مدخل
فيما يلي نحاول إن شاء الله، أن نستعرض طائفة من مفردات الخصال القيادية والإدارية في الثقافة الإدارية في الإسلام مسندة بكلمات أمير المؤمنين عليه السلام.
1- التوكّل والتفويض والاستشارة
هذان المفهومان، مفهومان حركيان، نابعان من التوحيد، ويمنحان الإنسان قدرة فائقة وكفاءة عالية على التحرُّك في ساحات الحياة العريضة. وهما يسلبان الإنسان كلّ حالة للتردّد والضعف والخوف في العمل.
فإنّ التوكّل والتفويض يقومان على أساس حالة نفسية ثابتة ومطمئنة للعبد. وهذه الحالة النفسية المطمئنة بالله تعالى تمنح الإنسان القدرة والقوّة والمعنوية العالية في العمل.
وقد وعد الله تعالى عباده أن يكفي المتوكّلين عليه، يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾1 و(حَسْبُهُ) يعني: يكفيه من كلّ شيء فإنّ الله يكفي من كلّ شيء ولا يكفي عنه شيء.
وكفاية الله تعالى لعبده سُنّة مشروطة من سُنن الله. وهذا الشرط هو التوكّل على الله، فمن يتوكّل على الله يكفيه الله وهو حسبه. يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.
وهذا هو معنى السنن المشروطة، بخلاف السنن القطعية غير المشروطة فهي غير مرتبطة بشرط، نحو قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾2.
فإن الابتلاء سُنّة مطلقة وغير مشروطة. والتوكّل هو أحد وجهي القرار. والوجه الآخر للقرار هو (الاستشارة). وتتمّ الاستشارة في مرحلة التحضير للقرار، بالتداول والمناقشة مع أصحاب الرأي. وهذا هو الوجه الآخر للقرار.
الوجه الأوّل هو (التوكّل) في مرحلة التنفيذ والعزم. وأما الاستشارة ففي مرحلة التحضير للقرار، وهي تنفع في تنضيج القرار والتوكّل في مرحلة العزم والتنفيذ في كبح (الأنا) في مرحلة القرار والعزم والتنفيذ، وتعميق اعتماد العبد على الله تعالى وحوله وقوّته.
وعن هذين الوجهين للقرار يقول تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾3.
وعندما يتوكّل العبد على الله يعينه الله في شأنه ويسدّده ويأخذ بيده، ويذلّل أمامه العقبات الصعبة.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: “من كان متوكّلاً على الله لم يُعدم الإعانة”4.
وعنه عليه السلام أيضاً: “من توكّل على الله ذلّت له الصعاب وتسهّلت عليه الأسباب”5.
وعنه عليه السلام أيضاً: “ليس لمتوكّل عناء”6.
وعنه عليه السلام: “يا أيّها الناس توكّلوا على الله، وثقوا به، فإنّه يكفي من سواه”7.
وناهيك بذلك، فإنّ الإنسان لا يتوكّل على الله ولا يضع ثقته بالله إلّا إذا كان واثقاً بأنّ الله يكفيه من كلّ شيء، فإذا توكّل على الله بهذه الثقة والإيمان كفاه الله من كلّ شيء.
والتوكّل على الله يمنح صاحبه النور الذي يعرف به الشبهات والأخطاء فيتجنّبها. عن أمير المؤمنين عليه السلام: “من توكّل على الله أضاءت له الشبهات”8.
ولكن علينا أن نُميّز بين الصحيح والخطأ في معنى التوكّل.
الصحيح في معنى التوكّل أن يبذل الإنسان جهده في التفكير والتخطيط والاستشارة والدراسة الموضوعية والاستفادة من خبرات الآخرين وتجاربهم، ويجعل الله تعالى وكيلاً عن نفسه في تسديده وإنجازه وتجنيبه الأخطاء. وتوفيقه للنجاح… وهذا هو الصحيح في معنى التوكّل… والخطأ في تفسير التوكّل أن يترك الإنسان الأمر على عواهنه، ويقعد عن الحركة والتفكير والاستشارة والدراسة والتخطيط والنزول إلى ساحات العمل ويتوكّل على الله.
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه مرَّ بقوم أصحّاء جالسين في زاوية المسجد فقال: “من أنتم”؟ قالوا: نحن المتوكّلون قال عليه السلام: “لا بل أنتم المتأكّلة فإن كنتم متوكّلين ما بلغ بكم توكّلكم”؟ قالوا: إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا. قال عليه السلام: “هكذا تصنع الكلاب عندنا”.
قالوا: فما نفعل؟ قال: “كما نفعل”. قالوا: كيف تفعل؟ قال عليه السلام: “إذا وجدنا بذلنا، وإذا فقدنا شكرنا”9.
وقال عليه السلام لابنه محمّد بن الحنفية لمّا أعطاه الراية، يوم الجمل: “تزول الجبال ولا تزل، غضّ على ناجذك. أعر الله جمجمتك، ثبت في الأرض قدمك، ارم ببصرك أقصى القوم، وغضّ بصرك، واعلم أنّ النصر من عند الله”10.
صحيح أنّ النصر من عند الله، ولكن هذه السنّة مشروطة بالثبات والمقاومة وصلابة الموقف… عندئذٍ ينصر الله تعالى عبده. فيقول لابنه محمد: أن يثبّت في الأرض قدميه، ويرم ببصره أقصى القوم، ويتقدّم غير متهيّب ممّن يحول بينه وبين القوم.
ثمّ يقول له: واعلم أنّ النصر من عند الله، وهو جوهر الأمر والإيمان.
والتفويض أن يضع الإنسان نفسه وتصرّفه وإرادته وعقله تحت تصرّف الله تعالى، يوجّهه كيفما يريد، فيعمل بما يريد الله ويختار له. وليس معنى ذلك أن لا يُخطّط ولا يُفكّر ولا يحاول، وإنّما معنى ذلك أن يجعل تفكيره وعزمه وتدبيره وسعيه تحت تصرّف الله ليوجّه الله فكره وعزمه، كما يجب ويريد.
