» 36.
وقال عليه السلام : «انظروا من كان معكم من الصبيّان فقدّموه إلى الجحفة أو إلى بطن مرّ ويصنع بهم ما يصنع بالمحرم ويطاف بهم ويرمى عنهم ومن لا يجد منهم هدياً فليصم عنه وليّه» . وكان الاِمام علي بن الحسين عليه السلام يضع السكين في يد الصبي ثمَّ يقبض على يديه الرّجل فيذبح 37.
ويستحب تمرين الطفل على عمل الخير كالصدقة على الفقراء والمساكين ، قال الاِمام علي بن موسى الرضا عليه السلام : «مر الصبي فليتصدّق بيده بالكسرة والقبضة والشيء وان قلّ ، فان كلِّ شيء يراد به الله وان قلّ بعد أن تصدق النيّة فيه عظيم…» 38.
وقال عليه السلام : «فمره أن يتصدّق ولو بالكسرة من الخبز» 39.
فتمرين الطفل على الصدقة من أفضل أساليب التربية على عدم الركون إلى الدنيا والتقليل من تأثير حب المال في نفس الطفل ، وهو تمرين له على التعاطف مع الفقراء والمساكين .
وتمرين الطفل في مرحلة الصبا على الطاعات والعبادات تجعله يداوم عليها في كبره ، وخير شاهد على ذلك سيرة أهل البيت عليهم السلام ، فالاِمام الحسن بن علي عليه السلام (مشى عشرين مرّة من المدينة للحجّ على رجليه) 40.
وطلب الاِمام الحسين بن علي عليه السلام من الجيش الاموي ان يمهلوه ليلة العاشر من المحرم للتفرّغ للعبادة هو وأصحابه (فلمّا أمسوا قاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويتضرّعون ويدعون) 41.
ولكثرة عبادة الاِمام علي بن الحسين عليه السلام سميّ بزين العابدين 42.
(وكان لا يدع صلاة الليل في السفر والحضر) 43.
وكان اذا أتاه السائل يقول : «مرحباً بمن يحمل لي زادي إلى الاخرة» 43.
وكان بقيّة أهل البيت عليهم السلام قمة في الارتباط بالله تعالى والاخلاص في العبادة فقد تمرّنوا عليها في مقتبل العمر ، فكان بينهم وبينها أُنساً خاصاً وشوقاً للاداء .
فيجب على الوالدين تشجيع الطفل على التمرّن على العبادات والطاعات بالاسلوب الانجح ، بالاطراء والمديح أو باهداء الهدايا الماديّة والمعنوية له .
رابعاً : مراقبة الطفل
يحتاج الطفل في هذه المرحلة من أجل إنجاح العملية التربوية أن يقوم الوالدان بمراقبة الطفل سلوكياً وإرشاده إلى الاستقامة والصلاح ، وكذلك مراقبة أفكاره وتصوراته وعواطفه بالاسلوب الهادىء غير المثير له ، وان يتعامل الوالدان معه كاصدقاء لمساعدته في شق طريقه في الحياة .
ومراقبة سلوكه في المجتمع أكثر ضرورة منه في البيت ، فيختار له الاصدقاء الصالحين ، ويمنع من مسايرة الاصدقاء غير الصالحين ، وتكون العقوبة احياناً ضرورية إنْ لم ينفع الارشاد والتوجيه ، ويجب تمرين الطفل على محاسبة نفسه ، وتقبّل المحاسبة من قبل الآخرين ، إضافة إلى ترسيخ مفهوم الرقابة الالهية في أعماقه لتكون رادعاً له من الانحراف في حالة غياب المراقبة من قبل والديه .
والمراقبة من حيثُ الاساليب والوسائل متروكة للوالدين ، كل حسب وعيه وتجربته في الحياة ، وهما بحاجة إلى التعاون في هذا المجال ، ومراقبة الوالدة للطفل ذكراً كان أم أُنثى أكثر ضرورة لانشغال الوالد غالباً بأعماله خارج المنزل .
ومن الضروري ان يشعر الطفل بانّه غير متروك من قبل والديه ، وإنهما يحرصان عليه ويراقبان سلوكه ، ويمكن للوالدين الاستعانة بغيرهما في المراقبة ، كالاعتماد على الاقارب والاصدقاء في المجالات الحياتية للطفل التي لايدخلها الوالدان ، كالمدرسة مثلاً وبعض تجمعات الاطفال ، والتعاون في هذا المجال مثمر جداً في تربية الطفل تربية صالحة ، وانقاذه من الانحراف الذي يمكن ان يطرأ عليه في حالة الغفلة والاهمال .
خامساً : الوقاية من الانحراف الجنسي
الانحراف الجنسي من أخطر أنواع الانحرافات التي تؤدي إلى تدمير المجتمع من جميع النواحي ، المادية والصحية والعاطفية والاخلاقية ، ولهذا أبدى الاِسلام عناية خاصة بالوقاية منه قبل الحدوث وعلاجه بعده، وتربية الاطفال على العفّة من أهم المسؤوليات الملقاة على عاتق الوالدين ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «من حق الولد على والده أن يحسن اسمه اذا ولد وأن يعلمّه الكتابة اذا كبر ، وان يعفّ فرجه اذا أدرك» 21.
