ولد الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام) في الثالث من شعبان للسنة الرابعة من الهجرة في المدينة المنوّرة.
وقد اختار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لحفيده الثاني اسم “حسين”، وهو اسم من أسماء أهل الجنّة لم يكن معروفاً حتّى ذلك الحين بين أعراب الجاهليّة.
وعندما جاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لرؤيته أخذه في أحضانه فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى. ثمّ أخذ ينظر إليه ويبكي وعندما سئل عن سبب بكائه أجاب قائلاً: “تقتله الفئة الباغية من بعدي، لا أنالهم الله شفاعتي”.
وقد اقترنت السنوات السبع الأولى من حياة الإمام الحسين (عليه السلام) مع السنوات الأخيرة من حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يتعهّد أمر حفيده في البيت والشارع والمسجد وعلى المنبر، مظهراً للناس شعاعاً من أشعة علاقته تجاه الحسين (عليه السلام)، يقول يعلى بن مرّة أنّه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى طعامٍ دُعوا إليه فإذا حسينٌ مع الصبيان يلعب في السكّة (الطريق)، قال: فتقدّم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمام القوم وبسط يديه فجعل الغلام يفرّ هنا وههنا، ويضاحكه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى تحت قفاه، ثمّ قنّع رأسه فوضع فاه على فيه فقبّله وقال: “حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسيناً”.
لقد كان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على علم بشهادة الحسين (عليه السلام) على يد أمّته وقد أخبر بذلك بعض أصحابه، ومن جملة ذلك ما قاله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوماً لزينب بنت جحش: “أتاني جبرائيل فأخبرني أنّ أمّتي ستقتل ابني هذا -يعني الحسين- وأتاني بتربة من تربته حمراء”.
إنّ الحسين (عليه السلام) هو خامس أصحاب الكساء، حيث إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جمعه مع أبيه الإمام عليّ (عليه السلام) وأمّه فاطمة عليها السلام وأخيه الحسن (عليه السلام) تحت الكساء، وقد سمّاهم بأنّهم “أهل بيتي” وطلب من الله أن “يذهب عنهم الرجس ويطهّرهم تطهيراً”.
ومن بعد ذلك نزلت آية التطهير في شأن الحسين وبقيّة أهل البيت عليهم السلام حيث يقول تعالى:
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ وفي السنة الحادية عشرة للهجرة جلس الحسين (عليه السلام) وهو في السابعة من عمره الشريف في عزاء جدّه العزيز صلى الله عليه وآله وسلم، وفي نفس تلك السنة أيضاً وبعد مدّة قصيرة جدّاً لم يلبث الحسين (عليه السلام) أن فجع بأمّه الزهراء عليها السلام فكان شاهداً على شهادتها وهي في ريعان شبابها.
في عهد أبيه
تابع الإمام الحسين (عليه السلام) حياته وحيداً يرقب إقصاء أبيه ومظلوميّته في فترة ليس فيها لعليّ (عليه السلام) أيّ ناصرٍ ومعين ومدافع عنه سوى أقربائه وأهل بيته وقد وصفهم قائلاً: “فنظرت فإذا ليس لي رافدٌ ولا ذابٌّ ولا مساعد إلّا أهل بيتي، فضننت بهم عن المنيّة”.
وعندما جلس الإمام عليّ (عليه السلام) على مسند الخلافة وبايعه الناس تكلّم الحسين إليهم في المسجد وقال فيما قال:
“معاشر الناس، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: إنّ عليّاً مدينة هدى, فمن دخلها نجى, ومن تخلّف عنها هلك”.
ومنذ الأيّام الأولى لخلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) نكث البعض بالبيعة وقسط آخرون فثاروا عليه، وخرجت عن الدين طائفة ثالثة أفسدت فيه، فنهض الإمام عليّ (عليه السلام) لحرب الناكثين والقاسطين والمارقين، وشارك الإمام الحسين مع أخيه الإمام الحسن (عليهما السلام) إلى جانب أبيهم (عليه السلام) في حروب الجمل وصفّين والنهروان.
وسعى الإمام الحسين (عليه السلام) جاهداً حين الخروج إلى صفّين باستنهاض أهل الكوفة ودعوتهم للالتحاق بجيش أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال لهم بعد أن اعتبرهم الأحبّة الكرماء: “ألا إنّ الحرب شرّها ذريع وطعمها فظيع، وهي جرع مستحساة فمن أخذ لها أهبتها واستعدّ لها عدّتها ولم يألم كلومها فذاك صاحبها، ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها فذاك كمن لا ينفع قومه وأن يهلك نفسه، نسأل الله بقوّته أن يدعمكم بالفئة”.
وفي أثناء المسير إلى صفّين وعندما وصل الجيش إلى أرض كربلاء وقف أمير المؤمنين (عليه السلام) على شطّ الفرات فتغيّر لون وجهه المبارك وبكى وتأوّه وقال لولده الحسين (عليه السلام): “اصبر يا أبا عبد الله فلقد لقي أبوك منهم (آل أبي سفيان) مثل الذي تلقى من بعدي”.
وكان الحسين (عليه السلام) في صفّين إلى جانب أخيه الحسن (عليه السلام) على الميمنة قائداً وعندما ضُرب أمير المؤمنين (عليه السلام) كان الحسين (عليه السلام) في المدائن ووصله الخبر عبر رسالة من الإمام الحسن (عليه السلام) فحضر شهادة أبيه (عليه السلام).
مع وحدة أخيه
وبعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) بيومين بايع أربعون ألفاً الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، ولم تكد تمضي سبعة أشهر على خلافته حتّى واجه مسلسلاً من جفاء أهل الودّ ظاهراً وفتنِ الناكثين للبيعة من “أشباه الرجال” كما وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكذلك أساليب معاوية العدائيّة.
وفي هذه الفترة وقف الحسين إلى جانب وحدة أخيه حامياً ومسانداً ومؤازراً له في حربه ضدّ معاوية.
إلّا أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) ومع مواجهته لضعف الجيش وخوفه وجبنه وركونه إلى الدنيا وخيانة قوّاده وانسحاب البعض أفواجاً أفواجاً من ذوي الشأن وغيرهم اضطرّ في نهاية المطاف مُكرهاً للقبول بالصلح وتسليم الخلافة إلى معاوية.