وأثر التفويض في حركة العبد: التسديد، والتأييد، والتبصير من الله تعالى لعبده، ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾11. وأثره في نفس العبد: الاطمئنان والثقة بالله في الحركة. فإنّ الإنسان إذا شعر بأنّ حركته وعمله من تدبير الله، وأنّ الله يتولّى تدبير أمره، ويوجّهه، ويبصّره يكتسب قوّة ومعنوية عالية في العمل.
إنّ (العمل) و(الحركة) في ساحات الحياة يمكن أن تكون سُلّماً يرفع الإنسان إلى قمم التوحيد، إذا شدّ الإنسان حركته وعمله بالله تعالى توكّلاً وتفويضاً.
ويمكن أن يكون عمله وحركته حجاباً بينه وبين الله إذا قطع حركته وعمله عن الله وشدّه بحجاب الأنا.
فإنّ الحركة والعمل بهذا الاتجاه يُصيبه بخيبة كبيرة في حال الفشل، وبنشوة الذات والأنانية في حالة النجاح. وكلاهما ضارّان.
إنّ أعمالنا في الحياة يمكن أن نُحوّلها إلى مراقي ومعارج للعروج إلى الله، وتعميق حالة الارتباط بالله والعبودية لله تعالى، ويمكن أن تتحوّل إلى حجب كثيفة، غليظة تحجب صاحبها عن الله تعالى حجاباً تامّاً.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام، كما في رواية ثقة الإسلام الكليني رحمه الله في الكافي: “الإيمان له أركان أربعة: التوكّل على الله، وتفويض الأمر إلى الله، والرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله عز وجل”12.
وهذه أربع خصال كما يقول الإمام علي عليه السلام، وهي في نفس الوقت الأركان الأربعة للمشاريع القيادية والإدارية التي ينهض بها عباد الله الصالحون.
فإنّ التوكّل على الله والتفويض إلى الله بشروطها وهو الاستشارة والتفكير والتخطيط والإعداد الصحيح يُحقّق التسديد من الخطط والمشاريع الإدارية والقيادية.
والرضا والتسليم لله يُطمئنان العبد ويبعثان في نفسه السكينة والطمأنينة، وهما أهمّ شروط القيادة والإدارة الناجحة التي تتجاوز العقبات بثقة وطمأنينة وثبات.
2- الدقة في القرار
ينبغي أن يراعي القرار عدة أمور أهمها:
العنصر الأوّل: أن يكون القرار سديداً صالحاً: ولإحراز ذلك لا بدّ من اتخاذ القرار بالتأنّي والدراسة المعمّقة والنظر في أبعاده فلا يكون القرار هشّاً سريعاً كردّ فعل للظروف الطارئة التي تستفزّ المسؤولين فتضطرّهم لاتخاذ القرار المستعجل.
بل يجب التخطيط الدقيق وإجراء مقارنة بين احتمالات الخسارة واحتمالات النجاح.
يروى أنّه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أوصني، فقال صلى الله عليه وآله وسلم “فهل أنت مستوص إن أوصيتك”؟ حتى قال ذلك ثلاثاً. وفي كلّها يقول الرجل: نعم يا رسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “فإنّي أوصيك إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإن يك رشداً فأمضه وإن يك غيّاً فانته عنه”13.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “من تورّط في أمر بغير نظر إلى عواقبه فقد تعرّض للنوائب”14.
وعنه عليه السلام قال لعبد الله بن جندب: “وقِفْ عند كلّ أمر حتى تعرف مدخله من مخرجه قبل أن تقع فيه فتندم”15.
فالقرار ليس أمراً شخصياً لكي يغامر القائد باتخاذه وتنفيذه، بل يشمل مصير الأمّة والجماعة برمّتها.
ومن هنا يأمر أمير المؤمنين عليه السلام المسؤولين بالتدبٌّر الشديد قبل الندم من التسرُّع في القرار بقوله: “التدبُّر قبل العمل يؤمنك من الندم”16.
العنصر الثاني: مشاركة الناس في القرار لكي تضمن القيادة دعمهم لها. فالحاكم المستبدّ الذي يستأثر بالقرار وينفرد به لا يكسب الناس إلى جانبه. ومن أسرار الاستشارة كسب الناس.
وهذا المعنى واضح في آية الشورى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾17.
ويذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهمية الشورى بقوله: “أما إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأمّتي، فمن استشار منهم لم يقدم إلّا رشداً، وما لم يستشر لم يقدم إلّا غياً”18.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “من استبدّ برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها”19.
فالاستشارة تحفظ الإنسان من مهالك الاستبداد، ومن أخطار الأخطاء التي تفقد ثقة الناس بقائدهم، لأنّها تُثير الشكوك حول قدرته على إدارة الأمور، وهذه الشكوك وحدها تكفي في تخريب علاقة القائد بجمهوره.
ولكن ينبغي أن نفهم أنّ الشورى لولي الأمر إذا كانت واجبة لقوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ فهي غير ملزمة لعدم وجود دليل على الإلزام، ولأن الآية الكريمة تربط التنفيذ والعمل بعزم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾20.
عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال لابن عباس وقد أشار عليه في شيء لم يوافق عليه: “عليك أن تشير عليَّ فإذا خالفتك فأطعني”21.
فإنّ القائد ينبغي أن يتداول مع أصحابه حول ما يستجد على الساحة من أحداث، ولكن تبقى وظيفته الأساس اختيار الرأي الأنسب فإذا عزم فلا بدّ أن تكون الكلمة الأخيرة له. وعلى الجميع أن يطيعوه.
العنصر الثالث: العزم والقوّة وعدم التردّد بعد مرحلة التروّي، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: “روّ تحزم، فإذا استوضحت فاعزم”22.
وعنه عليه السلام: “اعلم أنّ من الحزم العزم”23.
فلا بدّ من الحزم والعزم وهما متلازمان، فإذا ضعف الحزم ضعف العزم، وإذا اشتدّ الحزم تضاعف معه العزم.