والتربية على العفّة تستلزم الوقاية من الانحراف في مرحلة ما قبل البلوغ .
وأوّل بوادر الوقاية إبعاد الطفل عن الاثارة الجنسية ، وابعاده عن الاطلاع على صورتها ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «والذي نفسي بيده لو أنّ رجلاً غشي امرأته وفي البيت صبي مستيقظ يراهما ويسمع كلامهما ونفسهما ما أفلح أبداً ، ان كان غلاماً كان زانياً أو جارية كانت زانية» 44.
ومن أساليب الوقاية التفريق بين الصبيان اثناء النوم ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : «… وفرّقوا بينهم في المضاجع اذا كانوا ابناء عشر سنين» 45.
والتفريق بين الصبيان والنساء أكثر ضرورة ، قال الاِمام محمد بن علي الباقر عليه السلام : «يفرّق بين الغلمان والنساء في المضاجع اذا بلغوا عشر سنين» 5.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «الصبي والصبي ، والصبي والصبيّة ، والصبية والصبية يفرّق بينهم في المضاجع لعشر سنين» 46.
ونهى الاِمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام من تقريب الجارية من غير أرحامها اذا بلغت ست سنين فقال : «اذا أتى عليها ست سنين فلا تضعها على حجرك» 47.
ونهى عن تقبيل الصبية فقال : «إذا بلغت الجارية الحرّة ست سنين فلا ينبغي لك أن تقبّله» 48.
والمقصود هو عدم التقبيل من قبل الغرباء لا الاَب أو الاَم أو العم أو محارمها وقال صلى الله عليه وآله وسلم : «… والغلام لا يقبّل المرأة إذا جاز سبع سنين» 49.
واذا حدث الانحراف الجنسي فيجب استخدام العقوبة للحدّ من تكرار الممارسة ، سئل الاِمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في غلام صغير ابن عشر سنين زنى بامرأة ، قال : «يجلد الغلام دون الحدّ» 50.
ويجب في وقتنا المعاصر منع الصبي عن كلِّ ما يؤدي إلى اثارته من قصص وروايات وصور وما يعرض من أفلام منافية للعفّة ويجب مراقبة الصبيان في خلواتهم وفي علاقاتهم مع الآخرين ، للوقاية من الانحراف الجنسي .
سادساً : ربط الطفل بالقدوة الحسنة
الطفل في الاعوام المتأخرة من هذه المرحلة يحاول التشبه بالاشخاص الاَكثر حيوية والاَشد فاعلية في المجتمع ، ويطلق علماء النفس مفهوم المحاكاة للتعبير عن التشبه الفجائي السريع الذي ينتهي بانتهاء المؤثر ، فهو تشبه آني ويطلقون عبارة الاقتباس على التشبه البطيء 51 الذي يستحكم في العقل والعاطفة ومن مصاديقه التقليد والاقتداء ، والنماذج العالية من الشخصية هي المؤثرة في التشبه ، فأهل الكرامة وأهل القدوة يكرمهم الشعب ويبجلهم وهم الذين (يقتدي بهم عامة الشعب) 52.
والطفل غالباً ما يتشبه بمن لهم سلطان روحي ونفسي على الناس ومنهم الملوك والحكام ، والفائزون والناجحون في الحياة ، وكلّ من له تأثير على الناس كالمعلم وعالم الدين .
ويرى بعض علماء النفس الحاجة إلى تصور المثل الاعلى لدى كل انسان 53 وهي حاجة ضرورية ، والمثل الاعلى في رأي هؤلاء العلماء يختلف باختلاف الناس ، ويتبدل بتبدل ظروفهم المادية والنفسية والاجتماعية ، ويعتبرون المثل الاعلى متجسداً في القيم المعنوية والاهداف المتوخاة في الحياة .
والمثل الاعلى بهذا المفهوم ضروري جداً لكلِّ انسان وخصوصاً الطفل في الاعوام المتأخرة من هذه المرحلة ، ولكنّ المثل الاعلى ان لم يتحول من المفهوم إلى المصداق وإلى من تتجسد فيه قيم هذا المثل الاعلى يبقى محدوداً في حدود التصورات ، فالطفل بحاجة إلى التشبه والاقتداء بما هو ملموس في الواقع الموضوعي ، وخير من يتجسد به المثل الاعلى هو النموذج الاعلى للشخصية الانسانية .
والاقتداء بالاسلاف (أكثر من الاقتداء بالطبقة العليا) 54.
ومن هنا فالضرورة الحاكمة في الاقتداء هي الاقتداء بالسلف الصالح وهم الانبياء والاَئمة من أهل البيت ، والصالحين من الصحابة والتابعين ، والماضين من علماء الدين ، فهم قمم في الفضائل والمكارم والمواقف النبيلة ، وممّا يساعد على التشبّه والاقتداء بهم تأثيرهم الروحي على مختلف طبقات الناس الذين يكنّون لهم التبجيل والتقديس .