وها هو يقول لأخيه الإمام الحسين موضحاً السبب في ذلك: “… بأيّ معين وناصرٍ أقاتل عدوّي، وبأي عضدٍ ومغمومٍ أطالب بحقّي، ألا ترى ما فعلت هذه الجماعة مع أبينا المعظّم، وما يصنعون اليوم معي، فأيّ اعتمادٍ يعتمد على هذه الطائفة وأيّ أملٍ يعقد عليهم؟”
ونهض الإمام الحسين (عليه السلام) بعد زمن الصلح والذي يمكن تسميته بزمن الغربة والوحدة في حماية أخيه والدفاع عنه بعدما واجه الإمام الحسن (عليه السلام) أيّاماً عصيبة ممتزجة بشماتة الأصحاب ولومهم مع عداوة معاوية وآل أميّة وقد تعرّض سلام الله عليه للكثير من حملات الافتراء والتشويه.
والجدير بالذكر أنّ أهمّ أهداف معاوية كانت رفع منزلة صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من جهة والقضاء والحدّ من منزلة ومكانة وفضائل أهل البيت عليهم السلام من جهة أخرى، وفي هذا المجال كان شغله الشاغل وهمّه الدائم معاداة الإمام عليّ (عليه السلام) فأوعز إلى عمّاله بذلك وممّا قاله للمغيرة الذي عيّنه والياً على الكوفة سنة هـ:
ولست تاركاً إيصاءك بخصلة لا تتحمّ عن شتم عليّ وذمّه والترحّم على عثمان والاستغفار له، والعيب على أصحاب عليّ والاقصاء لهم وترك الاستماع منهم.
وفي هذه الفترة أيضاً كان مروان بن الحكم والياً على المدينة من قبل معاوية وقد بالغ في التعرّض لعليّ (عليه السلام) والجرأة عليه إلى أقصى الحدود ولأيّ سبب كان، ولم يرتدع عن ذلك بل وتعرّض في إحدى المرّات وفي حضور أبنائه المعصومين عليهم السلام لمقام أهل البيت ومنزلتهم.
ومن ثمّ وفي نهاية هذا المقطع من حياة الإمام الحسين (عليه السلام) عاين الشهادة المظلومة لأخيه الإمام الحسن (عليه السلام) فقال مؤبّناً له بعد أن وضعه في لحده:
فَلَيْسَ حَرِيباً مَنْ أُصِيبَ بِمَالِهِ وَلَكِنْ مَنْ وَارَى أَخَاهُ حَرِيبُ
العقد الأوّل لإمامة الحسين (عليه السلام)
بعد استشهاد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) انتقل منصب الإمامة الإلهيّ إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، وفي عقد الإمامة الأوّل له كانت الخلافة بيد معاوية الذي فرح وسرّ عندما بلغه خبر استشهاد الإمام الحسن (عليه السلام) وسجد لله شكراًعلى ذلك.
وسعى معاوية إلى تثبيت سلطة الأمويّين وإبعاد وإقصاء أهل البيت عليهم السلام حتّى أنّه قسّم فدكاً بين مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان وابنه يزيد.
وفي هذه المدّة من خلافة معاوية قام بتصفية وقتل أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) بسبب ولائهم له (عليه السلام)، وهيّأ الأرضيّة اللازمة لإعلان يزيد وليّاً للعهد من بعده.
ومن طرفٍ آخر فقد كان الحسين (عليه السلام) وفيّاً للعهد والصلح الذي أمضاه أخوه الإمام الحسن (عليه السلام) فأعلن عدم إمكان القيام في وجه معاوية وأنّ ذلك خلاف المصلحة، ولذا فقد قال لبعض مواليه من شيعة الكوفة عندما دعوه إلى القيام والثورة: “وليكن كلّ رجلٍ منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام معاوية حيّاً, فإنّها بيعة كنت والله لها كارهاً, فإن هلك معاوية نظرنا ونظرتم ورأينا ورأيتم”.
إنّ موقف الإمام هذا لا يعني السكوت على أفعال معاوية القبيحة، ولذا يمكن النظر إلى دور الإمام الفعّال والمؤثّر في هذه المدّة من خلال هذه الأمور:
أ ـ الدفاع عن أمير المؤمنين (عليه السلام):
لقد سعى معاوية من خلال لعنه للإمام عليّ (عليه السلام) إلى أن: “يربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير ولا يذكر له ذاكرٌ فضلاً”.
وفي مقابل هذا الفكر الباطل سعى الإمام الحسين (عليه السلام) إلى تبيين المنزلة الإلهيّة الرفيعة لأمير المؤمنين (عليه السلام) فقال يوماً في محضر معاوية:
“أنا ابن ماء السماء وعروق الثرى، أنا ابن من ساد أهل الدنيا بالحسب الثاقب والشرف الفائق والقديم السابق، أنا ابن من رضاه رضى الرحمن وسخطه سخط الرحمن”، ثمّ ردّ وجهه للخصم (معاوية) فقال له: “هل لك أبٌ كأبي أو قديم كقديمي, فإن قلت لا, تُغلب, وإن قلت نعم، تكذب”.
في سنة للهجرة وقبل موت معاوية بسنة قام الحسين (عليه السلام), وقبل التوجّه إلى الحجّ بدعوة بني هاشم والموالين والأتباع والوجهاء وكلّ من قدم إلى الحجّ للاجتماع فاجتمع إليه في منى أكثر من سبعمائة رجلٍ وفيهم مائتا رجلٍ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقام فيهم خطيباً ومنتقداً لمعاوية الساعي إلى تثبيت السلطة في بني أميّة قائلاً لهم: “أمّا بعد, فإنّ هذا الطاغية – يعني معاوية – قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم”, فدعا الحاضرين إلى إذاعة ونشر أحقيّة الحاكميّة الدينيّة المتمحورة في شخص أمير المؤمنين (عليه السلام)، وناشد بالله الصحابة التابعين في سبعة عشر مورداً من الفضائل المنحصرة في أمير المؤمنين (عليه السلام) وأحقيّته في خلافة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صدّق الحاضرون كلّ ما سمعوه من الإمام الحسين (عليه السلام)، ومن ثمّ أكّد الإمام عليهم قائلاً:
“اسمعوا مقالتي واكتموا قولي، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم. فمن أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحقّ ويذهب، والله متمّ نوره، ولو كره الكافرون”.