وهذه الحقيقة يؤكّدها عليه السلام بقوله: “من قلّ حزمه ضعف عزمه”.
فلا يصحّ التردّد في التنفيذ بعد اتضاح الرؤية، بل يتوكّل على الله وحده ويقدم على العمل.
3- الحصانة بالتقوى أولاً
بالتقوى يُحصّن الإنسان نفسه من خطر الأهواء النفسية، ومن الخيانة والغش.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: “التقوى حصن حصين لمن لجأ إليه”24.
وعنه عليه السلام أيضاً: “التقوى حصن المؤمن”25.
وعنه عليه السلام: “الجأوا إلى التقوى فإنّها جنّة منيعة من لجأ إليها حضنته، ومن اعتصم بها عصمته”26.
وعنه عليه السلام: “اعلموا عباد الله أنّ التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل، لا يمنع أهله، ولا يحرز من لجأ إليه”27.
ففي التقوى إذن تحصين للمؤمن في مواقع المسؤولية من الانزلاق والسقوط ولا نعرف حصناً – بعد التوحيد – يحفظ الإنسان من مزالق الشيطان أمنع من التقوى.
ووجود التقوى في النفس يخرج الإنسان من الأزمات حينما يصل في تفكيره الإنساني المحدود إلى طريق مسدود. قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾28.
إنّها سنّة إلهية إلى خروج الإنسان من مضائق الحياة ومن ضنك العيش، وللتقوى معطيات يعدّدها أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته المعروفة حيث يقول: “فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوها، واحلولت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأسهلت له الصعاب بعد أنصابها”29.
وما أحوج القيادات إلى هذا البريق اللامع الذي يكشف لهم الظلمات، وينير لهم الطريق.
4- الحسم والقطع بعد الحزم
عن أمير المؤمنين عليه السلام: “روّ تَحزِمْ، فإذا استوضحت فاجزم”30.
ومعنى ذلك أنّ الإنسان، في موقع القيادة والمسؤولية، يجب أن يحزم كثيراً، والحزم بمعنى التروّي (التأمّل والاستيضاح والتثبيت)، فإذا تمّ له الحزم والتروّي كما ينبغي، فعليه أن يحزم ويحسم الأمر، ولا يتردّد فإنّ التردّد بعد الحزم والتروّي من الضعف.
ويلخّص أمير المؤمنين عليه السلام نجاح القادة وانتصارهم في موقع المسؤولية بكلمتين: “الظفر في الحزم والجزم”31. بمعنى أنّ الظفر يتألّف من هاتين الكلمتين: الحزم والتروّي والدراسة المتأنية أوّلاً في مرحلة اتخاذ القرار ثم الحسم والعزم والجزم والإقدام ثانياً في مرحلة تنفيذ القرار.
ويعيد الإمام عليه السلام ضعف القادة في الحسم والجزم والإقدام إلى ضعفهم في مرحلة التروّي والحزم، فيقول عليه السلام، كما في غرر الحكم: “من الحزم صحّة العزم. من الحزم قوّة العزم”32.
ومن يضعف في التروي والتثبيت والحزم يضعف في الحسم والعزم والجزم لا محالة. “من قلّ حزمه ضعف عزمه”33.
والحزم كما قلنا، التروّي، والاستشارة، والتثبيت، وعدم التعجُّل.
وقد سأل الإمام الحسن عليه السلام أباه عليه السلام: “ما الحزم”؟ قال: “أن تنتظر فرصتك وتعاجل ما أمكنك”34.
فالحزم التثبّت والتروّي وعدم التعجّل لحين العمل.
فإذا حان وقت العمل فلا بدّ من الإقدام وعدم التردّد مهما أمكن. ومن عوامل (الحزم): الاستشارة والاستفادة من خبرات الآخرين وعقولهم.
قيل لرسول الله: ما الحزم؟ قال: “مشاورة ذوي الرأي واتّباعهم”35.
فإذا استنفذ الإنسان الحزم والتروّي والتثبّت بالقدر اللازم، ثم ضعف عن الحسم والتنفيذ فإنّ ذلك من الجبن وليس من الحزم. عن الإمام العسكري عليه السلام “إنّ للحزم مقداراً فإن زاد عليه فهو جبن”36.
5- الاتزان والوقار وضبط الأعصاب في الأزمات
وهي حالة الاستقرار والثبات النفسي إزاء عوامل الإثارة الخارجية القوية التي تواجه الإنسان.
وقد ورد في خطبة المتّقين لأمير المؤمنين عليه السلام في صفة المتّقين: “في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور”.
والوقار في الزلازل، هو أن لا يهتزّ المؤمن بين يدي الحوادث التي تزلزل نفوس الناس، ويحافظ على ثباته واستقرار سلوكه النفسي ووقاره، مهما كانت هذه الزلازل.
وفي المكاره صبور، فلا يجزع ولا يغلبه الحزن.
وفي الرخاء شكور، لا يصيبه البطر والرثاء.
وليس معنى ذلك بلادة الحسّ تجاه الأحداث التي تحلُّ بالإنسان، فلا يتأثّر بها، وإنّما معناه الاستسلام الباطني الكامل لله تعالى، في كلّ ما ينزل عليه من جانب الله.
إنّه حالة الاطمئنان الكامل إلى قضاء الله وقدره، وأنّه تعالى لا يريد به في كلّ ما ينزل عليه من قضاء وقدر إلّا خيراً، وقد ورد في الدعاء: “واجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية بقضائك” فلا يجزع، ولا يخاف، ولا يحزن، ولا يقلق حيث يجزع الناس ويخافون ويحزنون ويقلقون، وهو أمر آخر غير بلادة الحسّ، كما ذكرنا، بل يتمتّع أصحابها برهافة الحسّ، بشكل كامل، ولكن سلوكهم النفسي يبقى مستقرّاً ثابتاً، لا تطرأ الانفعالات الحادّة عليه، كما تُصيب الناس.