وحياة الصالحين مليئة بجميع القيم والمكارم التي يريد الانسان التمسك بها . والاقتداء هو الذي يجعل الطفل انساناً عظيماً تبعاً لمن يقتدي بهم ، واذا فقد الاقتداء جمدت جذوة الحياة وضعف الطموح وانحرف عن مساره للتعلق والاقتداء بالهامشيين من الاَشخاص العاديين .
فالواجب على الوالدين توجيه انظار الطفل وأفكاره وعواطفه ومواقفه نحو الشخصيات النموذجية ابتداءً من آدم وانتهاءً بالعظماء المعاصرين ، ولكلِّ نبي أو امام من أئمة الهدى تاريخ حافل بجميع المكارم والقيم والمواقف السائدة في الحياة .
والقدوة الصالحة لها تأثير ومواقف مشرّفة في كلِّ زاوية من زوايا الحياة، والاقتداء بها تنعكس آثاره على جميع جوانب شخصيّة الطفل العاطفية والعقلية والسلوكية ، فتندفع الشخصية للوصول إلى المقامات العالية التي وصلها الصالحون المقتدى بهم .
والحمدُ لله أولاً وآخراً 55.
- 1. حديث إلى الامهات : 207 .
- 2. علم النفس ، لجميل صليبا : 385 .
- 3. علم النفس التربوي ، لفاخر عاقل : 478 ـ 486 .
- 4. a. b. مكارم الاخلاق : 222 .
- 5. a. b. مكارم الاخلاق : 223 .
- 6. تحف العقول : 189 .
- 7. الصحيفة السجادية الجامعة : 128 ـ 129 مؤسسة الاِمام المهدي قم 1411 هـ ط1 .
- 8. a. b. c. مستدرك الوسائل 2 : 625 .
- 9. نهج البلاغة ، تحقيق صبحي الصالح : 546 .
- 10. نهج البلاغة : 393 .
- 11. كنز العمال 2 : 539 | 4675 .
- 12. مستدرك الوسائل 2 : 362 .
- 13. بحار الانوار 100 : 74 .
- 14. الكافي 6 : 47 | 4 باب تأديب الولد .
- 15. الكافي 6 : 51 | 2 باب 37 من كتاب العقيقة .
- 16. علم النفس ، لجميل صليبا : 383 .
- 17. حديث إلى الامهات : 217 .
- 18. كنز العمال 10 : 294 | 29336 .
- 19. كنز العمال 10 : 238 | 29258 .
- 20. كنز العمال 16 : 854 | 45953 .
- 21. a. b. مستدرك الوسائل 2 : 626 .
- 22. تحف العقول : 194 .
- 23. مكارم الاخلاق : 220 .
- 24. الكافي 6 : 49 | 1 باب بر الاولاد .
- 25. من لا يحضره الفقيه 1 : 182 .
- 26. الكافي 6 : 47 | 5 باب تأديب الولد .
- 27. مختصر تاريخ دمشق 7 : 5 .
- 28. بحار الانوار 43 : 351 .
- 29. a. b. مستدرك الوسائل 2 : 624 .
- 30. بحار الانوار 101 : 98 .
- 31. تنبيه الخواطر ، لورّام بن أبي فراس : 390 ـ دار التعارف بدون تاريخ .
- 32. الكافي 4 : 124 | 1 باب صوم الصبيان .
- 33. الكافي 4 : 125 | 3 باب صوم الصبيان .
- 34. الكافي 4 : 125 | 2 باب صوم الصبيان .
- 35. الكافي 4 : 303 | 1 باب حج الصبيان والمماليك .
- 36. الكافي 4 : 304 | 3 باب حج الصبيان والمماليك .
- 37. الكافي 4 : 304 | 4 باب حج الصبيان والمماليك .
- 38. الوسائل 9 : 376 | 1 باب 4 .
- 39. الوسائل 9 : 376 | 2 باب 4 .
- 40. مختصر تاريخ دمشق 7 : 23 .
- 41. الكامل في التاريخ ، لابن الاثير 4 : 59 ـ دار صادر 1399 هـ .
- 42. مختصر تاريخ دمشق 17 : 234 .
- 43. a. b. صفوة الصفوة ، لابن الجوزي 2 : 95 ـ دار المعرفة 1405 هـ ط3 .
- 44. وسائل الشيعة 20 : 133 | 2 باب 67 .
- 45. مستدرك الوسائل 2 : 558 .
- 46. وسائل الشيعة 20 : 231 | 1 باب 128 .
- 47. وسائل الشيعة 20 : 229 | 1 باب 127 .
- 48. وسائل الشيعة 20 : 230 | 2 باب 127 .
- 49. وسائل الشيعة 20 : 230 | 4 باب 127 .
- 50. مكارم الاخلاق : 320 .
- 51. علم الاجتماع نقولا الحدّاد : 86 .
- 52. علم الاجتماع : 140 .
- 53. علم النفس جميل صليبا : 728 .
- 54. …
- 55. الفصل الخامس من كتاب (تربية الطفل في الاسلام)، من تأليفات مركز الرسالة .