بسم اللّٰه الرَّحمٰن الرَّحيم
بقلم: زكريَّا بركات
7 يوليو 2022
بالرَّغم من امتلاك الأمَّة الإسلاميَّة لمقوِّمات النهوض والتطوُّر، من وجود القرآن الكريم وتعاليم الأنبياء والأوصياء والأولياء، بالإضافة إلى مخزون الثَّروات الطبيعيَّة في البُلدان الإسلاميَّة، إلَّا أنَّ النهوض والتطوُّر حصلا في عالم الكفر، بينما بقيت الأُمَّة الإسلاميَّةُ رهينةَ التخلُّف والفقر.. فما هو السببُ في ذلك؟
هذا السؤال يمثِّل منطلقاً للشَّكِّ عند ضعاف العقول ومرضى القلوب في حقَّانية دين الله تبارك وتعالى، ويقولون: لو كان الدِّينُ حقًّا فما بال المتديِّنين في تخلُّف، بينما الَّذين كفروا بالدِّين في تطوُّر وازدهار؟
وثمَّةَ إجابةٌ معروفة عن هذا السؤال تتلخَّص في أنَّ السبب في ذلك هو أنَّ المسلمين لم يعملوا بما في كتاب ربِّهم وسنَّة نبيِّهم وتعاليم أئمَّتهم وتوصيات أوليائهم.
وهي إجابة صحيحة، ولكنَّها تحتاج إلى بسط وتوضيح مُقنعين؛ لأنَّ كثيراً من المسلمين يفهمون الكتاب والسُّنَّة بوصفهما منظومتَي أحكام عقديَّة وعباديَّة وأخلاقيَّة، ولذلك يتبادر إلى أذهانهم التساؤلُ عن عَلاقةِ التطوُّر ـ بمختلف مجالاته التقنيَّة والاقتصاديَّة وغيرها ـ بأحكام دينيَّة مُعيَّنة.. ولئن كان ذلك صحيحاً فكيف تطوَّر الغربُ وازدهر بالرَّغم من كُفره بهذه القيم الدينيَّة؟
لذلك ينبغي لنا إعادة صياغة الإجابة الصحيحة الوافية بالشكل الذي يسدُّ بابَ التساؤلات ويكوِّن التصوُّرَ السليمَ المُحكَمَ للموضوع.
والإجابة ـ ومن الله التوفيق ـ في البيان التالي:
إنَّ الله تعالى أنزل الكتاب على قلب نبيِّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأوكل مهمَّة بيانه وتوضيحه إلى النبيِّ (ص) نفسه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: 44] ، كما أوكل إليه مَهمَّة التربية والتعليم والتزكية في ظلِّ نور القرآن الكريم: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [آل عمران: 164 ، الجمعة: 2] ، ولذلك كان النبيُّ (ص) هو الذي يُخرج النَّاسَ من الظُّلمات إلى النُّور: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم: 1] ، ثمَّ جعله (ص) وليَّ أمرهم وفرض طاعته عليهم، فقال: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب: 6] ، وقال: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) [النساء: 80] ، وقال: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور: 54] .
يتَّضح من ذلك أنَّ قيادة الأمَّة في كلِّ المجالات كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد بدأ الاقتصادُ في زمان رسول الله (ص) يزدهر بالتَّدريج، وتحسَّنت الظروف المعيشيَّة للناس، كما تحسَّن الوضعُ الأمني، وتمدَّدت الحكومة الإسلاميَّة واكتسبت مزيداً من التوسُّع والعزَّة والمَنَعة.