ولا يتملّكه الموقع والمنصب، ولا يوحشه لو جرّد من كل ما أوتي من المواقع والمناصب والأموال. لا يغتر بتحشد الناس حوله ولا يوحشه انفراط الناس من حوله.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “لا يزيدني كثرة الناس حولي عزّة ولا تفرّقهم عنّي وحشة”37.
وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام لجابر بن يزيد الجعفي (رضي الله عنه): “واعلم بأنّه لا تكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك، وقالوا أنّك رجل سوء لم يحزنك ذلك، أو قالوا أنّك رجل صالح لم يسرّك ذلك”38.
6- ترك الإنسان ما لا يعنيه
الإدارة اختصاص، واعتناء، ومعنى الاختصاص أن يتفرّغ لما يختصّ به من الأمور فلا يتدخّل المسؤول الصحي في الشؤون العلمية والجامعية ولا يتدخّل مدير الجامعة في شؤون المحروقات… لكلٍّ اختصاصه في دائرة عمله، وتتوزّع الأمور على المسؤولين حسب اختصاصهم.
ومعنى الاعتناء أن يهتمّ المسؤولون بما يعنيهم، وما ينبغي أن يدخل في دائرة اهتماماتهم، فإذا تجاوز المسؤولون دائرة اعتناءاتهم وانشغلوا بما لا يعنيهم، ولا ينفعهم في دنيا ولا آخرة، تحوّلت حياتهم من إنتاج إلى استهلاك… إنّ الجهد الإداري في دائرة الاختصاص والاعتناء إنتاج، والجهد الذي يبذل خارج هذه الدائرة استهلاك، وعلى المسؤولين أن يحترزوا حالة الاستهلاك في جهودهم.
عن أمير المؤمنين عليه السلام للحارث الهمداني رحمه الله: “واقصر رأيك على ما يعنيك”39، فإذا قصر المسؤول رأيه وعمله فيما يعنيه ويهمّه (موضع الاهتمام والاعتناء في عمله، واحترز عمّا لا يعنيه، كان رأيه وعمله منتجاً، وفي غير هذه الحالة يكون رأيه وعمله من استهلاك الرأي والجهد.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه”40.
إنّ الدخول فيما لا يعني الإنسان محرقة للعمر والجهد… والإسلام يُحمّل الإنسان مسؤولية كل أيّام عمره، وكلّ جهده وشبابه، فليس له جهد فائض ولا عمر فائض يضعه في غير موضع الحاجة والضرورة.
عن أبي ذرّ رحمه الله: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ألا أُعلّمك بعمل خفيف على البدن، ثقيل في الميزان؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: هو الصمت، وحسن الخلق، وترك ما لا يعنيك”.
7- التنظيم والتخطيط
من وصية أمير المؤمنين عليه السلام لولديه الحسن والحسين عليهما السلام: “أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أموركم”.
التقوى والنظم عاملان أساسان في سلامة المجتمع.
التقوى تحصّن المجتمع من الداخل، وتحفظ حدود الله سبحانه وتعالى بين الناس، والنظم يحفظ الأولويات في العمل، ويحفظ الجهد من الإهدار، ويؤمن الحاجات الأساس في المجتمع، ويحقّق الإنتاج الكثير بأقل الجهد والزمن، ويطوّر حركة المجتمع.
والنظم مسألة ضرورية لكلّ جوانب حياة الإنسان، حتى في حياته الشخصية، ولا تختصّ بالجانب الإداري من المجتمع… وعلى المسلم أن يُنظّم حياته ووقته بين العمل والعبادة والراحة والنوم والاهتمام بشؤون البيت والعائلة حتى تنتظم حياته الشخصية.
والتخطيط نحو من التنظيم للمشاريع الكبيرة قبل البدء بها وعناصر التخطيط تُحدِّد الغايات والأهداف وتضع البرامج العملية للوصول إلى الغايات والأهداف، ضمن مراحل من العمل.
والتخطيط الواقعي الدقيق يأخذ بنظر الاعتبار دور الزمان في إنجاز المشروع والإمكانات اللازمة له والعقبات التي تعيق العمل، والطريقة الصحيحة لمواجهة العقبات…
وهذا هو معنى التدبير والعلم والحيلة على لسان النصوص الشرعية.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “يا ابن مسعود إذا عملت عملاً، فاعمل بعلم وعقل، وإيّاك أن تعمل بغير تدبير، وعلم، فإنّه جلّ جلاله يقول: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثً﴾42.41
قالوا: إن امرأة حمقاء في مكة كانت تغزل الصوف ثم تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً.
وكذلك العمل إذا لم يكن عن تدبير وتخطيط يكون هذا شأنه، نقض بعد غزل، وهدم بعد بناء.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “إمارات الدول إنشاء الحيل”43.
إن التدبير الصحيح والحيل الصحيحة تحفظ الدول وتبقيها.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً: “التدبير قبل العمل يؤمنك من الندم”44. وإنّما يندم الإنسان على جهده وعمله، حيث لا يسبق جهده وعمله التدبير والتخطيط الصحيح.
فإذا أعطى الإنسان المشروع اهتماماً في التخطيط والتدبير قبل العمل، بشكل موضوعي وعلمي، وفكّر في كل جوانب العمل لم تواجهه العقبات، إنّما يُفاجئ الإنسان بالعقبات إذا لم يُخطّط من قبل لمواجهتها، ولم يأخذها بنظر الاعتبار.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “من قعد عن حيلته أقامته الشدائد”45.
ولربما يُغني التخطيط الصحيح عن الإمكانات والآليات الكثيرة، وفي ذلك يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام: “التلطُّف في الحيلة أجدى من الوسيلة”46.
وليس من عمل ولا مشروع إلّا وقد جعل الله السبيل إليه التخطيط والتدبير السليم والحيلة المناسبة.
يقول الإمام علي عليه السلام: “لكلِّ شيء حيلة”47.
8- سعة الصدر
وهو من أهمّ الآليات الإدارية والقيادية. عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: “آلة الرئاسة سعة الصدر”48.