ب ـ مواجهته للتصفية الدمويّة:
قام معاوية إلى جانب سعيه في حذف اسم عليّ (عليه السلام) وفضائله وأخباره بتصفية دمويّة لأصحاب ومحبّي أمير المؤمنين (عليه السلام) فقتل بالسيف وجوهاً معروفة- أمثال حجر بن عديّ- في محبّتها لعليّ (عليه السلام) ونشرها لأفكاره من جهة, ومخالفتها لظلم معاوية وبدعه من جهة أخرى.
لقد كان حجر من المدافعين الأشدّاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فوقف بكلّ شهامة أمام محاولات بني أميّة للنيل منه وتوهينه. وقام زياد بن أبيه باعتقاله وأرسله مع أصحابه مكبّلين بالسلاسل إلى الشام، وفي رسالته إلى معاوية يصف زياد حجراً بأنّه رأس الطواغيت الموالين لأبي تراب عادّاً له من المخالفين لمعاوية، بشهادة بعض من الوجوه والأعيان عنده.
واعتراضاً من الإمام الحسين على شهادة أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) كحجر بن عديّ وأصحابه في سنة للهجرة، أكّد لمعاوية في رسالة أرسلها إليه بأنّه مطّلع على وقوعه بأبي الحسن واعتراضه على بني هاشم بالعيوب وقال له:
“يا معاوية… وأيم الله لقد أوترت غير قوسك ورميت غير غرضك وتناولتها بالعداوة من مكان قريب ولقد أطعت امرءاً ما قدم إيمانه ولا حدث نفاقه…”. وكتب سيّد الشهداء (عليه السلام) إلى معاوية مندّداً به وقائلاً له: “ألست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين، الذين كانوا يستفظعون البدع ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فقتلتهم ظلماً وعدواناً، من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة والعهود المؤكّدة، جرأة على الله واستخفافاً بعهده، أولست قاتل عمرو بن الحمق الذي أخلَقَت وأبلَت وجهه العبادة، فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم نزلت من شعف الجبال… أولست قاتل الحضرميّ الذي كتب إليك فيه زياد أنّه على دين عليّ كرم الله وجهه ودين عليّ هو دين ابن عمّه صلى الله عليه وآله وسلم الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين، رحلة الشتاء والصيف، فوضعها الله عنكم بنا مِنّة عليكم”.
ج ـ مخالفته تنصيب يزيد وليّاً للعهد:
وفي محاولة مفاجئة قام معاوية بالتمهيد لإعلان يزيد وليّاً للعهد وهذا ما لم يكن له سابقة في الإسلام، وقد بدأ بهذا الأمر منذ سنة للهجرة من الشام ومن ثمّ طلب من أعيان المدينة الرضوخ لهذه الولاية، ولكن الإمام الحسين (عليه السلام) مضافاً إلى سائر الأصحاب اعترضوا عليه في ذلك وفي هذه المدّة جرت مراسلات عديدة بين الإمام (عليه السلام) وبين معاوية وفي إحداها يحذّره من ذلك, يدعوه إلى الخوف من الله في هذا الأمر, قائلاً له: “واعلم أنّ الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنّة وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبيّاً يشرب الشراب ويلعب بالكلاب”.
وكتب الحسين (عليه السلام) كتاباً إلى معاوية يقرّعه فيه ويؤنّبه على أمور صنعها قال فيه:
“ثمّ ولّيت ابنك وهو غلام يشرب الشراب ويلهو بالكلاب فخنت أمانتك وأخربت رعيتك ولم تؤدّ نصيحة ربّك، فكيف تولّي على أمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من يشرب المسكر, وشارب المسكر من الفاسقين, وشارب المسكر من الأشرار, وليس شارب المسكر بأمين على درهم فكيف على الأمّة, فعن قليلٍ تَرِد على عملك حين تطوى صحائف الاستغفار”.
ومن أجل استتباب الأمر ليزيد قام معاوية بالقدوم إلى المدينة ومن ثمّ إلى مكّة واستدعى ابن عبّاس والإمام الحسين (عليه السلام), وحين قال معاوية قد أصبتُ ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما… وأنّه وصل إلى حدّ الكمال وهو خير لأمّة محمّد في إدارة أمورها، ردّ عليه الحسين (عليه السلام) قائلاً: “… وفهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصف محجوباً أو تنعت غائباً أو تخبر عمّا كان احتويته بعلمٍ خاصّ وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول”.
وعندما تكلّم معاوية عن فضائل يزيد وقراءته للقرآن وفضله على الإمام الحسين (عليه السلام) تعجّب الإمام (عليه السلام) من هذا الكلام الباطل ومن كذب معاوية وقال في جوابه: “يزيد شارب الخمر, ومشتري اللهو خير منّي؟!”.
فغضب معاوية من ردّ فعل الإمام الحسين (عليه السلام) وقال لابن عبّاس لقد ساءني رفض الحسين بن عليّ البيعة لابني يزيد وتوهينه إيّاه.
وعلى الرغم من رفع قادة جيش الشام سيوفهم وتهديدهم الإمام الحسين وثلاثة آخرين كانوا معه, وطلب الإذن من معاوية لضرب أعناقهم إن لم يبايعوا يزيد، وظنّ الناس أنّ الحسين (عليه السلام) ومن معه قد بايعوا، إلّا أنّ الحسين (عليه السلام) يخرج إلى الناس ويقول لهم: “والله ما بايعنا يزيد، لا سرّاً ولا جهراً”.
وها هو معاوية يوصي ابنه يزيد في لحظات عمره الأخيرة حول كيفيّة التعاطي مع الإمام الحسين (عليه السلام) قائلاً له:
“ولا تؤذه، ولكن أرعد له وأبرق, وإيّاك المكاشفة له في سلّ سيفٍ أو محاربة طعن رمحٍ…”.
د ـ توجيه النخب وهدايتها:
وفي خطبة للإمام الحسين (عليه السلام)- قيل إنّه خطبها في منى- تكلّم فيها مخاطباً النخب والعلماء من ذوي المنزلة والمكانة في المجتمع والمشهورين بالمعروف والخير والصلاح والموفّقين بلطف من الله بتحصيل المهابة في قلوب الناس… قائلاً لهم:
“ثمّ أنتم أيّها العصابة, عصابة بالعلم مشهورة, وبالخير مذكورة, وبالنصيحة معروفة, وبالله في أنفس الناس مهابة, يهابكم الشريف, ويكرمكم الضعيف, ويؤثركم من لا فضل لكم عليه ولا يد لكم عنده, تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلّابها, وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر…” وها هنا يتوجّه الإمام (عليه السلام) إليهم بالسؤال المفاجئ:
“أليس كلّ ذلك إنّما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحقّ الله وإن كنتم عن أكثر حقّه تقصّرون فاستخففتم بحقّ الأئمّة”.