وكان لا بدَّ لهذا الازدهار أن يستمر في تمدُّده إذا خَلَفَ النبيَّ (ص) خلفاءُ يتَّصفون بكفاءة النبيِّ (ص) العقليَّة والروحيَّة والعلميَّة، ولذلك جعل اللهُ تعالى الولايةَ والطاعةَ لأُناس مخصوصين في هذه الأمَّة بعد رسول الله (ص) ، فقال الله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [المائدة: 55] ، وقال: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59] ، ووعد اللهُ تعالى عبادَهُ بالغلبة والنَّصر إذا التزموا بهذه الولاية، فقال: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 56] ، ووردت في القرآن والسُّنَّة إشارات ونصوص واضحة في التعريف بأولي الأمر بعد رسول الله (ص) لا يتَّسع المجال ـ هنا ـ لذكرها وتفصيلها.
ونظراً إلى أنَّ الخروج من هذه الولاية وترك الطاعة للنبي (ص) وخلفائه، والوقوع في ولاية أعداء الأمَّة من اليهود والنصارى، هو الخطر الذي يمكن أن يقضي على الازدهار والتطوُّر للأمَّة الإسلاميَّة ويُعيدها في أسر الذُّل والتخلُّف، نهى اللهُ تعالى في كتابه عن ذلك فقال: (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) [المائدة: 51] ، وعدَّه ـ في الآية نفسها ـ من الظُّلم الَّذي يوجبُ حرمانَ الإنسانِ من هداية الله تعالى: (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، واعتبر المرضَ القلبيَّ هو السبب في التسرُّع إلى ولاية اليهود والنصارى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) [المائدة: 52] ، وعدَّ موالاة الكافرين سمةً بارزةً في سلوك المنافقين: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء: 139] .
وبالرَّغم من أنَّ المسلمين ـ بمختلف فرقهم ـ اتَّفقوا على رواية النصِّ النبويِّ القائل: (لا يزال الدِّينُ عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة) [صحيح مسلم برقم: 1821] ، ممَّا يعني أنَّ العزَّة والمنعة مرتبطة بخلفاء رسول الله (ص) الاثني عشر، إلَّا أنَّ الأحداث التي جرت بعد وفاة رسول الله (ص) أدَّت إلى إقصاء هؤلاء الوُلاة، واستبدال نظام الحكم المقرَّر من قبل الله تعالى بنظام آخر.. ممَّا أدَّى بالتدريج إلى انقلاب الأوضاع وتردِّي الواقع باتِّجاه الأسوأ.. حتى تولَّى الحكمَ طغاةٌ فجرةٌ من بني أميَّة وبني مروان وبني العبَّاس وغيرهم.. ممَّا أدَّى إلى اتِّجاه الأمَّة الإسلاميَّة إلى مزيدٍ من التخلُّف والفقر في ظلِّ التمزُّق والحروب الداخليَّة والفتن المستمرَّة.. وبمرور الزمن بدأت الدولةُ الإسلاميَّة تتفكَّك وتنحسر، وتفقد مقوِّمات عزَّتها وكرامتها أكثر فأكثر..
حتى بدأت قُوى الكفر الغربيِّ تُفكِّر في كيفيَّة الانقضاض على هذه الأمَّة المتهرِّئة المتفكِّكة والقضاء على ما تبقَّى لها من قوَّة متهالكة، في سبيل سرقة ما تمتلكه الأمَّة الإسلاميَّة من خيرات وثروات، وتوظيف ذلك لبناء حضار كفرية غربية، وهكذا كان.
وبدأ الاستعمارُ الغربيُّ يغزو البلدانَ الإسلاميَّةَ، ويقتضم منها ما يحلو له، وينهبُ الثَّرواتِ والخيراتِ.. ولم يتمكَّن المسلمون من المقاومة والصمود، فوقعوا في ذُلِّ الاستعمار..
وحين فكَّر المسلمون في الجهاد والثورة، تمكَّن الغرب من خداع الثائرين وشراء مشروع الثورة، وانسحب الغرب الكافر من البلدان الإسلاميَّة تحت عنوان (الاستقلال) الوهميِّ، بعد أنَّ زرع العملاء والخونة وجعلهم رؤساء على تلك البلدان.. وتمكَّن ـ عن طريق ذلك ـ من أن يفرض سيطرةً كاملةً على بُلدانِ المسلمين من خلال حُكَّام يدينون للغرب الكافر بالولاء الكامل.