وسعة الصدر تعني الصبر تجاه المشاكل والتحدّيات، والسيطرة على النفس في حالات الانفعال والغضب، وفي حالات الفرح والتوفيق، والحلم، وهي حالة استيعاب للمشاكل والمتاعب والتحديات التي تواجه العاملين من ناحية الآخرين.
ومثل النفوس مثل الأواني الكبيرة التي لا تفيض ولا تضيق ولا تتلوث بما فيها، بعكس الأواني الضيّقة، فإنّها تفيض وتضيق وتنفعل بما فيها، فإذا أُلقي فيها ماء آسن، وقذر ظهر عليها… ويلقى نفس القذر، والماء الآسن في البحر والنهر، لا يبقى منه أثر بعد لحظات، ويستهلكه ماء البحر… وكذلك شأن الصدور الواسعة تستهلك حالات الغضب والانتقام والانفعال، رغم وجود الإثارة القوية والشديدة.
وكما تقاوم الصدور الواسعة عوامل الغضب والانتقام والانفعال، وتواجهها بالصبر والحلم، والتعقُّل، فلا يطفح عليها، ولا تتأثّر بها، كذلك تقاوم عوامل الانفعال من النوع الآخر، وهي الانفعال تجاه التوفيق والنجاح والفوز، فلا يغلبهم الفرح والحبور، وما يجر إليه من البطر والرئاء عادة، فإنّ وعاء النفوس والصدور إذا اتسعت لا تضيق بهذا ولا ذاك، وتستوفي كلّاً منهما، وهاتان الخصلتان وجهان لحالة واحدة، وهي حالة شرح الصدر.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “لا تكن عند النعماء بطراً، ولا عند البأساء فشلاً”49.
قد دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة فاتحاً، ويكاد رأسه يمس قربوس فرسه، تواضعاً لله سبحانه وتعالى، لم ينفعل، ولم ينتقم، ولم يظهر عليه من أمارات الفتح العظيمة، غير الشكر لله، والتواضع لله، والاعتراف لله تعالى بالجميل فيما أعطاه.
وهذه الخصلة في نفوس المؤمنين هي التي يسميها القرآن بـ (شرح الصدر).
ويَمُنّ الله تعالى به على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في المراحل الأولى من الأمر بتبليغ الرسالة، فيقول تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾50، والوزر: ثقل المسؤولية الذي ينقض ظهور المسؤولين…
ويَمُنّ الله تعالى على عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآيات بأمرين: شرح الصدر، وتخفيف ثقل العادة والعذاب والمسؤولية عنه، وهو ما تعبّر عنه الآية الكريمة بـ ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾، وبينهما فرق.
وشرح الصدر هو أن يوسع الله تعالى وعاء صدور عباده لتستوعب المشاكل والتحديات بالصبر والحلم. والأمر الآخر تيسير الأمر، ﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾51: هو تخفيف ثقل العمل على المؤمنين العاملين.
وفي مقابل (سعة الصدر): ضيق الصدر، وهي حالة من الضيق، وعدم الاستيعاب تنتاب الإنسان في السراء والضراء معاً، تجعله عرضة للانفعالات المختلفة كالبطر والرئاء، والتعجُّل، والانتقام، والتعب، واليأس، وضيق النفس والغضب… وهذه الحالات تسلب المسؤولين القدرة على إدارة الموقف، وهي حالة ضارّة في إدارة الأعمال الكبيرة منها والصغيرة، حتى داخل العوائل، وفي الأسواق، وفي العلاقات الاجتماعية المحدودة. وقد روي في هذا المعنى عن أمير المؤمنين عليه السلام: “إنّما الحليم من إذا أُوذي صبر، وإذا ظُلِم غفر”52.
وأبلغ ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المعنى هو ما أشرنا إليه سابقاً: “ولا تكن عند النعماء بطراً، ولا عند البأساء فشلاً”53.
وهذه الكلمة تُحدّد حالة سعة الصدر، والقدرة على الاحتواء والاستيعاب من بعدين: في البأساء والضراء، فلا يسرع إليه الفشل والعي والعجز والضعف في البأساء، ولا يسرع إليه البطر والسرور والحبور في النعماء.
9- عدم إضاعة الفرص
عن أمير المؤمنين عليه السلام: “الفرصة تمرّ مرّ السحاب فانتهزوا فرص الخير”54.
فإذا سنحت للإنسان الفرصة فعليه المبادرة قبل أن تفوت، وهذه الفرصة قد تكون في إقبال القلوب على الله تعالى في العبادة والدعاء والصلاة، وليس دائماً تُقبِل القلوب على الله، فإذا وجد الإنسان في نفسه إقبالاً على الدعاء والصلاة والذكر والاستغفار، فعليه أن يُبادر إلى ذلك، قبل أن تفوته حالة الإقبال، وتغلبه حالة الانقباض.
كذلك في المشاريع الثقافية والسياسية والاقتصادية والتبليغية قد تمرّ على المؤمنين فرصة من فرص العمل لا تدوم ولا تتكرّر، فعليهم المبادرة بانتهاز الفرصة قبل أن تمرّ الفرصة.
لقد عاش الإمام الباقر عليه السلام فترة ضعف بني أمية، وعاش الإمام الصادق عليه السلام فترة انتقال السلطة من بني أمية إلى بني العباس، فانتهزا هذه الفرصة أفضل الانتهاز ونشرا ثقافة أهل البيت عليهم السلام ومعارفهم نشراً واسعاً، وانتشرت منذ ذلك الحين معارف أهل البيت عليهم السلام في الأوساط العلمية الإسلامية انتشاراً واسعاً.
وللإمام علي عليه السلام كلمة في هذا الأمر ينبغي أن نتوقّف عندها بعض الشيء: “من الخُرق المعاجلة قبل الإمكان، والأناة بعد الفرصة”55.
من السفه والخطأ أن يستعجل الإنسان الأمور قبل أوانها، ومن السفه والخطأ أن يتوانى الإنسان عن المبادرة بعد حصول الفرصة. ذلك الاستعجال وهذه الأناة كلّاً منهما خُرق وخطأ.