فالإمام يذكّرهم بأنّ هذه المنزلة والمكانة إنّما نلتموها عند الناس بسبب الله عزَّ وجلَّ وها هو يقرّعهم في تهاونهم عن الدفاع عن دين الله بقوله: “فلا مالاً بذلتموه، ولا نفساً خاطرتم بها للّذي خلقها, ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله…”.
لقد سلّط الإمام (عليه السلام) الضوء على مسألة خطيرة في الأمّة تستدعي ردّ فعلٍ من النخب والعلماء وتدعوهم إلى التفكّر والتأمّل فقال لهم:
“وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تقرعون, وأنتم لبعض ذمم آبائكم تقرعون، وذمّة رسول الله محقورة، والعمي والبكم والزمن في المداين مهملة, لا ترحمون ولا في منزلتكم تعملون, ولا من عمل فيها تعتبون, وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون…”، وباعتقاد الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام) فإنّ: “مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه…”, وبالتالي فإنّ وهن أمثال هؤلاء النخب في الإسلام وتقصيرهم في “حفظ مكانة العلماء” سيؤدّي إلى سلب هذه المنزلة منهم ويعلّل الإمام (عليه السلام) ذلك بقوله: “وما سلبتم ذلك إلّا بتفرّقكم عن الحقّ واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة”.
ومن الطبيعيّ أنّ غرّة هذا الأمر لن تكون سوى أن مكّنتم الظلمة من منزلتكم وأسلمتم أمور الحكومة الإلهيّة في يد أرذل خلق الله الذين: “في كلّ بلدٍ منهم على منبره خطيب مصقع فالأرض لهم شاغرة, وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول لا يدفعون يد لامسٍ…” ولذا: “لو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم تردّ, وعنكم تصدر, وإليكم ترجع, ولكنّكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم, وأسلمتم أمور الله في أيديهم, يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات…”.
ومن ثمّ يظهر سيّد الشهداء (عليه السلام) العجب والأسى من تصدّي الأمويّين للخلافة والحكومة فيقول: “فيا عجباً وما لي لا أعجب والأرض من غاشٍ غشوم, ومتصدّقٍ ظلوم وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا، أللهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان, ولا التماساً من فضول الحطام, ولكن لنُري المعالم من دينك, ونظهر الإصلاح في بلادك, ويأمن المظلومون من عبادك, ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك…”.
ومن ثمّ ينهي الإمام الحسين (عليه السلام) خطابه بهذه الكلمات: “فإنّكم إلّا تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم, وعملوا في إطفاء نور نبيّكم, وحسبنا الله وعليه توكّلنا, وإليه أنبنا وإليه المصير”.
عدم الاعتراف بسلطة يزيد
بعد موت معاوية في سنة للهجرة جلس ابنه يزيد على مسند الخلافة، وأرسل من فوره رسالة إلى واليه على المدينة يطالبه فيها بأخذ البيعة من الإمام الحسين (عليه السلام) وكبار الصحابة وأعطى أوامره بأن يرسل إليه برأس الحسين إن امتنع الإمام (عليه السلام) عن البيعة.
وقد أعلن الإمام الحسين من قبل- وفي زمن تصدّي معاوية للأمر- موقفه من تولّي يزيد العهد من بعد أبيه, وأنّه لا يليق بمنصب الخلافة.
ولهذا وقبل إعلان موقفه لحاكم المدينة الطالب للبيعة للخليفة الجديد قال سلام الله عليه لابن الزبير: “إنّي أبايع ليزيد؟! ويزيد رجل فاسق معلن الفسق يشرب الخمر ويلعب بالكلاب والفهود ويبغض بقيّة آل الرسول، لا والله لا يكون ذلك أبداً”.
وأمّا جواب الإمام الحسين (عليه السلام) للوليد والي المدينة، فقال له: “أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة, ومعدن الرسالة, ومختلف الملائكة, ومحلّ الرحمة, وبنا فتح الله وبنا ختم, ويزيد رجل فاسق, شاربُ خمرٍ, قاتل النفس المحترمة, معلنٌ بالفسق، مثلي لا يبايع لمثله”.
وواجه الإمام (عليه السلام) مروان بن الحكم الذي دعاه إلى بيعة يزيد بتكراره آية الاسترجاع فقال: “إِنَّا لِلهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمّة براعٍ مثل يزيد”. ومن قبل قال (عليه السلام) لمعاوية: “فكيف تولّي على أمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من يشرب المسكر وشارب المسكر من الفاسقين وشارب المسكر من الأشرار”.
وعندما اطلع يزيد على عدم بيعة الإمام (عليه السلام) كتب إلى الوليد قائلاً له: “وليكن مع جوابك إليّ رأس الحسين بن عليّ”.
وكما ترى فقد ابتدأ يزيد خلافته بسعيه لقتل الإمام الحسين (عليه السلام), ومن بعد ذلك أمضى الحسين (عليه السلام) ليلتين في جوار القبر النورانيّ لجدّه النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يصل ليله بنهاره ويقيم الصلاة ولم يزل راكعاً وساجداً في كلّ ليله يشكو إلى جدّه صلى الله عليه وآله وسلم حال أمّته التي لم ترع حرمته من بعده ويبث إليه همومه وأحزانه ويودّعه, وممّا قاله (عليه السلام) في مناجاته: “أللهم إنّ هذا قبر نبيّك محمّد وأنا ابن بنت محمّد وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، أللهم وإنّي أحب المعروف وأكره المنكر…”.
وتهيّأ الإمام (عليه السلام) للخروج إلى مكّة وقبل الرحيل التقى بأخيه محمّد بن الحنفيّة الذي اقترح على الإمام (عليه السلام) قائلاً: “وإنّي أريد أن أشير عليك برأيي فاقبله منّي… أشير عليك أن تنجو بنفسك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت وأن تبعث رسائلك إلى الناس وتدعوهم إلى بيعتك…”.
فأجابه الإمام (عليه السلام): “يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت والله يزيد بن معاوية أبداً…”.