وعَمِلَ الحكَّامُ العُملاء والمنافقون على فرض التبعيَّة على الشعوب المستضعفة والفقيرة في البلدان الإسلاميَّة لصالح الغرب الكافر، ليستمرَّ نهبُ ثروات المسلمين لصالح بناء الحضارة الغربيَّة، مع الإبقاء على المسلمين في سُبات التخلُّف والجهل والفقر من خلال الهيمنة التي فرضوها بقوَّة الحديد والنَّار عبر عملائهم الذين يحكمون بلدان المسلمين.
وفي هذا المجال قُتل الكثير من المفكِّرين الإسلاميين، أو اعتقلوا وعُذِّبوا، أو نُفوا من بلدانهم، أو تمَّت عمليات شراء العقول لتهجيرها إلى حيث تخدم الغربَ الكافرَ.. كلُّ ذلك من أجل أن يبقى المسلمون متخلِّفين، لا يتمكَّنون من التطوُّر والازدهار، بينما يتغذَّى الغرب الكافر على دمائهم وثروات أراضيهم وخيرات بلادهم.
وفي هذا السياق كانت ثورةُ الإمام الخمينيِّ (رض) أعظم تغيير أعاد الأمور إلى نصابها، وحرم الغربَ الكافرَ من السيطرة على بُقعة حسَّاسة جدًّا من الوطن الإسلاميِّ الكبير.. وبعد تضحيات عظيمة ودماء زكيَّة وقوافلَ من الشُّهداء، نجحت الجمهوريَّةُ الإسلاميَّةُ في إيران بإعادة الأمل والعزَّة والكرامة، وبدأت إيرانُ تزدهر برغم الكثير من المعاناة بفعل الحرب التي فُرضت عليها من قبل الأنظمة العميلة للغرب الكافر، ثمَّ بفعل آلاف المكائد التي منها الحصار الاقتصادي واحتجاز الأرصدة في بنوك الاستكبار العالمي.
من جميع الحقائق المذكورة آنفاً (بشكل مختصر جدًّا) يتبيَّن أنَّ التخلُّفَ الَّذي يُعاني منه المسلمون في مختلف الأصعدة، هو نتيجة مخالفة الأمَّة الإسلاميَّة لتعاليم القرآن والسنَّة في مجال الولاية بالخصوص، فقد خرجت الأمَّة من ولاية الله وولاية رسول الله (ص) وولاية خلفاء رسول الله (ص) ، ودخلت في ولاية الكفَّار، أو فُرضت عليها بالقوَّة، وتمَّ استعبادُ الأمَّة واستعمارُها ونهبُ ثرواتها من قبل الغرب الكافر الذي فرض على الأمَّة الإسلاميَّة حُكَّاماً منافقين يدينون للغرب الكافر بالولاء، ويحرصون على تقييد المسلمين في قيود التبعيَّة للغرب الكافر، وتوظيف جميع الإمكانيَّات والثَّرَوات لرفد الغرب الكافر بالقوَّة والازدهار مع الإبقاء على المسلمين في أسر الذُّلِّ والمهانة والتبعيَّة والانقسام والتشرذُم.
فالحصيلة أنَّ سبب تخلف المسلمين يكمن في أمرين:
1 ـ تَرْكِ المسلمين ولايةَ من أمر اللهُ بولايتهم، ودخولِهم في ولاية اليهود والنصارى.
2 ـ عَمَلِ الكفَّار من اليهود والنصارى على إبقاء المسلمين في التخلُّف والانقسام وتسليطهم الحُكَّام العملاء المنافقين على رقاب المسلمين ليتسنَّى للكفَّار نهبُ ثروات المسلمين والازدهار على حسابهم.