10- صفة الأناة
هي حالة غير (الحزم) إلّا أنّها تلتقي بالحزم، وحقيقة الأناة: عدم التعجّل.
وما يُصيب الناس من التعجّل والاستعجال يكون في أمرين: في البدء بالعمل قبل أوانه، والبدء بالعمل قبل أوانه يفسد العمل، كمن يزرع في غير الموسم، ولكلّ مشروع ولكلّ عمل ظرفه الخاص، فإذا دخل صاحبه في المشروع في غير ظرفه أفسد على نفسه المشروع وأحبط عمله.
وأكثر ما يُصيب الإنسان الإحباط في الأعمال السياسية والثورية وفي حركة المعارضة السياسية وفي المشاريع الحركية لهذا السبب… فقد ينجح قائد في تحريك الشارع وإثارة الناس للاعتراض والثورة على نظام فاسد، ويتحرّك معه الشارع، ويُحقّق ما يريد… وقد يتحرّك آخر فلا يستطيع أن يصنع شيئاً، ولا يُحرّك ساكناً في الشارع… والفرق الزمن والظرف… ولو تأنّى الثاني ودرس الظروف الموضوعية للثورة لم يواجه الإحباط، فإنّ للثورة ضدّ أيّ نظام فاسد ظرفها الخاص، فإذا بدأ بها قبل ظرفها لم تنجح الثورة.
ولكن ليس معنى ذلك الخلود إلى الراحة، والاستكانة للنظام الفاسد، وإنّما معنى ذلك ترحيل الاعتراض والثورة والحركة ضمن مراحل من العمل والإعداد والتحضير لها.
وهذه هي الأناة الأولى في العمل، انتظار الظرف الزمني المناسب، وترحيل العمل ضمن مراحل، وليس الركون والسكون والسكوت.
وعن هذه الأناة يقول أمير المؤمنين عليه السلام – كما في الرواية -: “إيّاك والعجلة قبل أوانها”… ومعنى الكلمة: انتظار الوقت والظرف المناسب للعمل وعدم التعجيل في العمل، وترحيل العمل والتخطيط له ضمن مراحل.
والأناة الثانية: الأناة في جني الثمار… وكما يضرّ التعجّل الأوّل، يضرّ التعجّل الثاني… فمن يريد أن يقتطف الثمرة قبل أوانها يقتطفها فجّة، وعندئذ يُصيبه الإحباط، ولو أنّه تأنّى في اقتطاف الثمرة إلى أوان نضجها لم يلحقه هذا الإحباط.
وعن هذه الأناة يقول أمير المؤمنين عليه السلام – كما في الرواية -: “من تأنّى أصاب ما يتمنّى”56.
إنّ الذي يتأنّى في إنجاز النتائج لوقتها يُحقّقها بأفضل الأشكال. ومهما يكن من أمر فإنّ للزمن وظروف العمل دوراً في البدء بالعمل وترحليه واستنجاز النتائج المطلوبة منه، ومن يتجاوز (الزمن) يواجه حالات الإحباط كثيراً… وسوف يأتي الحديث عن هذه النقطة تحت عنوان آخر.
11- البشاشة والبشر
عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيّته للأشتر (رضوان الله عليه): “واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك”.
وفي وصيّته لعبد الله بن عباس، وكان عامله على البصرة: “سع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك”.
إنّ على المسؤولين والحكام أن لا يحجبوا الناس عن أنفسهم، بالبشر والبشاشة وانبساط الوجه، ولا يقابلون الناس بوجوه منقبضة.
والإمام يوصي الأشتر رحمه الله في وصيته: أن يخفض للرعية جناحه، فلا يستعلي عليهم، ويبسط لهم وجهه، فلا يُقابلهم بالانقباض.
وفي وصيّته لعبد الله بن عباس يوصيه أن يسع الناس في ثلاث: في مجلسه، ووجهه، وحكمه، فلا يضيق مجلسه بالعامة من الناس (الجمهور) ولا ينتقي لمجلسه النخبة، وإنّما يفتح مجلسه لعامّة الناس في مواعيد منتظمة، وهذه هي التوسعة الأولى.
والتوسعة الثانية: أن يسعهم بوجهه، والتوسعة بالوجه من أفضل أنواع التوسعة، فلا يقبض وجهه في لقائهم، ولا يُشعر الناس بالتضايق منهم، والوجوه تنطق للناس بالتوسعة والتضييق.
وإذا وجد المسؤول من أسباب الانقباض شيئاً في نفسه فعليه أن يحفظ الانقباض والحزن لنفسه، ويتعلّم أن يُظهِر للناس البشر والبشاشة، ويحتفظ لنفسه بالحزن والهموم.
يقول الإمام علي عليه السلام في خطبة المتّقين المعروفة في وصف المتّقين: “حزنه في قلبه وبشره على وجهه”.
وفي كلمة أخرى مروية عنه عليه السلام في هذا السياق: “إنّ بشر المؤمن في وجهه، وقوّته في دينه، وحزنه في قلبه”57.
والتوسعة الثالثة في الحكم، فلا يضيق حكمه عن عامة الناس وجمهورهم، وإنّما يعمّ عدله وحكمه الجميع، ويؤثر رضا العامة على رضا الخاصة في الحق… وهذا هو كلام الإمام عليه السلام: “سع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك”.
12- الرأي بين التسرُّع والعجب
الرأي من ضرورات الإدارة، والمدير الذي لا يملك الرأي في دائرة مسؤوليته لا يستطيع أن يُمارس الدور الذي يقع على عهدته.
ولكن الرأي يتعرّض لآفتين كبيرتين، يجب أن يبرأ عنهما المسؤول ويتخلّص منهما:
الآفة الأولى: العجب، فإنّ العجب يُفسد على الإنسان رأيه، ويُفقده الرشد والصواب… ولعلّ من أسباب العجب بطانته الذين يُقرّبون له ذلك ويحسّنون له مواقع رأيه، ولا يجرحونه بالنقد.