من المدينة إلى مكّة
توجّه الإمام الحسين (عليه السلام) في ليلة رجب سنة للهجرة من المدينة المنوّرة قاصداً مكّة المكرّمة مصطحباً معه في سفره أولاده وإخوته وأخواته وأولادهم وجمع من أقربائه وأصحابه، وكان وصوله إلى مكّة في الثالث من شعبان، ففرح أهلها وكبار الصحابة فيها بحضوره وصاروا يختلفون إليه بكرة وعشيّاً. وأمضى الإمام الحسين (عليه السلام) في مكّة بقيّة شهر شعبان وشهر رمضان وشوّال وذي القعدة والأيّام الأول من شهر ذي الحجّة الحرام.
وفي المشهد الآخر فإنّ أهل الكوفة الذين أضناهم كثرة الضغوطات والمضايقات عليهم من قبل الأمويّين كانوا يبحثون عمّن يقودهم إلى الثورة ضدّهم. فتوجّهوا نحو الإمام الحسين (عليه السلام) وأرسلوا إليه أثناء إقامته في مكّة المكرّمة بالعديد من الرسائل في سبيل هذا الأمر، وفي المرحلة الأولى وصلته الكتب من أشراف أهل الكوفة أمثال سليمان بن صرد الخزاعيّ والمسيّب بن نجيّة وحبيب بن مظاهر ورفاعة بن شدّاد وعبد الله بن وال وغيرهم, وممّا قالوه في رسالتهم الأولى له وطلبوه منه (عليه السلام):
“فأقبل إلينا فرحاً مسروراً مأموناً مباركاً سديداً وسيِّداً أميراً مطاعاً… ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه- أي النعمان بن بشير والي الكوفة – عنّا حتّى يلحق بالشام فأقدم إلينا فلعلّ الله عزَّ وجلَّ أن يجمعنا بك على الحقّ”.
وبعدما قرأ الإمام الحسين (عليه السلام) رسالتهم لم يجبهم، ورجع رسولا أهل الكوفة إليها.
وفي المرحلة الثانية التقى الإمام (عليه السلام) بقيس بن مسهّر الصيداويّ وجماعة معه من وجهاء أهل الكوفة المعروفين, حاملين معهم الرسائل الكثيرة من أهل الكوفة, فسلّموها للإمام الحسين (عليه السلام) سائلين منه القدوم معهم إلى الكوفة ولكنّه (عليه السلام) تأنّى في أمره ولم يجبهم أيضاً بشيء.
ولكن في المرحلة الثالثة جاءه رسولان من أهل الكوفة هما هانئ بن أبي هانئ وسعيد بن عبد الله يحملان إليه رسالة أشراف الكوفة وأكابرها، أمثال: شبث بن ربعيّ، حجّار بن أبجر، يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم، عروة بن قيس، عمرو بن الحجّاج ومحمّد بن عمير بن عطارد وقد أعلموه في رسالتهم: “أمّا بعد، فإنّ الناس منتظرون لا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قد اخضرّت الجنّات، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار، فأقدم إذا شئت, فإنّما تقدم إلى جندٍ لك مجنّدة…”.
وحينئذٍ أجابهم الحسين (عليه السلام) فأرسل مسلم بن عقيل ليستخبر أوضاع الكوفة, وبعث معه برسالة لهم يقول فيها:
“… وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي, مسلم بن عقيل بن أبي طالب (رضي الله عنه) وقد أمرته أن يكتب إليّ بحالكم ورأيكم ورأي ذوي الحجى والفضل منكم، وهو متوجّه إلى ما قبلكم إن شاء الله تعالى، والسلام ولا قوّة إلّا بالله، فإن كنتم على ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه وانصروه ولا تخذلوه، فلعمري ليس الإمام العامل بالكتاب والعادل بالقسط كالذي يحكم بغير الحقّ ولا يهدي ولا يُهتدى”.
وقام الإمام الحسين كذلك بإرسال سليمان بن رزين إلى البصرة محمّلاً إيّاه الرسائل إلى رؤوس الأخماس فيها وأشرافها يدعوهم إلى بيعته ونصرته وممّا قاله لهم:
“وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أميتت، وإنّ البدعة قد أحييت، فإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد”.
وفي هذه الأثناء أوعز يزيد – في خطوة ماكرة قبيحة – إلى عمرو بن سعيد بن العاص بأن يتوجّه مع جماعة في مكّة وفي الخفاء لاعتقال الإمام الحسين (عليه السلام) وإن لم يفلحوا في ذلك فليقتلوه.
ولكنّ الإمام (عليه السلام) ومن أجل حفظ حرمة حرم الله هيّأ نفسه للخروج من مكّة والتوجّه نحو العراق وقال (عليه السلام): “لا نستحلّها ولا تستحلّ بنا”.
السعي من أجل الإصلاح والتغيير
ومع ورود كتاب مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين (عليه السلام) وتقييمه الإيجابيّ عن أوضاع الكوفة وأحوال أهلها اتضحت معالم وجهة الإمام (عليه السلام)، وممّا جاء في كتاب مسلم إليه، قال له: “أمّا بعد, فإنّ الرائد لا يكذب أهله، وإنّ جميع أهل الكوفة معك، وقد بايعني منهم ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين تقرأ كتابي، فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هدى، والسلام”.
وبالتالي تجهّز الإمام الحسين (عليه السلام) للتوجّه إلى العراق ليهيّئ الأرضيّة اللازمة للثورة ضدّ يزيد بن معاوية وتأسيس حكومة منبثقة من حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحكومة أمير المؤمنين (عليه السلام). ويلحظ هذا الاتجاه بشكل واضح في وصيّته (عليه السلام) لأخيه محمّد بن الحنفيّة حينما قال له:
“إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً, وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)” ومع تأكيد الإمام الحسين (عليه السلام) على أحقيّة أهل بيت الرسالة بالخلافة والقيادة – والتي سلبت منهم بعد ارتحال النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم- فإنّه يشير أيضاً إلى أهمّ ما ابتليت به الأمّة الإسلاميّة في حينها والمصيبة الكبرى على الإسلام والمسلمين بتولّي آل أبي سفيان زمام الخلافة وقيادة الأمّة، قال (عليه السلام): “إنّا أهل بيت الكرامة, ومعدن الرسالة, وأعلام الحقّ, الذين أودعه الله عزَّ وجلَّ قلوبنا, وأنطق به ألسنتنا، فنطقت بإذن الله، ولقد سمعت جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الخلافة محرّمة على ولد أبي سفيان”.