هذا، على أنَّ ثمَّةَ خطأً تتضمَّنه عبارةُ (تخلُّف المسلمين) يلزم تصحيحه؛ ذلك أنها توحي بأنَّ المسلمين متخلِّفون جميعاً، وأنهم متخلِّفون في جميع المجالات، وفي جميع الأزمنة والبلدان، وهو ما يحتاج إلى تصحيح وإعادة مراجعة، فالصحيح أنَّ المسلمين كانوا سبَّاقين في جملة من المجالات بقدر ارتباطهم واستمدادهم من تعاليم الأنبياء والأوصياء والأولياء، وفي جملة مُهمَّة من المجالات، ولئن حصل التخلُّف فقد كان واقعاً عاشته الأمَّة في مجالات خاصَّة، وفي أزمنة خاصَّة بقدر ابتعادها من ذلك الارتباط والاستمداد الصحيح، وبقدر قبولها لسيطرة الطُّغاة والمستعمرين على مرِّ التاريخ وبالخصوص المستعمرين القادمين من الغرب الكافر وعملائه المنافقين الذين حكموا بلدان المسلمين لفترات زمنية طويلة.
وفي هذا اللَّيل الحالك من الجهل والتخلُّف والخنوع، بقي جماعة من الأئمَّة المعصومين ونخبة من أتباعهم الصالحين من العلماء والصلحاء إشعاعاً للعلم والفضيلة والاستقامة والثورة، وكانوا على مرِّ التاريخ يقدِّمون أنضج الإسهامات والنماذج العلميَّة والعمليَّة مع أسمى التضحيات في سبيل النهوض بهذه الأمَّة في مختلف المجالات، وقد نجحوا في ذلك نجاحاً عظيماً يتطلَّب الحديث عنه إطالة لا تتناسب مع مقالتنا هذه.
كما إنَّ عبارة (تخلُّف المسلمين) تتضمَّن ـ أيضاً ـ إيحاءً بأنَّ الغرب الكافر لم يكن متخلِّفاً يوماً، أو إنَّه تخلَّص من التخلُّف وتقدَّم وتطوَّر على جميع الأصعدة.. وهو إيحاءٌ خاطئ أيضاً وينافي الواقع الملموس للمجتمعات الغربية الكافرة التي قامت حضارتها ـ أوَّلاً ـ على سرقة المخطوطات والعلم والعقول من المسلمين وغيرهم، كما إنَّ حضارة الغرب الكافر عبارة عن دعاية إعلانيَّة خدَّاعة لا يمكن التصديق بها لمن يحيط علماً بما تسبَّب فيه الغربُ الكافرُ من مآسٍ وحروب ودمار للبشريَّة حتَّى في النِّطاق الجغرافي للغرب نفسه، فدونك نتائج الحربين العالميَّتين الأولى والثانية، والظلم والتشريد الذي مارسوه في حقِّ السكَّان الأصليين لأمريكا وغيرها، وملايين الضحايا والقتلى من سكَّان البلدان التي غزاها الغرب الكافر، وأنهار الدماء التي تدفَّقت بفعل عملائه الذين حكموا مختلف بلدان العالم.
ثمَّ إنَّ المطَّلع على أوضاع المجتمعات الغربيَّة في زماننا هذا لا يُمكن أن ينخدع بدعوى التطوُّر المزيَّف، فالواقع يشهد أنَّها مجتمعات تغلب عليها الالتقاطيَّة، وتسودها الرذيلة، ويعمُّها التمييز العنصري والعصبيَّات العرقيَّة والطائفيَّة، ويحكمها ثلَّةٌ من الأثرياء المتغطرسين والمتكبِّرين المفتقرين إلى أدنى الفضائل العلميَّة والأخلاقيَّة، إلَّا أنَّ الشركات والمؤسَّسات الغربيَّة تخادع العالمَ وتخدِّره بالدعايات الكاذبة كجزء من المخطَّط لمشروع الهيمنة على البشر واستعباد الشعوب المستضعفة التي منها شعوب الغرب الكافر نفسها.
هذا باختصار، ولا حولَ ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم.
والحمدُ لله أوَّلاً وآخراً.