وهذه الحالة تُفسد على المسؤولين رأيهم، وتوقعهم في تخبُّط كبير. عن أمير المؤمنين عليه السلام: “رضاك عن نفسك من فساد عقلك”58.
وعنه عليه السلام أيضاً: “من أُعجب بحسن حالته قصّر عن حسن حيلته”59. إنّ العجب يُفسد على الإنسان الرأي والحيلة. وأكثر عوامل العجب لدى المسؤولين، البطانة المغالية والمتملّقة.
وكما يجب على المسؤول أن يتوقّى العجب برأيه، يجب عليه أن يستمع إلى الرأي الآخر، ويحترمه، فلربما شخص تزدريه العيون، يُقدّم إليه رأياً جديراً بالاهتمام والتأمّل.
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: “لا يصغرنّ عندك الرأي الخطير إذا أتاك به الرجل الحقير”60.
والآفة الأخرى للرأي: التعجّل والتسرُّع في الرأي، وفي مقابل التعجّل والتسرُّع، الحزم، وهو التروّي والتأمّل قبل اتخاذ الرأي والقرار.
وبقدر ما يُفسد التعجُّل والتسرُّع الرأي على صاحبه فإنّ عدم الحزم يؤدّي إلى تعطيل القرار، وهو من الضعف والعجز… وقد قال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾61.
والعزم لا يكون إلّا بالحزم، فإذا تمّ للإنسان كان عليه أن يتوكّل على الله ويمضي في عمله. ولا يسمح لنفسه التردّد في القرار بعد أن اكتملت لديه أسبابه.
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: “إذا هبت أمراً فقع فيه، فإنّ توقّيه أعظم ممّا تخاف منه”62.
13- دور الزمان في الإدارة الصالحة
الإدارة الصالحة تأخذ الزمان بنظر الاعتبار… والزمان ليس وعاءً للتاريخ والأحداث والأعمال فقط، وإنّما هو من مقوّمات التاريخ والأعمال والأحداث أيضاً… فلربّ مشروع يفشل في زمان فشلاً ذريعاً، ونفس المشروع بنفس المواصفات ينجح في زمان آخر، والفارق الزمان.
ولذلك نعتقد أنّ تشخيص الزمان من العناصر والشروط المقوّمة للإدارة الصالحة.
والزمان ثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل… ولكلٍّ منها دور في الإدارة الصالحة.
إنّ الماضي لا يجوز إلغاؤه، بأيّ نحو في أيّ مشروع ثقافي، أو سياسي، أو حركي، أو تجاري، أو عمراني، أو جهادي وغير ذلك.
فقد يحمل الماضي من عوامل الإخفاق ما يؤدّي إلى إحباط المشروع في الحال الحاضر، في نفوس الناس… وقد يحمل الماضي من الأخطاء ما يجب على الإدارة الصالحة تصحيحها قبل البدء بالعمل في الحال الحاضر.
إنّ الحوادث المختلفة المسرّة والمؤسفة والأخطاء والإخفاقات، والنجاحات التي تمّت في الماضي تلقي بظلالها على الحاضر لا محالة.
وعليه، يجب أن نأخذ الماضي والتاريخ بنظر الاعتبار في أيّ مشروع حاضر أو مستقبل.
أمّا معرفة الحاضر (الحال) فله دور أساس في نجاح العمل وفشله… والقيادة الصالحة الناجحة هي التي تضع المشاريع في الظرف المناسب، والوعاء الزمني المكافئ للعلم… فلربّ مشروع يخفق في زمان، وينجح في زمان بنفس المقوّمات، وليس الفارق المشروع فهو واحد، وإنّما الفارق الزمان… فإنّ الزمان قد يكون من عوامل الإخفاق، وقد يكون من عوامل الإنجاح… والمدير الناجح هو الذي يُشخِّص الظرف الصالح لأداء العمل.
وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: “العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس”63.
والمعرفة الدقيقة للزمان وتشخيص الظرف الصالح للعمل نحوٌ من البصيرة الإدارية، والبصر بالأحداث.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “على العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه”64.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “حسب المرء من عرفانه علمه بزمانه”65.
وأمّا المستقبل، فهو امتداد للحاضر… وإذا كان وعاء الحاضر صالحاً لإدارة المشروع، فقد يحمل وعاء المستقبل من عوامل الإخفاق ما يغيب عن صاحبه… وقد يُقبل الناس على مشروع ثقافي أو سياسي أو إنساني، أو اقتصادي، ثم يُصيب الناس في المستقبل إرهاق وتعب، ويؤدّي ذلك إلى إحباط المشروع، وعامل الإحباط يكمن في المستقبل، وليس في الحاضر ولا في الماضي، والإدارة الناجحة يجب أن تأخذ بنظر الاعتبار الاستعداد لعوامل الإحباط والإخفاق في المستقبل من الآن.
روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المعنى: “من عرف الأيّام لم يغفل عن الاستعداد”66.
إنّ الاستعداد لعوامل الإحباط والإخفاق التي يتضمّنها المستقبل يجب أن يكون من الآن. وللزمان دور واضح في تغيير المناهج والأساليب.
صحيح أن الشريعة مجموعة من الثوابت التي لا تتبدّل ولا تتغيّر في الظروف الزمانية المختلفة… ولكن ذلك في ثوابت الشريعة وحدود الله، وفرائض الدين، أمّا الأساليب والوسائل والمناهج التي لا تدخل في ضمن الثوابت والحدود الشرعية، فهي قابلة للاختلاف والتغيير، تبعاً للظروف والزمان.
وهذه نقطة دقيقة، ومن الخطأ أن نسحب نظام التغيير والاختلاف على ثوابت الشريعة، ومن غير الصحيح أن نثبت في جملة من الوسائل والمناهج، كالمناهج والوسائل التربوية مثلاً، على نهج ثابت.
وقد روي في هذا المعنى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: “لا تقسروا أولادكم على آدابكم، فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم”.
إنّ للزمان دوراً لا محالة، في اختلاف أساليب التربية والتعليم، ومناهجهما.