ولذا نهض الإمام الحسين (عليه السلام) من أجل إصلاح هذا الوضع الخطير والمؤسف ولم ير إلّا القيام بالسيف والثورة طريقاً لإيجاد التغيير في الأمّة, لاعتقاده بأنّه الأحقّ بالأمر، ولم يكن قيامه بذلك من أجل المال والسلطان ممّا يسعى له أهل الدنيا, وقد قال (عليه السلام) بأنّه: “لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك”. ولم يكن جديراً بهذا التحوّل والتغيير سوى الإمام الحسين (عليه السلام) الذي يقول: “وقد علمتم أنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتولّوا عن طاعة الرحمن, وأظهروا الفساد, وعطّلوا الحدود, واستأثروا بالفيء, وأحلّوا حرام الله, وحرّموا حلاله, وإنّي أحقّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم…”.
ويؤكّد الإمام الخمينيّ قدس سره على هذا النهج السياسيّ للإمام الحسين (عليه السلام) فيقول:
“إنّ سيّد الشهداء قد قام من أجل استلام الحكومة، وهذا ما سعى إليه وهو فخر كبير في حدّ ذاته، ومن ظنّ غير ذلك فهو واهم ومخطئ، وأنّ هؤلاء قد قاموا من أجل الحكومة أيضاً لأنّ مثل هذه الحكومة يجب أن تكون في يدٍ كَيَد سيّد الشهداء وفي يد كَيَد شيعة سيّد الشهداء أيضاً”.
الحركات المعارضة
منذ اللحظات الأولى لإعلان الإمام الحسين (عليه السلام) رفض البيعة ليزيد – وخاصّة أثناء إقامته بمكّة – توجّه إليه البعض من ذوي الشأن والمكانة طالبين منه إعادة النظر في مواقفه وعرضوا عليه العديد من الآراء والطروحات في محاولة لمنع الإمام من القيام والتوجّه نحو العراق، ومع الالتفات إلى تعدّد هؤلاء المعارضين واختلاف طروحاتهم يمكن تقسيم هؤلاء إلى ثلاث طوائف:
أ ـ حركة الهاشميّين:
وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى بعض وجوه الهاشميّين أمثال عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن جعفر ومحمّد بن الحنفيّة وهؤلاء من الشخصيّات الهامّة التي ذكر أنّها كانت معذورة في عدم الذهاب مع الإمام (عليه السلام)، وفي لقاءاتهم المتعدّدة معه كانوا يذكرون الإمام (عليه السلام) بالسوابق السلبيّة لأهل الكوفة ويحذّرونه من الذهاب إلى العراق.
ولكنّ الإمام الحسين (عليه السلام) يواجه محمّد بن الحنفيّة في المدينة ويصرّح له في وصيّته إيّاه: “وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي صلى الله عليه وآله وسلم”.
وأمّا عبد الله بن جعفر فقد كتب الإمام إليه مجيباً له عن شبهة الشقاق والاختلاف بسبب خروجه – كما يزعمه البعض – فقال له: “أمّا بعد، فإنّه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله عزَّ وجلَّ وعمل صالحاً”.
وفي رسالة ابن جعفر الذي تكلّم فيها بطلب الأمان للإمام (عليه السلام) نرى أنّه (عليه السلام) يجيبه “بأنّ خير الأمان أمان الله”، وكذلك أجاب الإمام عبد الله بن عبّاس قائلاً:
“هيهات هيهات يا ابن عبّاس، إنّ القوم لم يتركوني وإنّهم يطلبونني أين كنت حتّى أبايعهم كرهاً ويقتلوني، والله لو كنت في جحرٍ هامةٍ من هوام الأرض لاستخرجوني منه وقتلوني, والله إنّهم ليعتدون عليّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت, وإنّي ماضٍ في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث أمرني, وإِنَّا لِلهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ”.
ب ـ حركة المشفقين:
وهذه الطائفة لا يمكن عدّها في ضمن أصحاب النوايا السيّئة، بل إنّهم وإشفاقاً على الإمام (عليه السلام) طرحوا عليه تجديد الرأي والنظر فيما صمّم عليه, وقد أجابهم (عليه السلام) على ما أبدوه من الكلام والنصح، ومن جملة هؤلاء يمكن الإشارة إلى أمثال عبد الله بن مطيع العدويّ، والأوزاعيّ وأبو سعيد الخدريّ والمسوّر بن مخرمة، وذكر في ضمن هؤلاء أيضاً رجلاً يعرف باسم عمر بن عبد الرحمن المخزوميّ الذي قدم إلى الإمام الحسين (عليه السلام) في مكّة ولم يعتبره الإمام سيّء الرأي, ولا نصحه إيّاه بالقبيح من الفعل.
وحيث إن هذا الرجل قد أبدى قلقه من نقض الكوفيّين للعهود وعدم محاربتهم مع الإمام (عليه السلام) إلّا أنّه أجابه قائلاً: “جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، فقد والله علمت أنّك مشيت بنصحٍ وتكلّمت بعقلٍ، ومهما يقض من أمرٍ يكن، أخذت برأيك أو تركته”.
ج ـ حركة أصحاب الفرص:
وفي هذا المجال يمكن رصد بعض الوجوه والشخصيّات التي لم تكن مشفقة على الإمام (عليه السلام) وإن كان ظاهرها النصح له, ومن هؤلاء عبد الله بن الزبير الذي كان يبغض بني هاشم ومعادياً لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وها هو يطلب من الإمام (عليه السلام) أن يبقى في مكّة وأن لا يخرج إلى العراق، مع أنّ المؤرّخين يذكرون بأنّ ابن الزبير لم يكن راضياً عن وجود الإمام الحسين (عليه السلام) في مكّة, بل كان يطمع في أخذ البيعة منه, وذكر أنّه كان يأتي إلى مجلس الإمام الحسين (عليه السلام) صباحاً ومساءً مع علمه بأنّه مع وجود الإمام (عليه السلام) في مكّة لن يرغب أحدٌ من الناس في بيعته.
ولمّا أن عزم الإمام على التحرّك من مكّة باتجاه العراق، لقي ابن عبّاس عبد الله بن الزبير فقال له: قرّت عينك يا ابن الزبير، ثمّ قال:
يَا لَكِ مِنْ قنْبَرَةٍ بِمَعْمَرٍ خَلا لَكِ الجَوُّ فَبِيضِي واصْفُرِي
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي
وأمّا عبد الله بن عمر فقد كان ذا شخصيّة متخفيّة، وقد قام بلقاء الإمام ثلاث مرّات ليرغّبه في بيعة يزيد, وقد طلب منه أن يسير في الصلح كما سار بقيّة الناس، ولكنّ الإمام (عليه السلام) قال له في إحدى إجاباته:
“اتق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعنّ نصرتي”.
