إن المتأمل فيما حدث في يوم عاشوراء يدرك بجلاء أن يوم عاشوراء مدرسة تثري الأجيال المتعاقبة بكثير من المبادئ الإسلامية العالية التي تجسدت في مواقف الإمام الحسين عليه السلام، ومواقف أصحابه وأهل بيته، من التضحية، والإباء، والإخلاص، وعلو الهمة، والثبات على المبدأ الحق، وبذل النفس والنفيس في سبيل الله، والوفاء، والعزم، والشجاعة، وغيرها من المبادئ السامية التي لا تخفى على كل من درس هذه الواقعة ونظر إليها بإنصاف ورويَّة.
ولأجل ذلك اغترفت الأجيال المتعاقبة من الشيعة من نمير هذه المدرسة الإلهية، وجددت ولاءها للإمام الحسين عليه السلام وباقي الأئمة الأطهار عليهم السلام كل عام، واكتسبت منها العزم على مواجهة التحديات المعاصرة التي تلم بالشيعة في جميع أنحاء العالم.
وبقدر اهتمام الشيعة بإحياء واقعة الطف، اهتم أعداؤهم بالتشكيك في صحة مواقف الإمام الحسين عليه السلام، وأهمية تجديد هذه الذكرى كل عام، والطعن في خروج الإمام عليه السلام إلى كربلاء، فأوردوا كثيراً من الإشكالات، وأثاروا العديد من الشبهات حول واقعة عاشوراء، وما جرى على الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.
ومن يطلع على هذه الإشكالات والشبهات يجد أن لها إجابات متعددة تدفع كل شبهة بخصوصها، كما أن لمجموع هذه الإشكالات إجابات عامة، يمكن أن تكون جواباً على كل إشكال يثار في هذا الموضوع.
وكيف كان فإن مثير الإشكال لا يخلو إما أن يكون شيعياً معتقداً بعصمة الإمام الحسين عليه السلام، وأنه لا يخطئ في كل أقواله وأفعاله، وإما أن يكون مخالفاً لا يعتقد ذلك في الإمام الحسين عليه السلام، وإنما يراه صحابياً جليلاً يصيب ويخطئ، وعليه فإن كان مثير الإشكال شيعياً فإشكاله لا وجه له، لأنه إذا اعترف بأن الإمام الحسين عليه السلام معصوم عن الخطأ، فكيف يتطرق إليه الشك في أي فعل من أفعاله عليه السلام بأنه حق وصواب؟! فإن عصمته عليه السلام مانعة من وقوعه في الخطأ.
وأما إذا كان مثير الإشكال مخالفاً فيمكن أن نجيب عن كل إشكالاته بعدة إجابات مختلفة:
1- أن الإمام الحسين عليه السلام مجتهد في نهضته، فهو مأجور في فعله، فإن كان مصيباً فله أجران، وإن كان مخطئاً بنظر هذا المخالف فللإمام عليه السلام أجر واحد، فلا وجه حينئذ للطعن في أي موقف من مواقف الإمام عليه السلام.
2- أن النبي صلى الله عليه وآله أخبر الناس قبل قتل الإمام الحسين عليه السلام بستين سنة بأنه عليه السلام مقتول في كربلاء لا محالة، وروايات أهل السنة في هذا المضمون كثيرة.
منها: ما أخرجه الإمام أحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لقد دخل عليَّ البيت ملَك لم يدخل عليَّ قبلها، قال: إن ابنك هذا حسين مقتول، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يُقتل بها، قال: فأخرج تربة حمراء.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/187: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.
ومنها: ما أخرجه أبو يعلى والبزار والطبراني وغيرهم عن نجي الحضرمي أنه سار مع علي رضي الله عنه، وكان صاحب مطهرته، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين، نادى علي: اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله بشط الفرات. قلت: وما ذاك؟ قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وإذا عيناه تذرفان، قلت: يا نبي الله أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: بل قام من عندي جبريل عليه السلام قبل، فحدثني أن الحسين يُقتل بشط الفرات، قال: فقال: هل لك أن أشمك من تربته؟ قلت: نعم. قال: فمد يده، فقبض قبضة من تراب، فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/187: رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني، ورجاله ثقات، ولم ينفرد نجي بهذا.
وأخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق أن النبي صلى الله عليه وآله خطب الناس ذات يوم فقال: ألا وإن جبريل قد أخبرني بأن أمتي تقتل ولدي الحسين بأرض كرب وبلاء، ألا فلعنة الله على قاتله وخاذله إلى آخر الدهر. ثم نزل عن المنبر، ولم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلا واستيقن أن الحسين مقتول.
قلت: فإذا كانت هذه الروايات وغيرها صحيحة مستفيضة بل متواترة، وهي مروية من طرق الفريقين، وقد صحَّح كثير من حفاظ الحديث عند أهل السنة جملة وافرة منها، فحينئذ نقول:
إذا كان خروج الإمام الحسين عليه السلام مفسدة أو خطأ كما يزعم بعضهم، فإن النبي صلى الله عليه وآله الذي أخبر صحابته بأن الحسين عليه السلام يُقتل بأرض تسمَّى كربلاء، لا بد أن ينهى الإمام الحسين عن الخروج، أو يأمر أصحابه بالحيلولة دون خروجه عليه السلام إلى كربلاء، إلا أنه لم يرد في أي حديث من تلك الأحاديث نهي منه عن ذلك، أو ما يشعر بكراهته صلى الله عليه وآله لقيام الإمام عليه السلام.
كما أن بعض الأحاديث قد دلت على أنه صلى الله عليه وآله بكى الإمام الحسين عليه السلام وأبكى الناس عليه، ولولا أن خروجه عليه السلام صحيح بل فيه منفعة عظيمة للدين ومصلحة جليلة لعامة المسلمين لما بكاه النبي صلى الله عليه وآله مراراً قبل وقوع هذه الحادثة.
3- أن حديث نجي الحضرمي المتقدم ذكره آنفاً، ورد فيه قول أمير المؤمنين عليه السلام: (اصبر أبا عبد الله، اصبر أبا عبد الله بشط الفرات)، وهذا دليل واضح على أن أمير المؤمنين عليه السلام لا يرى أي خطأ أو مفسدة في خروج الإمام الحسين عليه السلام، بل يحثه على ذلك، ويأمره بالصبر على ما يصيبه من البلاء والقتل.
4- أن الإمام الحسين عليه السلام هو أحد سيدي شباب أهل الجنة كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، التي نص جملة من حفاظ الحديث من أهل السنة على تواترها.
فإذا كان الإمام الحسين عليه السلام كذلك فكيف يمكن اتهامه بأنه فرَّق المسلمين، أو شقَّ عصا الطاعة، أو خرج على إمام زمانه، أو أنه طلب ما ليس له بحق، أو ما شاكل ذلك من الأباطيل التي لا يقدم على فعلها آحاد المؤمنين، فكيف يرتكبها سيد شباب أهل الجنة؟!
ثم إن من يشق عصا الطاعة أو يفسد في بلاد المسلمين يجب قتله، فلو كان الإمام الحسين عليه السلام شاقاً لعصا الطاعة الواجبة، أو مفسداً في بلاد المسلمين لكان واجب القتل، فكيف يمكن أن يكون عليه السلام سيد شباب أهل الجنة وواجب القتل في نفس الوقت؟!
هذا ما يمكن أن يجاب به عن الإشكالات التي تورد على موقف الإمام الحسين عليه السلام بنحو الإجمال، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين1.
- 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ علي ال محسن حفظه الله.