إنّ عناصر التربية والتعليم تبقى هي هي في كلّ العصور من الثوابت التي لا تتغير، ولكن الأساليب تختلف… ومن الخطأ أن نقسر أبناءنا وبناتنا، على نفس الأساليب التي كان يتعامل بها معنا آباؤنا وأمهاتنا.
عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: “من أمن الزمان خانه، ومن تعظّم عليه أهانه، ومن ترغّم عليه أرغمه، ومن لجأ إليه أسلمه، وليس كلّ من رمى أصاب، وإذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان”67.
وحريٌّ بنا أن نُطيل الوقوف عند هذه الكلمة العلوية القيمة، التي تحمل معاني ومعارف جمّة، لولا أن الوقت والفرصة لا تسعنا.
في هذه الكلمة نتوقّف عند مجموعة من النقاط يشير إليها الإمام علي عليه السلام: “من أمن الزمان خانه”: يُخطأ الإنسان خطأً فادحاً إذا تصوّر أنّ الزمان هو الزمان، لا فرق، فيُقْدِمُ على عمل، نجح فيه غيره، فيقتحمه من غير احتساب عامل الزمان، فيخونه الزمان، ويفشل.
يقول الإمام علي عليه السلام في هذا المعنى: “من وثق بالزمان صُرِع”68.
كمن يجد غيره يمشي على ماء ضحل ويعبره، فإذا وجد ماءً تصوّر أنّ الماء هو الماء فيقتحمه فيخونه الماء، فيقع في وحل وغرق… كذلك الزمان.
إنّ الزمان يختلف عن الزمان، والزمان ذو غِيَر، ومن أمن غِيَر الزمان خانه، فيسقط ويفشل، ولا بدّ قبل أيّ عمل من دراسة حال الزمان، الذي يُقدّم فيه الإنسان على العمل.
ثم يقول عليه السلام: “ومن تعظّم عليه أهانه”، وليس لأحد أن يحتقر الزمان، ويتعظّم عليه، ويجازف، ويقدم، من غير احتساب دور الزمان في العمل، والذي يجازف، ويقدم، مستهيناً بالزمان يهينه الزمان، ويحتقره، ويتجاوزه… يقول الإمام علي عليه السلام في هذا المعنى: “من كابر الزمان عطب”69.
ثم يقول عليه السلام: “ومن ترغّم عليه أرغمه”. وكما ليس للإنسان أن يتعظّم على الزمان ويحتقره، ويتجاوزه، كذلك ليس له أن يرغم الزمان، على ما لا يستجيب له… فإن الزمان يحكم الإنسان، ولا يحكم الإنسان الزمان، ومن حاول أن ينفلت من قبضة الزمان، بإرغام الزمان على ما لا يستجيب له، أرغمه الزمان…
إن حتمية الزمان من الحتميات القاهرة في التاريخ.
يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام في هذا المعنى: “من عاند الزمان أرغمه”70.
نعم، من الممكن أن يعالج الإنسان الزمان، فيجعل من الزمان الشؤم زماناً مباركاً، ومن الزمان الصعب زماناً سهلاً، ومن عصر الدكتاتورية والاستبداد السياسي، عصراً للثورة على الظالمين، ولكن هذا علاج وتوجيه وتعديل للزمان، وليس إرغاماً ولا احتقاراً للزمان… والعلاج والتعديل غير المكابرة.
ولكلّ من مكابرة الزمان والتحكّم عليه وعلاجه، أحكام وظروف خاصة ليس موضعه الآن.
ثم يقول عليه السلام – كما في الرواية -: “من لجأ إليه أسلمه”.
ليس معنى ما تقدّم من النهي عن ائتمان الزمان ومكابرته ومراغمته، أن يلقي الإنسان نفسه في أحضان الزمان ويستسلم له، ويأخذ بمقتضيات الزمان، مهما كان، خيراً أو شراً، ضعفاً أو قوّة، فإنّ هذا السلوك المتلوّن مع الزمان هو الحالة الانتهازية التي ينهى عنها الإسلام. إنّ علينا أن نفهم الزمان ونعالجه ولا نأتمنه ولا نكابره ولا نراغمه، وعلينا أيضاً أن نحذر من ركوب الزمان، وأن نتطبّع بمتطلّبات الزمان، فإنّ من توحي إليه نفسه أن يركب موجة الزمان، ويعمل بمقتضاه، مدحاً أو ذماً، إيماناً أو كفراً، هزيمة أو مقاومة، حبّاً أو بغضاً، طاعة أو تمرّداً… أقول: إنّ من يستسلم لحكم الزمان، ويركب الموجة، يسلمه الزمان إلى الموجة، ويتحوّل الإنسان عندئذٍ من عامل مؤثّر في التاريخ إلى خشبة عائمة على موجه الزمان… وفي هذا المعنى يقول الإمام علي عليه السلام: “من عاند الزمان أرغمه، ومن استسلم إليه لم يسلم”71.
وبين معاندة الزمان ومراغمته، وبين الاستسلام المذلّ للزمان، يجب أن يقف المؤمن موقفاً وسطاً في التاريخ والمجتمع، وهو موقف دقيق، لا يسعنا الوقت لشرحه أكثر من هذا الحدّ.
ثم يقول عليه السلام: “وليس كلّ من رمى أصاب”.
فقد يرمي أحد ويُصيب، وقد يرمي آخر فيُخطئ، وليس الفرق في الرمي والاستهداف، وإنّما الفرق في الزمان. فقد يرمي أحد في زمان، فتصيب الرمية، ويرمي آخر في زمان آخر، فلا تصيب الرمية.
إنّ إهمال عامل الزمان من أكبر أخطاء الناس ومن لا تُصيب رميته، لا يُعاتب الزمان، ولا يُعاتب حظّه، فليس القضية في الحظّ ولا في الزمان، وإنّما عليه أن يراجع حساباته في تشخيص الزمان، حتى يعرف متى يرمي ومتى يكفّ عن الرمي؟ ومتى يتحرّك ومتى يكفّ