إلّا أن عبد الله بن عمر لم يكتف بعدم نصرة الإمام (عليه السلام) فحسب بل إنّه أرسل إلى يزيد بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) برسالة ضمّنها القبول بخلافته والبيعة له.
نحو كربلاء
إنّ خطر قتل الإمام (عليه السلام) في مكّة اتخذ بعداً جدّياً، فقد كان جنود يزيد متخفّين بلباس الإحرام في موسم الحجّ يتحيّنون الفرصة لقتل الإمام (عليه السلام).
وفي آخر ليلة أمضاها الحسين في مكّة يقول لأخيه محمّد بن الحنفيّة:
“يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت”.
وبعد أن قام الإمام بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فكّ إحرامه بإتيان العمرة، وخرج من مكّة في يوم الثلاثاء الثامن من ذي الحجّة للسنة للهجرة يوم التروية واتجه نحو الكوفة مستقبلاً للمصاعب والمحن وقال في ابتداء سيره: “خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة, وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه…”.
وسوف نشير إلى مسير حركة الإمام (عليه السلام) من مكّة إلى كربلاء المقدّسة في منازلها المختلفة بالبيان التالي:
ـ التنعيم
ويقع هذا المنزل على بعد فرسخين من مكّة وقد التقى (عليه السلام) فيه مع قافلة آتية من اليمن محمّلة بالهدايا إلى يزيد, فقام الإمام (عليه السلام) بمصادرة متاع القافلة بعد أن دفع أجرة الجمال لأصحابها.
ـ الصفاح
وعندما وصل الإمام (عليه السلام) إلى الصفاح التقى بالفرزدق- أحد الشعراء العرب المشهورين- فاستعلم منه الإمام (عليه السلام) عن أوضاع أهل العراق فقال له: “الخبير سألت، إنّ قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أميّة، والقضاء ينزل من السماء, والله يفعل ما يشاء”.
ـ ذات عرق
وفي هذا المنزل استقبل الإمام (عليه السلام) بشر بن غالب القادم من العراق, فاستعلمه عن أحوال أهله, فأجابه كما أجاب الفرزدق بأنّ القلوب معه والسيوف مع بني أميّة.
ـ الحاجر
وبعدما وصل الإمام إلى هذا المكان أرسل قيس بن مسهّر برسالة إلى الكوفة يخبر
ـ الخزيمية
توقفت قافلة الإمام في هذا المنزل ليوم وليلة، وأتت زينب الكبرى لتخبر الإمام (عليه السلام) بأنّها سمعت هاتفاً ينشد هذين البيتين من الشعر:
أَلَا يَا عَيْنُ فَاحْتَفِلِي بِجُهْدٍ وَمَنْ يَبْكِي عَلَى الشُهَداءِ بَعْدِي
عَلَى قَوْمٍ سُيُوفُهُمُ المنَايَا بِمْقدارٍ إلَى إِنْجَازِ وَعْدِ
فأجابها الإمام الحسين (عليه السلام) قائلاً: “يا أختاه المقضيّ هو كائن”
ـ زَرُود
وفي هذا المنزل رأى الحسين بن عليّ (عليه السلام) فسطاطاً مضروباً لزهير بن القين الذي كان يحذر بشدّة من الاقتراب من الإمام, فدعاه الحسين لمرافقته, فما لبث أن استجاب له بعد تشجيع زوجته له.
ـ الثعلبيّة
وفي هذا المكان أخبر رجلان من بني أسد الإمام (عليه السلام) بخبر فارس من بني أسد كان قد مرّ بقرب منزلهم في زرود حيث قال لهم: بأنّه لم يخرج من الكوفة إلّا وقد قُتِل مسلم وهاني, فلم يكن من الإمام (عليه السلام) إلّا أن استرجع، مكرّراً لقوله تعالى: ﴿إِنَّا لِلهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ وترحّم على هذين الشهيدين قائلاً: “لا خير في العيش بعد هؤلاء”.
وعندما نزل الإمام (عليه السلام) في الثعلبيّة وقت الظهيرة وضع رأسه فَرَقَد, ثمّ استيقظ, فقال لابنه عليّ الأكبر ما رآه في منامه: “خفقت برأسي خفقة, فعنّ لي فارس يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم, فعلمت أنّها أنفسنا نعيت إلينا”.
فقال له ابنه عليّ الأكبر: يا أبه فلسنا على الحقّ؟
فقال له الإمام (عليه السلام): “بلى يا بني، والله الذي إليه مرجع العباد”.
فقال له عليّ الأكبر: يا أبه إذاً لا نبالي بالموت.
فقال الحسين (عليه السلام): “جزاك الله يا بنيّ خير ما جزى ولداً عن والده”.
وفي هذا المكان التقى الإمام أيضاً برجلٍ من أهل الكوفة يدعى أبا هرّة الأزديّ, وقد سأل الإمام (عليه السلام) عن سبب خروجه من حرم الله وحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له الحسين (عليه السلام):
“يا أبا هرّة إنّ بني أميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيم الله يا أبا هرّة لتقتلني الفئة الباغية, وليلبسهم الله ذلّاً شاملاً وسيفاً قاطعاً…”.
ـ الشقوق
ويذكر بعض المؤرّخين بأنّ الفرزدق قد التقى بالإمام (عليه السلام) في هذا المنزل.
ـ زبالة
وفي هذا المنزل أخبر رسولٌ من أهل الكوفة الإمام (عليه السلام) باستشهاد مسلم بن عقيل وكذلك هاني بن عروة وقيس بن مسهّر، وأيضاً وصله في هذا المنزل خبر شهادة عبد الله بن يقطر الذي كان قد أرسله الإمام (عليه السلام) بعد خروجه من مكّة إلى الكوفة حاملاً رسالته إلى مسلم بن عقيل.
وعندما وصل خبر استشهاد أصحاب الإمام (عليه السلام) في الكوفة أخبر أصحابه بذلك وقال لهم: “قد خذلتنا شيعتنا, فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام”.
فتفرّق عنه بعض الناس، ويذكر أبو مخنف بأنّه لم يبق في أصحابه إلّا من جاءوا معه من المدينة.
وأحد النماذج التي تفرّقت عنه في هذا المكان فراس بن جعدة المخزوميّ, الذي انسحب ليلاً متخلّفاً عن الحسين (عليه السلام).
ـ بطن العقبة
وعندما نزلت قافلة الحسين (عليه السلام) في هذا المنزل لقيه رجل من بني عكرمة يدعى عمرو بن لوذان فناشد الإمام أن يرجع, فقال له: “فوالله لا تقدم إلّا على الأسنّة وحدّ السيوف”، فأجابه الحسين (عليه السلام) قائلاً: “يا عبد الله إنّه ليس يخفى عليّ, الرأي ما رأيت, ولكن الله لا يغلب على أمره”.
ثمّ قال له: “والله لا يدعونني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي, فإذا فعلوا سلّط الله عليهم من يذلهّم حتّى يكونوا أذلّ فرق الأمم”.
ـ شراف
وبعدما توقّف الإمام (عليه السلام) في هذا المنزل, أمر فتيانه في السَّحَر باستقاء الماء والإكثار منه ومن ثمّ ارتحلوا عنه.
ـ ذو حُسَم
وعند انتصاف النهار أخبر أحد روّاد القافلة الإمام (عليه السلام) بأنّه يرى عن بعد رؤوس الفرسان على خيولهم الكثيرة, فرأى الإمام أن يلتجئ إلى مكانٍ ما, فغيّر مسيره بمشورة
بعض من معه إلى مرتفعٍ يدعى ذو حسم, وسبق فرسان العدوّ في الوصول إليه, ونزل فيه الحسين (عليه السلام) وجاء القوم وهم ألف فارس يقودهم الحرّ بن يزيد الرياحيّ نحو خيمة الإمام (عليه السلام) حتّى وقفوا في مقابله، فقال الحسين (عليه السلام) لفتيانه: “اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشّفوا الخيل ترشيفاً”, يقول عليّ بن طعان: بأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) أخذ السقاء وقام بإرواء الحرّ وحصانه.
وفي يومه الأوّل في هذا المنزل وبعد إقامة صلاة الظهر والعصر بحضور أصحابه وأصحاب الحرّ أشار الإمام (عليه السلام) في خطبته الأولى معهم إلى دعوة أهل الكوفة له فلم يجبه الحرّ، وفي الخطبة الثانية أكّد (عليه السلام) على معرفة الحقّ وأنّ الحقّ لمن؟ فقال: “أمّا بعد, أيّها الناس فإنّكم إن تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم, والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم, وقدمت به عليّ رسلكم انصرفت عنكم”, فقال له الحرّ بن يزيد، إنّا والله ما ندري هذه الكتب التي تذكر، وحينئذٍ أمر الحسين (عليه السلام) أن تنشر الرسائل بين أيديهم.
فقال الحرّ: فإنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك, وقد أمرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك حتّى نقدمك على عبيد الله بن زياد.
فقال له الحسين (عليه السلام): “الموت أدنى إليك من ذلك”.
ثمّ قال لأصحابه: “قوموا فاركبوا”، فركبوا، وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم فقال لأصحابه: “انصرفوا بنا”، فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، وفي هذه الأثناء جرى كلام طويل بين الإمام الحسين (عليه السلام) والحرّ، ومن ثمّ قال الحرّ: “فإذا أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة ولا تردّك المدينة، لتكون بيني وبينك نصفاً حتّى أكتب إلى ابن زياد…”.
– البيضة
وفي هذا المنزل خطب الحسين (عليه السلام) في أصحابه وأصحاب الحرّ فقال لهم:
“أيّها الناس إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله, ناكثاً لعهد الله, مخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قولٍ كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن, وأظهروا الفساد, وعطّلوا الحدود, واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله, وأنّا أحقّ من غَيَّرَ, وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني, فإن تممتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم… وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم، والمغرور من اغترّ بكم, فحظّكم أخطأتم, ونصيبكم ضيّعتم ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه…”.
وأقبل الحرّ يساير الحسين, وتكلّم معه عن الحرب والهلاك, فقال له الحسين (عليه السلام): “أبالموت تخوّفني… ولكن أقول لك كما قال أخو الأوس لابن عمّه ولقيه وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: أين تذهب فإنّك مقتول؟ فقال:
سَأَمْضِي وَمَا بِالمَوْتِ عَارٌ عَلَى الفَتَى إِذا مَا نَوَى حَقّاً وَجَاهَدَ مُسْلِمَا
وَوَاسَى الرِّجَالَ الصَّالِحِينَ بِنَفْسِهِ وَفَارَقَ مَثْبُوراً يُغَشُّ وَيُرْغَمَا
فَإِنْ عِشْتُ لَمْ أَنْدَمْ وَإِنْ مُتُّ لَمْ أُلَمْ كَفَى بِكَ ذُلّاً أَنْ تَعِيشَ وَتُرْغَما”
ـ عذيب الهجانات
وفي هذا المنزل التقى الإمام (عليه السلام) بأربعة أشخاص يقودهم الطرماح بن عديّ قدموا من الكوفة للالتحاق بالإمام الحسين (عليه السلام), وهنا توجّه الإمام (عليه السلام) نحو الطرماح وقال له: “أما والله إنّي لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا قتلنا أم ظفرنا”.
وهنا تدخل الحرّ وصمّم على اعتقال هؤلاء الأربعة من أهل الكوفة أو أن يردّهم.
فقال له الحسين (عليه السلام): “لأمنعنّهم ممّا أمنع به نفسي، إنمّا هؤلاء أنصاري وأعواني…”.
ثمّ استفسر الإمام (عليه السلام) من هؤلاء الأشخاص الكوفيّين عن أوضاع مدينتهم, فقال له مجمع بن عبد الله العائذيّ: “أمّا أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم، يستحال ودّهم ويستخلص به نصيحتهم، فهم ألبّ واحدٍ عليك، وأمّا سائر الناس بعد فإنّ أفئدتهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك”.
ثمّ استخبرهم الحسين (عليه السلام) عن سفيره قيس بن مسهّر، فأخبروه بشهادته، فترقرقت عينا الحسين (عليه السلام) ولم يملك دمعه، ثمّ تلا قوله تعالى:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.
ومن ثمّ توجّه بالدعاء قائلاً: “أللهم اجعل لنا ولهم الجنّة نزلاً, واجمع بيننا وبينهم في مستقرٍّ من رحمتك.
المصدر: http://h-najaf.iq